الجمعة، ١٧ سبتمبر ٢٠١٠

لقاء الوادي والصحراء

الراي بصوت مصري


بخلاف العديد من الفرق الموسيقية الشابة اختار مؤسسو فرقة "صحرا" اتجاها موسيقيا نشأ بالأساس في دولة عربية مجاورة ثم أصبح له جمهور في كل العالم.


في تلك الليلة من نوفمبر الماضي، كان حي الزمالك الهاديء في القاهرة يضج على غير العادة. مظاهرات صاخبة وعنيفة بالقرب من السفارة الجزائرية، على خلفية "المعركة" التي بدا أنها اشتعلت إعلاميا بين البلدين بسبب أحداث الشغب الكروي التي صاحبت مبارياتهما في تصفيات التأهل لكأس العالم. ولكن أيضا كان مركز شباب الجزيرة يشهد حفلا موسيقيا من سلسلة حفلات SOS التي تقدم فرقا شابة مستقلة، ومن بينها فرقة "صحرا" لموسيقى "الراي" ذات الأصول الجزائرية.
لم يكن حشد الشباب المحب للموسيقى ولا أعضاء فرقة "صحرا" بعيدين تماما عن "المعركة". فقد ظهرت قبل الحفل بعض التعليقات العدائية على ساحات الإنترنت لا تتقبل غناء "الراي" في هذه الظروف، مع بضعة تعليقات مهاجمة لمغني الفرقة أحمد عز ذي الأصول المغربية الذي ظنه البعض جزائريا!
وقبل أن تبدأ الفرقة عرضها أصر أفرادها في مزيج من الجد والمزاح على التأكيد أنهم جميعا مصريون وأنهم سينظرون في أمر استمرارهم في غناء موسيقى "الراي" بعد ما حدث!
حتى هذه اللحظة لا تزال فرقة "صحرا" تقدم أغانيها الخاصة مع أغاني "الراي" الشهيرة في اثنين من أشهر النوادي الليلة في وسط القاهرة، وخصص أحدهم للفرقة فقرة ثابتة منتصف ليل الخميس، أكثر الليالي إقبالا.
تبخرت آثار "المعركة الكروية" إلا قليلا، واستمرت مسيرة "صحرا" في تقديم موسيقى "الراي" على مسارح المراكز الثقافية وبعض النوادي الليلية ولقى ألبومها الأول الذي أطلق في إبريل 2009 وحمل أيضا اسم "صحرا" نجاحا معقولا.

أكثر من تسع سنوات مرت على بداية مسيرة "صحرا" سنة 2000 وهو ما يعني أن مغامرة اختيار موسيقى "الراي" تحديدا لتمثل خط الفرقة الأساسي كانت مغامرة ناجحة. بخلاف العديد من الفرق المستقلة الشابة التي تختار اتجاهات موسيقية واسعة وغربية بالأساس مثل الجاز والروك والراب، اختار مؤسسو "صحرا" اتجاها موسيقيا نشأ بالأساس في دولة عربية مجاورة ثم أصبح له جمهور في كل العالم.
يقول أحمد عز، مغني الفرقة، أن فكرة تأسيس "صحرا" كانت فكرة مشتركة لسعيد عبد الرحمن المغني السابق للفرقة وأحمد الوحش، عازف الكيبورد. وأطلقوا على الفرقة اسم "صحرا" وهو اسم أغنية للشاب خالد.
اشتهر سعيد عبد الرحمن، مغني الفرقة، بلقب "سعيد راي" لشغفه بغناء "الراي" الذي تعلق به وتعلمه أثناء إقامته لفترة في ليبيا وسط مجتمع من الجزائريين.
يؤرخ لبدايات ظهور موسيقى "الراي" في ثلاثينيات القرن الماضي في غرب الجزائر، وتحديدا في ميناء أوران، الذي تعرض تاريخيا لموجات من التأثير الأسباني والفرنسي والإفريقي. وكان "الراي" في البداية أسلوب أداء البدو لما يعرف عندهم بـ "الملحون" أي الشعر الملحن.
عرف في البداية على يد مغنيات أطلق عليهن "الشيخات" وكانت معظم كلماته تدور حول المديح الديني والشكوى من مصاعب الحياة ومشكلات المجتمع. ولكنه فيما بعد تطور في مدينتي بلعباس ووهران وابتعد عن "الملحون" ليمزج تأثيرات موسيقية عديدة أوروبية وأفريقية بفضل الآلات الحديثة. وأصبح الأسلوب الغنائي المفضل لتعبير الشباب عن مشاكلهم وهمومهم وأيضا عن تمردهم وجموحهم وارتبط لقب "الشاب" أو "الشابة" بمغني "الراي".

من الجزائر إلى فرنسا
"ولكن الميلاد الحقيقي للراي المعاصر الذي شد أنظار العالم كان في فرنسا وبمشاركة فرنسيين" يقول أحمد عز أن "الراي" في بداياته ربما كان أسلوبا تراثيا محببا لكن الغناء كان طابعه بدويا والموسيقى كانت فقيرة: "كانوا يعتمدون بالأساس على نغمات الـ" رتم بوكس" Rythem Box التي يقدمها جهاز الكي بورد فكانت الموسيقى فقيرة وغير جذابة. هناك أغاني جميلة قدمت على هذه النغمات ولكن التحول الحقيقي كان مع الشاب خالد في فرنسا عندما امتزج صوته المميز مع أغاني تراث "الراي" وألحانه التي يحفظها مع التكنولوجيا الحديثة والإنتاج الموسيقي الفرنسي الذي وظف ذلك في قالب جذاب أبهر العالم".
انتقل الشاب خالد للحياة في فرنسا عام 1986، وتعد مسيرته هناك من المنعطفات الرئيسية لتاريخ موسيقى "الراي". فكان صدور ألبومه "خالد" عام 1992 هو الحدث الأكثر لفتا للانتباه إليها. ونجاحه هو الذي مهد الطريق لآخرين مثل الشاب فاضل والشاب مامي ورشيد طه لكي يصبحوا نجوما عالميين ولكي تصبح موسيقى "الراي" مسموعة في معظم أنحاء العالم.
وقد تعرف أحمد عز، الذي يدرس في كلية التربية الموسيقية قسم غناء أوبرالي، على موسيقى "الراي" مع أغاني الشاب خالد، الذي يعتبره "ملك الراي". ولكنه كان قبلها يميل لأساليب غنائية يراها مقاربة مهدت لاهتمامه بغناء "الراي": " انجذبت للأسلوب التراثي المطرز والغني بالتفاصيل مثل الذي يقدمه صباح فخري وناظم الغزالي ونور مهنا، وغناء "الراي" يميل لكثرة العُرب أوالتلوينات الصوتية، كما انجذبت للأسلوب التونسي مثل الذي يقدمه لطفي بوشناق، وهو يتميز بالتسلسل النغمي الأسرع من الأسلوب الشرقي التقليدي، بالإضافة للاهتمام بالموسيقى التركية التي تمزج الأسلوب الشرقي بالموسيقى الغربية التي تطورت تكنولوجيا".
بالإضافة إلى ذلك هناك أسلوب مميز في استخدام الحلق والأنف يحبه عز عند مشايخ الطرب التراثيين ووجد أسلوب "الراي" قريبا منه. كل هذه الملامح وجدها عز في موسيقى "الراي" الحديثة ممتزجة بتأثيرات موسيقية حديثة وجذابة تستفيد من كل الاتجاهات الموسيقية مثل الجاز والبلوز والروك، فجعلته مهتما بغناء "الراي". لا يعتقد عز أن أصوله المغربية سبب لاهتمام ب"الراي"، فوالده ووالدته عاشا كل حياتهما في مصر وكذلك هو. يضيف:” إلا لو كان ذلك بسبب الجينات، ربما كان لذلك تأثير!”.
وفي الفترة من 1997 إلى 2004 غنى عز مع فرقة "شرقيات" التي يقودها الموسيقي فتحي سلامة، وهي واحدة من أقدم وأشهر الفرق المصرية التي تقدم الجاز وتمزجه بتيمات تراثية من ثقافات مختلفة. مع "شرقيات" غنى عز بعض الموشحات والمواويل الطربية بالإضافة لأغاني "الراي"، كما غنى مع فرق مستقلة أخرى منها "فلامنكا".
بعدما رحل سعيد عبد الرحمن أو سعيد راي مغني فرقة "صحرا" إلى خارج مصر، انضم عز إلى الفرقة وأصبح مغنيهم الأساسي وسجل معهم أغاني ألبومهم الأول.
“لا يزال جمهورنا هو جمهور الشباب الذي يتابع الفرق المستقلة وليس الجمهور الواسع الذي يتابع الموسيقى التجارية" لا ينكر عز أن التسعينات شهدت رواجا لأغاني "الراي" وسط الشباب، إلا أنه يعتقد أنها كانت لحظة خاصة وهناك أسباب تحول دون المزيد من الانتشار التجاري لها.
“رغم ثراء وجاذبية أسلوب "الراي" وتقاطعه مع التراث الشرقي إلا أنه يسير في اتجاه معاكس للموسيقى التجارية أو البوب التي تميل للبساطة في الأداء الغنائي والاعتماد على الكلمات" كما أن البعض تعامل مع "الراي" كتقليعة جديدة وغريبة مثلما فعل أحمد آدم في فيلمه "فيلم هندي" الذي ظهر فيه البطل حلاقا يحب غناء "الراي" في الأفراح ويواجه دهشة وسخرية الجمهور أحيانا. يعتقد عز أن الهدف الرئيسي كان منح بطل الفيلم لقب"شاب" التي تميز مغني "الراي" ليصبح الشاب "سيد" أو "بطل" مثل الشاب خالد والشاب مامي.
أما النجوم الجماهيريون، فقد استغلوا لحظة بروز "الراي" أيضا وقدموا أغاني مشتركة معهم. فكانت تجارب عمرو دياب وخالد في "قلبي" في ألبوم قمرين وسميرة سعيد مع مامي في "يوم ورا يوم".
يضيف عز أن أسلوب موسيقى "الراي" تم الاستفادة منه حتى قبل ظهوره كموضة :”في أغنية "روحي تروح" لعلي الحجار في الثمانينات تم استلهام لحن زويت رويت من الفلوكلور الجزائري لكن تم إبطاء التمبو قليلا. كما استلهم عمرو دياب أسلوب "الراي" في لحن وتوزيع أغاني "حنيت" و"لو عشقاني" وغيرهما".

ما يقوله "الراي"
يعتقد أحمد عز أن مدى ألفة كلمات أغاني "الراي" لها دور أيضا في انتشارها:”أغاني "الراي" التي انتشرت إما كانت ذات إيقاع جذاب راقص مثل "ديدي" لخالد أو كانت ذات كلمات مفهومة وقريبة مثل "عيشة" و"عبد القادر" و"انسي انسي" ولكن اللهجة الجزائرية تقف أحيانا عائقا من التفاعل مع روح الأغنية".
يروى عز أنه اهتم أكثر بأغاني "الراي"، قبل أن يبدأ غنائها، عندما تعرف على معاني كلماتها. كان ذلك بسبب صدفة عرفته بصديق درس في مدارس فرنسية مع جزائريين، وعندما لاحظ اهتمام عز بموسيقى "الراي" شرح له معاني كلمات الأغاني ونطقها الصحيح. ساعتها لاحظ عز مدى جرأة وتميز كلمات "الراي" بالإضافة لموسيقاها.
كلمات "الراي" شهدت تحولا مهما في السبعينات وسببت معركة اجتماعية وثقافية في الجزائر استمرت حتى التسعينات. فقد شهد كورنيش وهران وملاهيه وأعراس منطقة غرب الجزائر تحول موسيقى "الراي" إلى كلمات غاية في الجرأة والجموح والتعبيرعن التجارب الجنسية والتغني بالخمر والمخدرات مما جعلها محط جدل اجتماعي وانتقاد الأسر المحافظة.
ومع نمو الاتجاهات الإسلامية واجه بعض مغنيي "الراي" تهديدات بالقتل فهرب كثير منهم إلى فرنسا، والذين ظلوا في الجزائر عاشوا مهددين حتى شهدت التسعينات مقتل الشاب حسني في أوج شهرته.
يعتقد عز أن اسم "الراي" يعني "الرأي" لأن ذلك الأسلوب الموسيقي كان مرتبطا بالتعبير الحر والجريء عن الموقف: "في أغاني الراي تعبير حسي عن الحب و ذكر لتفاصيل حياة الشباب المليئة بالمتع والتجارب مثل (الليلة تيلي كحول وتيجي) أي هاتي الخمر وتعالي. بعض الأغاني تروي تجربة السجن بعد الاعتقال بسبب جريمة. وبعض الأغاني فيها بعض العنف، فقد يهدد حبيب حبيبته التي هجرته بالقتل (تستاهلي مني الرقبة تقطع)”.
هناك تفسير آخر لمسمى "الراي"أنه بسبب انتهاء أغاني الراي القديمة بالمقطع الصوتي" يا رايي، و"الراي" في العامية الجزائرية معناها أقرب للقرار والاختيار، وبالتالي يعبر المقطع الصوتي عن الحيرة أو الندم والتحسر.
غنى أحمد عز مع فرقة "صحرا" خمسة من الأغاني الجديدة الخاصة بهم. في بعضها حاولوا التوفيق بين موسيقى "الراي" بشكلها المميز مع كلمات نمطية نوعا ما باللهجة العامية المصرية مثلما في "سهران وياكي"، وفي أغاني أخرى مثل "حلي الباب" كان هناك مزج بين "الراي" والروك على كلمات باللهجة الجزائرية ذات طابع غير نمطي، يطرد فيها حبيب حبيبته قائلا أنها لو كانت نسيت ما فعلته فهو لم ينس.
يؤكد عز على أن أهم عوامل نجاح فرقة صحرا المستمر لأكثر من 9 سنوات هو أن الفرقة تستلهم تراث "الراي" وأسلوبه الثري وفي نفس الوقت يمكن للتجربة أن تنفتح على كل الاتجاهات الموسيقية وتمزج بينها ويمكنها أن تتنقل بحرية بين كل أنواع الكلمات، تماما كما كان "الراي" دائما مزيجا مبدعا ومدهشا من تيمات تنتمي لثقافات مختلفة.


نشر في "باب المتوسط" سبتمبر 2010

هناك ٤ تعليقات: