الثلاثاء، ٤ أغسطس ٢٠٠٩

غنا الراكبين "رابع ورا"



أسلوب الراب قطع الرحلة من شوارع نيويورك إلى محافظات مصر، ليحمل الأصوات التي لا التي تنوي أن تنمق كلامها وتجمله، ولا تنوي الانتظار طويلا لتستأذن في أن تقول ما تريد أن تقوله في قوة وسرعة وفي سخط أو بهجة صاخبة.

"بتاع العرقسوس معدي جنبه عربية نص نقل/ قدام محل عربية القصب/ الناس مش عارفة تعدي الشارع من الزحمة/ كلاكسات خرمت وداني .. عاوز أوصل لبتاع اللحمة/ مين قال لك إني حران لأ أنا بس مكتوم شوية.. ميكروباص مليان بالناس/ أنداس لو مش مركز/ انا لامح عيل صغير كده من كتر الخنقة عجز.. سواقين التاكسيات مش طالبة معاهم يقفوا لحد/ الغبار اللي في الجو بالعوادم اتحد .. طوابير العيش مزحومة ناس فيها بتقطع بعض/ صوت الونش اللي بيهد بيفكرني بصوت الرعد"
محمد أسامة، الذي كتب ولحن وغنى هذه الكلمات بأسلوب الراب، يقف الآن أمام جامعة المنصورة في عز الظهيرة والزحام والضجيج – تماما كما يصورهم - يحاول إقناع تاكسي وراء آخر بأن يقله إلى شارع عبد السلام عارف في منطقة "السلام" الشعبية. أخيرا يقتنع واحد بعد تأكيد محمد: "السلام على الشارع من بره". ينزل عند ناصية قريبة ويشير وهو يتجه إلى منزله إلى سلك معلق يمر من فوق المنازل المحيطة ويقول :”دي وصلة الإنترنت بتاعتي". تنتهي الوصلة في غرفته الخاصة الصغيرة عند الكمبيوتر الخاص به، والذي كان نافذة أطل منها محمد على عالم موازي وافتراضي أصبح فيه "مودي راب" واحد من أشهر فناني الراب الشباب المستقلين.
يؤرخ لظهور موسيقى الراب في حقبة السبعينات، في نوادي نيويورك وشوارعها مع الأمريكيين من أصل أفريقي، البعض يردها لجذور أفريقية باعتبارها قريبة من الترنم السريع بالشعر على الإيقاعات. ولكن احتاج الأمر ربع قرن حتى تظهر في مصر. هناك خلاف بين الشباب المهتمين بالراب على منتدياتهم حول أول فرق الراب ظهورا ، ولكن الأغلبية منهم تؤكد على أن عمر بفلط الشاب السكندري وفرقته واي كرو هم أول الفرق المصرية المستقلة Underground وتأسست في أواخر التسعينات، بينما كان فريق MTM هو أول فريق يصدر ألبوما تجاريا عام 2003 تحت عنوان "أمي مسافرة".
غير المهتمين بالأمر، ربما لاحظوا مؤخرا ازدياد عروض الراب في ساقية الصاوي، أغنيات راب في أفلام سينمائية لنجوم شباب مثل أغنيات أحمد مكي في "دبور" و"طير إنت" وأحمد الفيشاوي في "ورقة شفرة" وحتى اختيار المخرج الكبير يسري نصر الله لأغنية راب "الحياة لو لعبة" لفرقة "آرابيان نايتس" لتكون ضمن فيلمه "جنينة الأسماك". ولكن من يقترب من العالم الموازي أو الافتراضي الذي يصنعه الشباب بالأساس يجد أن موسيقى الراب أصبحت عنوانا على مجتمع شبابي مستقل أو"تحت الأرض" له فرقه ونجومه وجمهوره بل ومعاركه أيضا.
منتديات الراب على الإنترنت هي أرض هذا المجتمع، الذي كانت نواته قبل انتشار استخدام في الإنترنت أفراد ومجموعات من الشباب الذين جذبتهم موسيقى الراب مع الفرق الأمريكية، وكان منهم محمد أسامة أو مودي راب الذي بدأ عام 1998 يهتم بالراب و كتب أغاني وسجلها لنفسه على شرائط كاسيت، كان يصنع الإيقاع بصوته – يضم كفه ويضعه على فمه ويصنع الإيقاع بالطريقة المعروفة بالـ Beatboxing- ثم تطور الأمر مع بداية عزفه على الأورج واستخدامه ولكن كانت النقلة في 2001 عندما اشتري له والده كمبيوتر وأصبح بإمكانه الاتصال بالإنترنت، يقول محمد: “كت فاكر نفسي لوحدي مهووس بالموضوع ده، لكن دخلت على الإنترنت لقيت عالم راب، فرق في الإسكندرية ومنتديات عليها تسجيلات لشباب من كل مكان، ومجتمع راب عربي كبير جدا في فلسطين والمغرب".
في التسعينات بدأ البعض يشكو من اهتمام الشباب بتقاليع ثقافة الهيب هوب hip hop التي يعد غناء الراب أحد جوانبها بينما تشمل أيضا ارتداء الملابس الواسعة "النيجر" المشابهة لملابس الأفارقة الأمريكييين، بالإضافة لـ"البريك دانس" Break dance – هل يمكن ترجمته إلى الرقص المنطلق ؟ - ولكن ماحدث أنه انطلق وانتشر في النوادي الليلية وحفلات الشباب.
الاهتمام بالهيب هوب والراب بدأ مع شباب الطبقة الوسطى المهتمين بالموسيقى الغربية، ومحاولاتهم الأولى محاكاة للفرق الأمريكية، كثير منهم يغني بالإنجليزية وبعضهم كان يصطنع لكنة أجنبية حتى وهو يغني بالعربية.

"إحنا جيل ساقط مهبب/ بنسقط البنطلون ومافيناش واحد مؤدب/ وبنقلب فلوس الدرس ونروح نشتري حشيش/ وكمان طلباتنا كتير تكاد ما بتنتهيش / وبنخرج مع بنات ونلبس حظاظات/ شباب تعبان في مخه غاوي مخدرات.. وبينتقدوا أغاني الراب/ والراب ده فن واطي ومغني الراب في نظرهم بيبقى عجلاتي ( صوت ينادي: واد يا بلية !)"

هذه أغنية مشتركة بين "مودي راب" و "بيج جيمي" أومحمد جمال أحد أعضاء فرقة "جنود الإسماعيلية" Ismailia soldiers، اسمها "إنت بتعمل كده" وهي محاكاة ساخرة لاتهامات الآباء لشباب الهيب هوب، وفي مقطع منا يذكران آبائهما بتقليعات السبعينات التي لامهم جيل الأجداد عليها. غناء الراب بدأ على الهامش، في شوارع الأحياء الفقيرة في نيويورك أو في نوادي الرقص حيث يرتجل فتى الدي جي بينما يوقف قليلا الموسيقى الراقصة ليقول ما بدا له في سرعة.
بساطة التقنية التي لا تحتاج إلا إلى إيقاع وجمل لحنية قليلة تبدو مغرية لمن يريد أن يرتجل ويعبر بسرعة وقوة وسخط، وكثافة الكلمات في الراب واقترابها من الكلام العادي- مقارنة بالتكثيف والاختزال في القصائد الغنائية - تلتقط كالمغناطيس كل الأفكار والتعبيرات التي تشغل أذهان الشباب لتعرضها في وضوح. عندما تتكلم كثيرا تقل قدرتك بنفس الدرجة على ضبط وتنميق كلامك، وربما تضطر للحشو واستدعاء الأفكار النمطية والتقليدية. ولهذا تجتمع في كلمات أغاني الراب نزعات التحرر والتمرد والهجوم والسخرية على السائد، وأحيانا تمتليء بلغو فارغ وتنتهي الأغنية بدون أن يقول المغني شيئا حقيقا سوى تعريفه بنفسه ودعوته الناس للاستماع إليه او قوله أنه لا يهتم بهم سواء سمعوه أو لا- وهذه التيمة تشغل ربع أغاني الراب تقريبا – وفي أحيان أخرى تتلبس أغاني الراب نزعات خطابية "تعليمية وتربوية" تتحدث عن الإدمان أو أطفال الشوارع أو انتقاد سلوك البنات وملابسهن !
يذكر محمد أسامة أنه بدأ بداية لا يحبها كثيرا، ويقول أنه سجل بعض أغان لا تقول شيئا، كان يخشّن صوته ويحاكي طريقة مغنين أمريكيين. ويضيف أيضا أن شباب آخرين من المنصورة وأماكن أخرى فعلوا نفس الشيء :”كانت أغاني للهيصة والتنطيط في الحفلات الخاصة، فيها أمركة وكلام عن الجنس والمخدرات وشتائم ومعظمه كلام مش بتاعنا خالص".
ربما يندهش البعض عندما يعلم أن مودي راب سجل حتى الآن أكثر من 120 أغنية يضمهم موقعه الخاص Modyrap.net الذي يضم أيضا منتدى لمحبيه وصل عدد أعضائه إلى 1500 عضوا.
يقول مودي : "أول مجموعة أغاني سجلتها وأصدرتها معا كألبوم على الإنترنت اسمه "إزاي" وضعته على مدونة قبل أن أنشيء موقعي فوجئت بالاهتمام والتفاعل من شباب محب للراب وفوجئت أيضا بمستوى الجدية في موسيقى وكلمات الراب الفلسطيني. بعدها شعرت بجدية وأهمية الموضوع وبدأت أجتهد في التوزيع الموسيقى واختيار الكلمات التي تناقش موضوعات جادة مثل مشاكل الشباب في التعليم والمعيشة والبطالة والسياسة”.

“الكلام اللي أنا قلته يتفهم بكذا سكة/ لو الكلام بفلوس أنا المجمد وإنت الفكة/ السياسة في كل حاجة حتى جوه الكليات/ لو كان هروبك من الواقع ده فعل اتقاء الذات/ الصنف يزيد/ أكيد/ من خوف الناس من النظام ...لو ناوي تقول لأه/ لو قد كلامك/ استنى العذاب أو نفض ليا بسرعة قبل ما ييجي على دماغك "
في إبريل 2008 كانت أغنية "لعبة السياسة"- مع أغنية "مين فينا" - لمودي راب وكأنهما نموذجين للنشيد الرسمي للإضراب العام الذي دعا إليه شباب ومدونون على الإنترنت. وانتشرت الأغنيتان على مواقع ومدونات ومجموعات الفيس بوك الداعية للإضراب. كتب مودي راب وغنى العديد من الأغاني السياسية التي عبر فيها عن رأيه بدءا من مهاجمة التعذيب وانتقاد التفاوت الطبقي وحتى الإشادة بصدام حسين الشهيد في رأيه. كما خاض مع رابرز مصريين معركة غنائية ضد هجوم رابرز سعوديين على مصر فيما عرف بمعركة "وكر العصفور".
الأغاني السياسية أقلقت أهله وكادت أن تسبب له بعض المشاكل عندما غناها في الجامعة، إلا ان أغانيه التي بدأت تتجه إلى جدية ملحوظة – رغم عدم افتقادها للمرح - غيرت نظرة أهله وأساتذته له . وتعبير مودي الجاد عن القضايا التي يتناولها يبتعد عن تفكير النخبة ويقترب من التعبير الشعبي البسيط رغم عدم افتقاده اللمسة الشخصية لمنتجه.
أنماط فنية أخرى ربما يعبر بها شباب يعدون "نخبة" ذات أفكار مختلفة عن السائد، ولكن الراب ليس كذلك، فبرغم أنه يبدو وكأنه النمط الموسيقى الأقل انتشارا والأكثر بعدا عن الموسيقى العربية ولكن لا يوجد نمط آخر يشهد نفس الكثافة في الفرق المستقلة التي تنتج أغانيها الخاصة بهذا العدد وبهذه السرعة ولها هذا الجمهور الخاص على منتدياتها. فرق تتشكل من مختلف محافظات مصر، من القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والمنصورة وأيضا فرقة من النوبة.
الاتجاه لتمصير الراب الذي يلاحظه البعض في أغاني أحمد مكي بدأ مبكرا مع فرق الشباب المستقلة. فبدلا من اللكنة الأجنبية ولزماتها، يغني مودي كما يتكلم، ولا يخفي لكنة خفيفة ريفية، ويبدأ أغانيه بطرق مبتكرة. مثلا أغنية "لعبة السياسة" تبدأ بمودي يطلب من القهوجي واحد خروب وأن يرفع صوت التليفزيون قليلا. وتبدأ أغنية "كلمة بريئة" هكذا: "مراسلكم من شوارع مدينة المنصورة .. مراسل قناة "رابع ورا" الإخبارية … "
“رابع ورا" هو اسم الفرقة التي شكلها محمد أسامة وهيثم محفوظ وأماني وأصدروا معا في 2009 ألبوم "موال الحرية" الذي يمزج بين غناء الراب والغناء الشرقي على موسيقى شرقية وغربية ويمزجون كلماتهم بكلمات رباعيات صلاح جاهين في أغنية "موال الحرية" وفي أغنية "إيه العبارة" يمزجون الراب بموسيقى سيد درويش.
هيثم محفوظ مدرس موسيقى شاب، يعزف العود ويلحن ويقدم حفلات لأغنياته الخاصة في الساقية كما شكل لفترة فرقة "صبا". يقول هيثم أنه لا يحب الراب كثيرا ولكنه فوجيء بالراب ذي الروح المصرية كما يغنيه مودي راب، وعندما كان يحضر لأغنية ضمن مسرحية لإحدى قصور الثقافة استمع إلى أغنية له واندهش من أن من قام بهذا التوزيع الموسيقى لم يدرس الموسيقى وقام به على كمبيوتر في غرفته الخاصة. فقرر التعاون معه ولحنا ووزعا أغنية للمسرحية تمزج الغناء الشرقي بالراب.
أما أماني فزميلة محمد أسامة في الجامعة، تمثل وتغني في فرقة الجامعة واجتذبتها موسيقى الراب فاشتركت معهم لتكون واحدة من بنات قليلات جدا في مصر يجرؤن على خوض تجربة الراب التي تبدو ذكورية جدا في أسلوبها وكلامها بالإضافة لتحملها نظرة الناس لـ" شباب الراب”.

"عايشة حياة خنيقة لو من هذا المنطلق/ انا باتكلم عن فلسفتي مش عن فكر مختلق.. الجامعة والدراسة أنا مش مقتنعة بالتعليم/ تنويم .. لو مغناطيسي ما قداميش غير التبليم.. أمشي في الشارع متبهدلة/ خلاص بقى عصر الإفيهات/ الشباب التافه كله مقضيها إشتغالات.. المحلات/ هدوم كتير مش من اللي انا عايزاها/ كارهاها/ محفظتي امبارح أكتر من واحد عزاها... شفت خناقة بين بياع العرقسوس وبين سواق عربية نقل وواد صغير متبهدل راكب سرفيس .. رمسيس! .. أف! زحمة وحر وخنقة دي حياتي الطبيعية/ محتاجة حد يفهمني يخلصني من الروتينية"
غنت أماني هذه الكلمات في أغنية "كلمة بريئة"، وبصوتها النسائي كسرت روتينية الصوت الرجالي في الراب المصري، واضطر محمد أسامة وهيثم محفوظ للخروج من غرفتيهما حيث يقومان بتسجيل الأغاني وتسجيل غنائهم المشترك على لاب توب في مقر فريق المسرح في جامعة المنصورة.
ولكن تجربة أماني مع الفرقة والراب انتهت سريعا عندما تمت خطبتها ولم يعد ممكنا "اجتماعيا" أن تكمل الطريق معهم. يقول هيثم :"من المحتمل أن نبحث عن صوت بناتي آخر" ويضيف ضاحكا "الفرقة من يومها مزنوقة زي اسمها. انا اقترحت اسم (رابع ورا) . الشخص اللي بيركب رابع ورا في الميكروباص يا إما بيبقى مزنوق أو بيزنق الناس التانية – دايما فيه حالة زنقة".
يقول محمد أسامة :"وجودنا في المنصورة أيضا مشكلة، لو كنا في القاهرة لكنا في طريقنا أسرع عشر مرات عما هو الآن".
ولكن لأن شباب آخرين افتتحوا مركزا ثقافيا هو "مركز الحياة للإبداع والثقافة"، أتاح ذلك لمودي راب للغناء على مسرح في القاهرة مع فرق أخرى تعرض لأول مرة في حفلة "غيّر الموجة" في إبريل الماضي. كما انتبهت جمعية الجزويت لحركة الراب النشطة في الإسكندرية وأقامت حفلا للعديد من مغنيي وفرق الراب من مختلف المحافظات في يونيو الماضي.
رغم ان اسم الفرقة "رابع ورا" لكن الألبوم اسمه "موال الحرية" ويشهد على طلاقة تعبيرهم وجرأتهم في تقديم ما لديهم بإمكاناتهم المحدودة بدون انتظار الإذن أو الفرص الإنتاجية. كما يعني أن رحلة موسيقى الراب قد قطعت رحلة لا بأس بها في مصر لكي تصل إلى التتناغم مع سيد درويش ورباعيات صلاح جاهين.



نشر في الشروق الثلاثاء 4 أغسطس 2009

المزيد