الجمعة، ٢٦ يونيو ٢٠٠٩

"كأننا نعطيك أجرك وكأنك تؤدي عملك"

شباب الأطباء في الامتياز والتكليف والنيابة


متاعب بداية الطريق قد تجمع الأطباء وربما تدفع بعضهم لرفع أصواتهم احتجاجا، لكن سرعان ما ينشغل كل منهم بطريقه الفردي للتواؤم و الخروج من مرحلة عنق الزجاجة، لتظل نفس المتاعب في طريق الآتين بعدهم ويعاني منها النظام الصحي والمجتمع كله.

محمود خليفة الآن أمام خيار صعب. هو طبيب شاب حديث التخرج أتم لتوه سنة الامتياز التي رتب فيها أموره بشكل ما ليتوفر له الوقت ليعمل في شركة لإنتاج الأفلام الوثائقية. ولكن بعد سنة الامتياز جاءه خطاب التكليف، وعليه أن يتفرغ تماما للعمل في وحدة صحية بإحدى المحافظات مقابل أجر زهيد لا يمكن مقارنته بأجره في شركة الإنتاج. ولكن لأنه أقدم على الخطوبة وعليه سداد أقساط شقة ومسئوليات مالية، فهو يؤجل ذهابه إلى التكليف ويفكر أي الطريقين يسلك.
في الطريق الأول عليه أن يقبل التكليف لمدة سنتين مقابل مرتب 200 جنيها شهريا، ثم يعين بعدها طبيبا نائبا في مستشفى حكومي لمدة 3 أو 4 سنوات بمرتب لا يزيد كثيرا عن مرتب التكليف، ويحاول أن يعد الماجستير لينتقل من ممارس عام إلى أخصائي لتتحسن أحواله قليلا، ولكن عليه أن ينسى تماما الاعتماد على نفسه في أمر الزواج قبل ست سنوات على الأقل.
أما في الطريق الثاني فيرفض التكليف - مما يعني استقالته من وزارة الصحة – و يظل في مهنته المؤقتة المربحة ويترك الطب.
الفرصة التي أتيحت لمحمود لكي يعمل بأجر مناسب بعد تخرجه ويبدأ في الادخار لبداية حياته المستقلة، ليست متاحة لكل شباب الأطباء. ولكنها حالة دالة: شاب أتم الدراسة التي تسابق عليها معظم الطلبة المصريين وحلموا بمستقبلها الباهر، يفكر في تحويل مساره لأن هذا المستقبل سيتأخر كثيرا مع الطب. أما بالنسبة لشباب الأطباء ممن لا تتوفر لهم خيارات أخرى، فعلى أسرهم مساندتهم لست سنوات أخرى على الأقل حتى يمروا من مرحلة عنق الزجاجة، ليأتي الدور على دفعات أخرى من الأطباء لتعيش نفس المرحلة.
لم تعد شكوى الأطباء غريبة منذ أن رفع بعضهم أصواته مع حركة "أطباء بلا حقوق" التي تطالب بإصلاح النظام الطبي وتعديل أجور الأطباء في وزارة الصحة إلى الحد الأدنى المقبول. وحتى بعد هذه الاحتجاجات، يعتقد الكثير من الناس أن العمل بالقطاع الخاص في الطب خيار متاح ومربح في نفس الوقت. ولكن ذلك يتجاهل الجانب الآخر من متاعب هذه المرحلة.
يوضح محمود: "قد يبدو خيار ترك الوزارة والعمل في القطاع الخاص سهلا في نظر الناس، ولكن فعليا شباب الأطباء في المرحلة الأولى من عملهم يحتاجون للتعيين في وزارة الصحة، لا من أجل مرتباتها ولكن من أجل أن تعلم الطب حقا، فهم ليسوا مؤهلين للعمل فعليا في القطاع الخاص بعد ست سنوات من الدراسة و 12 شهرا من التدريب في سنة الامتياز وحتى بعد سنتي التكليف".

"لا تطلب مني شيئا ولن أطلب منك شيئا "
هذه الصيغة من الاتفاق بين طبيب الامتياز ومن يقومون بتدريبه هي جزء من السبب حسب تجربة الطبيب أحمد حسان الذي يضيف "المسئول عن تدريب أطباء الامتياز هم الأطباء النواب، الذي لا يكبرونهم كثيرا، ويمرون بمرحلة صعبة مرهقة ويقيمون غالبا في المستشفيات التعليمية ويكونون في موقع المسئولية 24 ساعة مقابل أجور زهيدة". يقول أحمد حسان أن هذا الوضع يجعل معظم النواب المحملين بالأعباء غير قادرين على تحمل عبء الانتباه كثيرا لتدريب أطباء الامتياز، وفي المقابل يود طبيب الامتياز أن يتهرب من مناوباته ليحاول أن يعمل ويكسب شيئا يجعله قادرا فقط على تغطية تكلفة نفقاته الشخصية بدلا من أن يظل يطلب المصروف من والديه.
المهن التي يعمل بها أطباء الامتياز تتنوع بين العمل في مناوبات بمستشفيات أو في صيدليات أو العمل كمندوبي مبيعات في شركات الأدوية. وفي كل هذه الأعمال قد يتقاضي طبيب الامتياز مقابل مناوبة 24 ساعة خمسين جنيها وإن زادت قليلا تظل أقل من أجر الخريج الحديث من كلية الصيدلة نظرا لأن طبيب الامتياز يعمل مؤقتا، كما أنه مؤهل أكثر من خريجي الكليات النظرية للعمل كمندوب لمبيعات الأدوية. ولإتمام هذا الاتفاق يحدث عادة أن يتفق أطباء الامتياز والأطباء النواب مع رؤساء الأقسام أو الإدرايين على استيفاء الأوراق وتوقيعات الحضور.
ولكن إن لم يكن طبيب الامتياز راغبا في عقد هذا الاتفاق وأصر على حقه في التعلم، فربما يواجه تجربة الطبيب على هاشم، الذي يقول أنه أتم مناوباته كاملة في الامتياز. ولكنه في النهاية وجد نفسه يقوم بأعمال السعاة والعمال- ليس حتى أعمال التمريض- فعليه في فترة تدريبه أن ينقل أكياس الدم أو يعد أرشيفا لأوراق قسم ما أو يقوم بنفسه بإنهاء استيفاء أوراق وإجراءات إدارية، والحجة دائما أن هناك نقص في العمالة. يقول علي:"كل طبيب امتياز يعرف أنه إذا أراد أن يتعلم فعليه أن يقضي وقت تدريبه في الأعمال غير المفيدة، ويمكنه أن يأتي ليشاهد العمليات ويسأل النواب في غير هذه الأوقات".

وفي النهاية على هاشم ليس راضيا عما تعلمه في الامتياز، وأحس بذلك عندما ذهب ليقضي فترة التكليف في وحدة صحية بقرية في الفيوم ووجد نفسه مسئولا عنها بشكل كامل ومسئولا عن صحة أعداد كبيرة من الفقراء يأتون للوحدة يوميا. يقول علي :"ما يحدث أيضا أن عدد كبير من الأطباء يتحايل على التكليف ليتمكن من العمل في مناوبات في المستشفيات الخاصة مقابل أجور قليلة ولكنها ضرورية لأن مرتب التكليف ربما لا يكفي المواصلات من وإلى الوحدة". والحل الآخر كما يراه الطبيب أحمد حسان هو التكيف مع الأمر الواقع وعقد اتفاق آخر.

"كأننا نعطيك أجرك وكأنك تؤدي عملك "
هكذا يلخص أحمد حسان صيغة الاتفاق الجديد، الذي يراه خطيرا جدا. فمعظم أطباء التكليف يواجهون المرضى وحدهم بدون أن يشعروا أنهم تلقوا التعليم الكافي، وفي نفس الوقت يحسون بأنهم لا يتلقون التقدير الكافي لكي يبذلوا قصارى جهدهم لخدمة المرضى في ظل نقص في الإمكانيات والعمالة وأوضاع معيشية سيئة تسبب أوضاعا صحية متردية.
يضيف أحمد :"هذه الصفقة تستمر أيضا عند تعيين الطبيب نائبا في مستشفيات وزارة الصحة، بل تستقر أكثر لأن النائب خلال سنواته الثلاثة الأولى يقيم فعليا في المستشفى، بل ويكون عليه أن ينهى دراسة الماجستير ليكون أخصائيا، ولا يكون متاحا له أن يعمل في مكان آخر ليزيد دخله الذي لا يتجاوز في أحسن الأحوال الألف جنيه في مقابل تفرغ كامل ومجهود كبير".
في الواقع أن هذه الاتفاقات أزعجت أحمد حسان إلى الحد الذي جعلته يبتعد عنها ولكن بشكل ما أصبحت دراسة المشكلات وراء هذه الاتفاقات هي تخصصه، فهو اختار في مرحلة النيابة تخصص دراسة السياسات والنظم الطبية في قسم الصحة العامة، وهو قسم يدرس العلاقة بين الطب والمجتمع ولا يقوم أطباؤه بالتعامل مع المرضى.
يعتقد أحمد حسان أن هناك مشاكل كثيرة تسببها هذه الفترة من حياة الأطباء. فبعد هذه من المتاعب الكبيرة والحياة المؤجلة والمسئوليات جسيمة في مقابل التقدير المادي الضعيف، يخرج الأطباء إلى المجتمع بوضع متميز وإمكانيات تؤهل لهم مكسب كبير وتقدير أكبر. ولكنهم في رأيه يخرجون من هذه المرحلة منفصلين اجتماعيا، لديهم ميل للأنانية والإحساس بمسافة بينهم وبين المجتمع. فقد عاشوا الظلم وعدم التقدير لفترة طويلة والآن حان وقت أن يلتفت كل منهم لنفسه.
المشكلة الأخرى كما يراها أحمد حسان هي أن أطباء المرحلة الأولى هم من يواجهون الأعداد الكبيرة من فقراء المرضى في الوحدات الصحية والمستشفيات الحكومية والتعليمية، في حين أن الأساتذة والأطباء الكبار كثيرا ما يكونون مشغولين بعياداتهم ومستشفياتهم الخاصة، التي لا تحظى إلا الطبقة الوسطى وما فوقها فقط برفاهية العلاج فيها بتكاليف أكبر.
المشكلة الثالثة وهي التواؤم والاتفاقات المستمرة مع الأوضاع غير المرضية، سواء لمواجهة نقص الخبرة والإمكانيات أو بسبب رغبة الطبيب في زيادة دخله في هذه المرحلة، وهو ما يجعل بعض الأطباء يحاولون إنجاز عملهم وحسب- في حدود اتفاقات الأمر الواقع- وليس إنجازه بشكل مرض أو مناسب.
في مواجهة هذه الأوضاع، أحمد حسان متضامن تماما مع مطالب "أطباء بلا حقوق" ويراها حدا أدنى. ولكن بسبب هذه الأوضاع نفسها يرى أنه من المستبعد أن تنجح حركة اجتماعية بين أوساط الأطباء. فبرغم أن مطالب الحركة تمس مشكلة شباب الأطباء تحديدا، إلا إن كل واحد منهم يناضل نضاله الخاص، ووقته مزدحم ومضغوط، كما أنه اعتاد على التكيف مع الأمر الواقع مؤقتا وقبول هذه المتاعب لكي يجني المكاسب والحياة الرغدة فيما بعد.

"ليس مبررا"
من زاوية أخرى، تنظر جاين لوميل، الطالبة بالسنة النهائية بكلية الطب بإحدى الجامعات الخاص. فترى أن مطالب "أطباء بلا حقوق" مشروعة ولكن حتى نيلها فالأوضاع الحالية ليست مبررا للاتفاقات السابق ذكرها وتعتقد أن الأطباء يتحملون جزءا من المسئولية عن تردي النظام الصحي :"حتى ينالوا حقوقهم لا يجب أن يدفع المجتمع الثمن، فهنا نحن أمام صحة إنسان. كما أن وضع الطبيب حديث التخرج لا يختلف عن وضع مهنيين آخرين، بل هو يتحمل بضع سنوات قبل أن تتحسن أحواله كثيرا. والكل يتحمل مرتبات وزارة الصحة لكي يضع على عيادته لافتة بها اسم المستشفى الحكومي المشهور المعين به. لماذا لا يضحي قليلا حتى ذلك الوقت".
بعد فترات تدريب قضتها في المستشفيات، انتهت جاين إلى نفس ما يقوله أحمد حسان الأطباء يتحولون إلى مجتمع مغلق على ذاته ومنفصل عن المجتمع: "هناك ما يقال بين أوساط الأطباء وما يقال خارجه، ورأيت بنفسي ممارسات في المستشفيات لا تختلف عما أسمعه عن أقسام الشرطة: الإهانة والتهديد وإساءة المعاملة. ودائما يبررون ذلك بضيق الوقت وقلة الإمكانيات وعدم وعي الناس، بينما في الحقيقة كثير من الأطباء لا يعرفون شيئا عن الأوضاع المعيشية لغالبية المصريين. فتجد طبيبا يعنف سيدة تسكن في "الكيلو 4.5" لأنها لا تحمم أطفالها يوميا ولا تهتم بنظافتهم لأنه لا يعرف أنهم يعانون من نقص المياه النظيفة أصلا". تضيف جاين أن هناك مشكلة في التعليم الطبي الذي لا يمنح الطبيب نظرة واسعة على الحياة، حتى في أشياء يحتاجها مثل الإدارة، فبعد سنوات يشترك فعليا في إدارة وحدة صحية أو مستشفى.
جاين تتفق مع زملائها أن دراسة الطب حتى التكليف غير كافية لتعطي الخبرة اللازمة، ولكنها تستنكر أن الأطباء لا يتذمرون عادة من ذلك بل يشكون من تكليفهم في مناطق بعيدة ونائية وتقدم الطبيبات شكاوى يقلن أن تكليفهن بين أحضان جبال التيه! رغم أن واجب الأطباء، ذكورا وإناث، تقديم الخدمة الطبية لأهل هذه المناطق.
زملاء جاين من خريجي جامعتها الخاصة لا يفضلون أيضا الذهاب بعيدا ولكنهم لا يغامرون أيضا بترك فرصة التعيين في وزارة الصحة، فهي تقول أن معظمهم يقوم بعمل اتفاق ودي لتجنب قضاء فترة الامتياز في المستشفيات الحكومية. وبموجب الاتفاق يتم ترتيب الأوراق وتوقيعات الحضور بشكل ما لكي يقضي الطبيب فترة الامتياز في جامعته الخاصة لكي يحظى ببعض التعليم وفي نفس الوقت يحافظ على فرصته في التعيين في وزارة الصحة.
جاين قررت أنها ستستقيل من الوزارة لتتجنب مثل هذه الأوضاع ولأنها لا تعتقد أنها تلقت تعليما وخبرة كافية لإدارة وحدة صحية وحدها في التكليف. ولكنها ستحاول إكمال تدريبها ولو انتظرت فترة قبل تحقيق دخل جيد. ولكن يساعدها في ذلك الخيار أنها تعمل في مجال الترجمة. محمود خليفة لا زال يفاضل بين الطريقين، وأحمد حسان يعتبر نفسه الآن باحثا وليس طبيبا منتظرا فرصة أفضل لكي يعود إلى المجال الإكلينكي، بينما على هاشم الذي لم يتخذ طرقا أخرى فينتظر قضاء فترة التجنيد لكي يسافر إلى أي دولة خليجية لكي يختصر المسافة بينه وبين أول خطوة في حياته المستقلة التي بدأها أقرانه منذ سنوات.


------------------------------------------

أطباء بلا حقوق

في عام 2006 أسس مجموعة من الأطباء حركة "أطباء بلا حقوق" وقالوا في بيانها التأسيسي : " منذ سنوات عديدة ترتفع شكاوي الأطباء من أجورهم المتدنية، كما ترتفع شكاوي المرضى من الإهمال في المستشفيات الحكومية، والاستغلال في المستشفيات الخاصة، وفي كلتا الحالتين يفقد المريض الرعاية الصحية المناسبة ويفقد الطبيب الحق في الحياة الكريمة".
وحدد البيان مطالب الحركة بخصوص بتعديل أجور الأطباء في وزارة الصحة كالآتي:
- إقرار كادر خاص للأطباء بموجبه يصبح أول راتب للطبيب حديث التخرج 500 جنيها، وبدل طبيعة عمل 100% للأطباء من غير ذوي العيادات الخاصة ليصبح الراتب 1000 جنيه.
- زيادة بدل العدوى من 20 جنيها إلى 300 جنيه.
- زيادة بدل النوبتجية من 10 جنيهات إلى 50 جنيها للطبيب المقيم، ومن 14 جنيها إلى 75 جنيها لمساعد الأخصائي ومن 18 جنيها إلى 100 جنيه للأخصائي والاستشاري.
- تخفيض رسوم الدراسات العليا على أن تتحملها جهة عمل الطبيب.
-زيادة ميزانية الصحة من 3-4% من الإنفاق الحكومي إلى ما لا يقل عن 5-10% منه بحسب توصيات منظمة الصحة العالمية.

-------------------------------------------------

ساعة عدل واحدة !

"هناك بعض الأساتذة لم تتمتع أقسام المستشفى بطلعتهم البهية لأسابيع متوالية قد تمتد إلى شهر أو أكثر، ويلقى العبء كله بالطبع على المساعدين من النواب والأطباء الصغار. غالبا لا يتم العمل بشكل مرض، وبهذا لا يعاني فقط المرضى والطلبة، بل أيضا الأطباء المناوبون الذين هم في أشد الحاجة لتلقي المشورة والنصح الذي يؤثر على مستقبل حياتهم. يضاف إلى ذلك، أن الأطباء الصغار لا يجدون أمامهم سوى المُثل السيئة التي تشجعهم على إهمال واجباتهم.
الطلبة يدركون كيف تساء معاملتهم، ولكن كل احتجاجاتهم تذهب أدراج الرياح، هم يعلمون حجم المخاطرة إذا أبدوا أي مظهر للانتقاد أو الاعتراض لأن مستقبلهم معلق على خيط رفيع يسهل قطعه بإشارة إصبع".
هذا ما قاله الطبيب الإنجليزي سيسيل ألبورت، الذي عمل أستاذا للطب بالقصر العيني في الفترة بين 1937 و حتى 1943. ، في كتابه "ساعة عدل واحدة. الكتاب الأسود للمستشفيات المصرية" والذي نشر عام 1946. الطبيب الشاب على هاشم قال وهو يمد يده إليّ بالطبعة الحديثة من ترجمة الكتاب التي قام بها سمير محفوظ بشير ونشرتها دار الهلال فبراير الماضي: "تصورت أني سأجد في هذا الكتاب شيئا مختلفا، ولكن لو كتبت أنا يومياتي كطبيب شاب فلن يختلف الأمر أبدا".


نسخة PDF
نشر في الشروق 21 يونيو 2009

المزيد

الخميس، ١١ يونيو ٢٠٠٩

وقفة للضحك


روني خليل في أحد نوادي الكوميديا في ولاية ميامي

"هو فن الإشارة إلى الجوانب الغبية في حياتنا التي اعتدناها، فنتوقف وننتبه ونضحك". هكذا يرى روني خليل الكوميديان الأمريكي من أصل مصري، فن الـ"ستاند اب كوميدي"Stand up Comedy، الذي سيقدمه الليلة في ساقية الصاوي مع مجموعة من الشباب المصريين الذين بدأوا مؤخرا ممارسة هذا الفن ويرونه أعقد من سرد النكت أو التمثيل الكوميدي لنص مسبق. فهو تعبير عن موقف شخصي وزاوية نظر مميزة ترى الهزلي في الذات والآخرين والأفكار وأسلوب الحياة.

في نوفمبر الماضي، طلب مصطفى هاشم - الشاب الذي يقترب من الثلاثين ويعمل في مجال التسويق- من صديقه صاحب مطعم "لا بيسترو" في وسط البلد أن يقدم فقرة "ستاند أب كوميدي"في المطعم. ويبدو أن صاحبه يثق به وبقدراته بشكل عام لأنه وافق فورا وهو يقول له "بجد يا مصطفى! طبعا موافق" قبل أن يسأله "بس إيه هو الـ" ستاند أب كوميدي" ده، هاتعمل إيه يعني؟"
يضحك مصطفى هاشم:"في الحقيقة أنا أصلا عرفت أن هناك فن بهذا الاسم قبل شهر واحد من هذا الموقف. عندما قالت لي صديقة أمريكية أنني يجب أن أتقدم لاختبارات ينظمها فنانون كوميديون أمريكيين عرب لاختيار شباب مصريين لمشاركتهم حفل كوميدي كبير في قاعة المؤتمرات تحت عنوان "Arabs gone wild". وما أعرفه عن نفسي طوال عمري أنني شخص خفيف الدم. لذلك تقدمت، ولكنهم لم يقبلوني !". لم يوقف ذلك مصطفى، بل أخذ الأمر بجدية أكثر وبدأ يشاهد فقرات نجوم هذا الفن في أمريكا، ويجتهد في كتابة وتنظيم فقرات خاصة به ويجرب أدائها. والآن له فقرة خاصة باسمه "موزافا شو" Mozava show مرة كل شهر في مطعمي "لابيسترو" و"أفتر إيت" وفي أماكن أخرى بين الحين والآخر".
ما يفعله مصطفى في فقرته هو أنه يمسك بالميكروفون لفترة ما بين عشر دقائق إلى ربع الساعة وباختصار: يتكلم ويضحك الناس. قد يبدو ذلك سهلا أو شبيها بأشياء أخرى، ولكنه ليس كذلك. فهو لا يروى نكاتا بشكل سريع أو يغني أغاني فكاهية مع موسيقى مثل "المونولوجست" أو يقوم بتمثيل مشهد كوميدي مكتوب أو مرتجل. هو لا يملك إلا صوته المنفرد ولغة جسده يتحدث إلى الجمهور بشكل طبيعي في موضوع واحد أو موضوعات متعددة لكن مترابطة أو ينتقل ما بينها مع تداعي الكلام. يحضّر لفقرته تسلسلا مخططا Routine لكي يستحوذ على انتباه الجمهور بكلام تتصاعد طرافته و يمهد لـ"القفشة" أو Punch line التي يلقيها فيفجر المفارقة وينتزع الضحكات والتصفيق. وعليه أن يكون مستعدا للارتجال وتغيير التسلسل المعد إن حدث موقف ما في المكان أو قاطعه أحد المشاهدين معلقا أو مادحا أو مهاجما، يجب أن يكون الأسرع في تحويل الموقف إلى مزحة يوافق فيها المعلق ويستجيب له أو يدخل معه في سجال فيسخر منه أو يحول اتجاه السخرية إلى شخص أو قكرة أخرى.
مصطفى واحد من مجموعة قليلة من الشباب المصريين الذين بدأوا الاهتمام بهذا الفن. منهم جورج عزمي الفنان التشكيلي والمصمم الذي يقول عنه مصطفى هاشم أنه أول من عرفه يؤدي ستاند أب كوميدي بالعربية في مصر، معتز عطا الله خريج الجامعة الأمريكية الذي يعمل في المجتمع المدني المهتم بتطوير التعليم وبشكل حر في مشروعات ثقافية وفنية وعلا رشدي الممثلة الكوميدية التي شاركت في مسلسل "تامر وشوقية"، وشريف زاهر. وهم تحديدا من يؤدون باللغة العربية وبشكل منتظم. أفراد هذه المجموعة اشتركوا في تقديم أكثر من عرض في الساقية نظمتهم مجلة "live" كان آخرهم Live Night 6 قبل شهرين. وبالإضافة لمصطفى فإن جورج ومعتز بدأوا أيضا في تقديم فقرات في مطاعم ونواد مقابل أجر، في الغالب بسيط ورمزي ولكنهم يحرصون عليه لكي يؤكدوا أن فنهم ليس بلا قيمة أو مقابل.

سخرية مختلفة

أعمار أفراد هذه المجموعة بين أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات، وتعرفوا على هذا الفن في شكله الذي تبلور مع نجومه في الولايات المتحدة تحديدا، وطبيعة أدائهم تختلف جذريا عن أسلوب "المونولوجست"، الذي يحاول البعض أن يرجع أصول الـ"ستاند اب كوميدي" إليه. فهم مختلفون عن أولئك الفنانين المحترفين الذين الذي اشتهروا بتقديم فقراتهم في مسارح المنوعات أو في حفلات أضواء المدينة و ليالي التليفزيون، وطبيعة سخريتهم وموضوعاتهم أقرب لحياتهم وحياة جمهورهم في مطاعم الطبقة الوسطى العليا ودوائر المثقفين أو الجمهور الشاب في الساقية. فهي بعيدة عن التيمات المكررة عند "المونولوجست" التقليدي مثل سرد النكات على طريقة "مرة واحد صعيدي" أو تقليد الشخصيات أو الفكاهات الكثيرة حول الزواج ونكد الزوجات والصراع مع الحماة.
في فقراتهم حضور لحياة مختلفة فيها العلاقات بين الجنسين قبل الزواج وتعقيداتها، تفاصيل لها علاقة بالجنس وطريقة التفكير فيه، مثلما يربط مصطفى في فقرة بين التحرش الجنسي وبعض سيناريوهات أفلام البورنو التي استحوذت على خيال بعض هذا الجيل. العلاقة مع الآباء وسوء التفاهم مع الأجيال الأكبر، مثلما يشكو معتز في سخرية من عدم تفهم أمه لقراره بالتوقف عن العمل لستة أشهر من أجل كتابة رواية، وضيقها بفكرة عمله كـ"فري لانسر" ونفاد صبرها منه مطالبة إياه بأن يجد "شغلانة عدلة". السخرية من أحوال البلد من منظور الطبقة التي تخايلها دائما احتمالات الهجرة أو العمل في أوروبا أو أمريكا، كما في سخرية جورج من أننا البلد الوحيد الذي تنهال فيه التهاني على من نجح في الحصول على الفيزا لأنه "خارج بره" كأن الباقين "مزنوقين جوه"، كما يسخر من تعبيرنا عن القادم إلى مصر بأنه "نازل مصر" ويقول :"كده يبقى إحنا جوه وتحت. دي حفرة !".
في فقراتهم تظهر أيضا خلفياتهم المختلفة، جورج كفنان تشكيلي له أسلوب مميز يظهر فيه حسه الكاريكاتيري البصري، فهو يقول في إحدى فقراته أن المصريين سيتطورون بيولوجيا بسبب ما يمر بهم، وسيولد المصري في المستقبل بجيب شفاف في جبهته يضع فيه بطاقته الشخصية لكي لا يضيع وقت الضابط في اللجنة! كما أنه سيولد بكرات لاصقة في أصابع يديه وعجلات في أصابع قدميه، الأولى لكي نستغل المساحة الشاغرة على السطح الخارجي للأوتوبيس ويمكن ساعتها للمواطن أن يتشبث بأي مكان بلصق يديه، ثم تفيده عجلات رجليه في التزلج بالقصور الذاتي عند القفز من الأتوبيس فجأة عند المكان الذي يريده. ويتوقف هنا ليستدرك أن الإصبع الأكبر للقدم سيكون بلا عجلات لأنه الفرامل!
معتز عطا الله يسخر من عمله عندما يقول أنه كان طالبا كسلانا ولم يكن هناك مفر أن يقنع نفسه أن نظام التعليم هو كل المشكلة ولذلك عمل في مجال تطوير التعليم. وفي فقرة أخرى يصارح الجمهور بأنه اسكندراني ويرد على السخرية من النطق السكندريين للأفعال بفتحة في أولها مثل "طلع" بفتح الطاء ويقول: "هل يغني القاهريون في المدرسة : ذهب الليل وطِلع (بكسر الطاء) الفجر؟. ويرفع إصبعه محذرا:"كمان أحب أقول حاجة. اللي هايروح منطقة "بحري"، ويهزر ويقول :"من بحري وبنحبوه".. هاينضرب!"
مصطفى هاشم، الذي يسوّق نظما إلكترونية، يحاول تجاوز حالة القلق وسط جيله بعد انتشار قضايا التحرش، ويقول في فقرة له أنه من الواجب ابتكار جهاز "الشقطاميتر" لقياس "القابلية للشقط عند البنات"، يستخدمه الشاب ويقربه من الفتاة التي يرغب في التعرف عليها فإن زادت "قابليتها" عن 5 من 10 يمكن له أن يتقدم بلا قلق، ولو كانت أقل فإنه معرض لفضيحة بجلاجل وربما الحبس.
علا رشدي تشكو في سخرية من همها اليومي كفتاة تتعامل مع سائقي التاكسي الذين تمعن في تقليد طريقة كلامهم ومحاولة بعضهم التدخل في خصوصياتها. وفي الواقع فإن شخصية سائق التاكسي الممتزجة بالكوميديا اليومية لزحام الشارع والسيارات تحتل مساحة كبيرة في معظم فقرات هذه المجموعة.
هذا أيضا ما لاحظه روني خليل الكوميديان الأمريكي مصري الأصل، في فقرات شباب مصريين آخرين يرغبون في أداء هذا الفن. فخلال الأيام الماضية كان روني المحترف والمتخصص في مجال الـ "ستاند اب كوميدي" يحضر للحفل الخاص به والذي يقام الليلة في الساقية، بمشاركة مصطفى وجورج وعلا. وكان يختبر شبابا آخرين تقدموا ليظهروا معه. يقول روني: "طبيعي أن الأمر أكثر إلحاحا في الحياة اليومية ينعكس في الكوميديا، هذا مصدر فقراتي أيضا. فأنا أحتفظ بمسجل صوتي لأسجل كل ما ألاقيه في يومي من ملاحظات وأشياء أراها مصدرا للكوميديا، وربما كانت أصلا أحداث حزينة أو مؤسفة. وكل صباح أخصص ساعتين للكتابة وأحاول أن أرتب هذه الملاحظات والنكت وأن أضعها في سياق، وأن أستخدم المبالغة لتكون مضحكة أكثر".

خفة ظل وثرثرة
روني لاحظ أيضا أن عدم انتشار هذا الفن في مصر جعل معظم من يعرفونه هم الأشخاص الأقرب للثقافة الغربية، لذا فإن النسبة الأكبر ممن تقدموا يريدون أن يؤدوا باللغة الإنجليزية لا بالعربية، ولذلك سيضم الحفل فقرات باللغتين. ولكنه يقول أن علاقة المصريين القوية بالمزاح جعلت معظم المتقدمين أجرأ وأكثر وألفة على المسرح عكس ما يراه في الولايات المتحدة، ولكن ما يحتاجون فيه لملاحظاته كمحترف في هذا الفن هو أنهم ميالون للثرثرة، وهو يحاول مساعدتهم على تركيز كلامهم فيما يخدم ويمهد للقفشة واختصار ما لا لزوم له.
روني يتحدث العربية مع بعض الصعوبة، ويقدم عروضه باللغة الإنجليزية فقط، ورغم أن كل حياته قضاها في الولايات المتحدة فإن ملاحظاته على المجتمع المصري أو العربي أو أقلياتهما في الغرب لها حضور في كثير من فقراته، فهو يستخدمها لتفجير الكوميديا في عروضه، ففي فقرة يشكو من أن الميل للتطويل والثرثرة يجعل من الزيارة في مصر حدثا ممتدا، ويجعل إنهاء الزيارة أمرا شاقا يتطلب قياما وقعودا لأكثر من مرة لأن تذكر خبر جديد أو قصة مشوقة يعيد الزوار إلى كراسيهم، ولو انتهت الزيارة فإن المصريين عادة ما يكملونها بالكلام في التليفون لساعات أخرى لاستدراك ما فاتهم ! كما أنه يسخر من "الزواج التقليدي" بين العرب الذي يركز على فكرة مصاهرة "العائلة المحترمة" وهو ينتقد تفسير "الاحترام" هنا ويقلد أبيه وهو يقول له معاتبا على مواعدته لفتيات بدلا من الزواج مبكرا:" يا ابني المظهر ليس أهم ما في الفتاة، الأهم هو (ويشير إلى قلبه في تأثر ويضيق عينيه) ... الفلوس!"
هذه الانتقادت التي تقال بالإنجليزية على "شو تايم" يراها بعض المصريين إهانة لهم، وهناك تعليقات عنيفة على فيديوهات روني على "يوتيوب" بهذا الخصوص. لكن روني يعتبر هذا متوقعا: "الكوميديا دائما تغضب طرفا ما. وبشكل خاص فن الـ"ستاند اب كوميدي" يلمس مباشرة مناطق الغباء والهزلية في الحياة الروتينية المعتادة التي لم تعد تلفت انتباهنا، وعندما أسخر من شيء يخصك وتنتبه له فإما تغضب أو تتقبل ذلك وتوافقني وتضحك ".
يقول روني خليل أنه يحاول بعض الشيء تجنب الحساسيات الشديدة في عروضه في الدول العربية، ولذلك سيبتعد عرض الليلة عن السخرية اللاذعة في المجالات الحساسة: السياسة والدين والجنس، ولكنه يضيف :" ولأنه لا يمكنني أن أنفصل تماما عما يجري ويهم الناس. فأنا بالتأكيد سأقول شيئا عن الخطاب الأخير لأوباما". ولن يكون ذلك حساسا لأن روني يعرف جيدا أن مواطنه ورئيسه أوباما لن يغضب.



"ستاند اب كوميدي" من أمريكا إلى مصر

بدأ فن الـ"ستاند أب كوميدي" يتبلور بشكل مستقل في الولايات المتحدة، بعد أن كان مجرد أسلوب موجود في السينما أو المسرح خاصة الحديث منهم. عندما يتوقف الممثلون عن إيهام الجمهور بأدوراهم ويتحدثون إليهم مباشرة، سواء كان ارتجالا أو مخططا في النص، وهو ما يعرف بإزالة الحائط الرابع بين الممثلين والمشاهدين، ويقدمون نوعا من الكوميديا المباشرة دون الاستعانة بالدراما. كما أنه أسلوب موجود في برامج التوك شو الغربية التي يقدمها مذيعون متميزون بخفة الظل، مثل late Night show الذي يقدمه حاليا ديفيد ليترمان.
شكله المستقل الأول ظهر مع عشرينات القرن الماضي في الولايات المتحدة مع عروض الرجل الواحد على المسارح وأمام الستار قبل بدء حفل موسيقى ما، ثم تطور في الخمسينات والستينات إلى فقرات خاصة انتقلت إلى النوادي الليلية والمطاعم، وفي الثمانينات كانت ذورة انتشار هذا الفن مع انتشار "نوادي كوميديا" Comedy clubs في كافة الولايات وبشكل كثيف في نيويورك، ومنها بدأت شهرة نجوم وكتاب ومخرجي كوميديا معاصرين مثل روبن ويليامز ووودي آلان وجيري ساينفيلد. ففنان الـ"ستاند أب كوميدي" فنان شامل يكتب ويخرج ويمثل ويرتجل.
ومن هذه النوادي بدأت أيضا رحلة شهرة روني خليل الكوميديان الشاب. هو بالأساس ابن لأسرة مصرية انتقلت إلى الولايات المتحدة حيث ولد في ميامي، ودرس إدارة الأعمال والتسويق وحصل على الماجستير. ولكنه انجذب لفن الستاند اب كوميدي منذ 8 سنوات، فحاول كهاو أن يقدم عروضا في نوادي الكوميديا في ميامي ثم انتقل إلى نيويورك ليقدم عروضا أكثر ويتدرب حتى بدأ يجني بعض الشهرة قبل عامين وظهر على قناتي "كوميدي سنترال" و"شو تايم" في عروض كبيرة تركزت حول كوميديا الأقليات العرقية في الولايات المتحدة مثل عرض "حكم الأقليات" Minorities rule أو السخرية من سياسات بوش في النظام العالمي الجديد "New world order" و محور الشر "Axis of evil"، ثم انتقل للحياة في هوليوود ليصبح كوميديانا محترفا.
ليست المرة الأولى التي يقدم فيها روني عرضا في مصر، ولكنه نظّم حفل الساقية بجهده الذاتي بدون رعاة لكي يصل بهذا الفن إلى الجمهور العادي من الشباب المصري ويشجعهم على ممارسته، بدلا من العروض ذات التذاكر الباهضة التي قدمها مؤخرا أمريكيون من أصل عربي باللغة الإنجليزية، أو تلك العروض المحدودة في مطاعم ونوادي يرتادها عدد قليل من جهور وسط البلد.
--
نشر في الشروق 11يونيو 2009
PDF

المزيد

الاثنين، ٨ يونيو ٢٠٠٩

أبناء عمرو خالد يعرفون طريقهم جيدا

العمل الخيري الديني ينزل من على المنبر


اهتمام بالإعلام ورعاة وشراكات قوية وراء نجاح مشروع عمروخالد الأهم :"صناع الحياة" - تصوير: نادر العطار

بعد أربعة أعوام تقريبا سيبلغ عمر "الجمعية الشرعية" قرنا كاملا، بينما أربعة أعوام فقط هي كل عمر جمعيات "صناع الحياة". ورغم المشكلات التي قد تبعد عمرو خالد مؤسس الأخيرة عن مصر، لكن يبدو أن ساحة العمل الخيري الديني ستفسح أكثر للجمعية الوليدة التي أصبحت مؤسسة لا تعتمد فقط على حضور الداعية الشهير، ويديرها مئات المسئولين وآلاف المتطوعين الذين تقل أعمارهم عن نظرائهم في الجمعية العريقة بثلاثين عاما على الأقل.

وكأنه كان ينتظر أي فرصة للكلام .. فأسند ظهره إلى أحد أعمدة المسجد الرئيسي للجمعية الشرعية في إمبابة، الشهير بـ "جامع السنّية"، وقال بلهجة قاطعة وهو يعبث بلحيته الكثة "لم تعد الجمعية الشرعية في إمبابة كما كانت، ولم تعد إمبابة كلها كما كانت قبل خمس سنوات. كنت ترى الشباب بلحاهم الدالة على إلتزامهم والفتيات بالخمار والنقاب، الآن قل أن ترى الشباب السلفي الملتزم حقا، هناك "شباب عمرو خالد" وفتيات يرتدون "حجاب عمرو خالد"، وأنت تفهم جيدا ماذا أقصد".
انحياز الكهل الأربعيني "السلفي" واضح في انتقاده لمن يسميهم "شباب عمرو خالد"، ويخص منهم الفتيات اللاتي ينتقد اتجاههن لحجاب مكون من قطع ملابس عصرية على غطاء الرأس بدلا من الأشكال الصارمة للحجاب. ويبدو واضحا أيضا حنقه على هذا النمط من التدين الذي ينتشر على حساب النمط السلفي الذي يراه هو أكثر إلتزاما ويراه آخرون أكثر تضييقا.
الزمن الذي يذكره الكهل ، قبل خمس سنوات، كان لحظة فارقة في منحنى صعود نجم الداعية عمرو خالد عبر الفضائيات، والذي دعمه كثيرا بدعوته لقكرة مشروعات "صناع الحياة"، التي استجاب لها العديد من الشباب وأسسوا العديد من الجمعيات التي تحمل نفس الاسم.
ولكن أن يخص الكهل السلفي إمبابة بالذكر والانتقاد ، فلأن إمبابة هي المنطقة التي كانت معقلا طوال عقود للتدين السلفي، الذي انطلق بشكل أساسي من مساجد الجمعية الشرعية وبدعم كبير من أنشطتها الخيرية الواسعة، وهي التي تشهد الآن تراجعا ملحوظا لهذا النمط وصعود نمط مختلف. ولم يكن مصادفة أن تشهد إمبابة في 2004 تأسيس ثاني جمعيات "صناع الحياة" التي بلغ عددها 49 جمعية في مصر و77 جمعية في العالم العربي.

تراجع المكانة الاستثنائية
انتقاد الكهل للتغيرات الأخيرة مفهوم، ولكن انتقاده لـ"الجمعية الشرعية" التي لم تعد كما كانت، سببه المكانة الاستثنائية التي تمتعت بها الجمعية ومسجدها الكبير في إمبابة، قبل أن تتراجع.
فمن كان يمر في شارع "نادي إمبابة الرياضي"، أهم شوارع المنطقة والذي تنتهي عنده معظم المواصلات إلى منطقة إمبابة، كان سيلاحظ حتما أنه يمر من أمام "جامع السنّية". فحول المسجد الكبير كان ينتشر عدد كبير من باعة الكتب والشرائط الدينية، وباعة الملابس المفضلة عند السلفيين، مثل الجلابيب القصيرة والخمار والنقاب، بالإضافة لباعة أنواع السواك المختلفة وكذلك باعة العطور الخالية من الكحول. وفي المساء، كانت المحاضرات الدينية التي ينظمها المسجد لمشاهير الدعاة الذين يحتلون الآن شاشات الفضائيات مثل محمد حسين يعقوب ومحمد حسان وأبو إسحق الحويني، وكانت المحاضرات تشهد حضورا كبيرا يملأ الشوارع المحيطة بالمسجد، ويستغل عدد إضافي من باعة الكتب والشرائط والإسطوانات الدينية هذه المناسبة ويفترشون جوانب الطرقات. وكان معتادا مشهد الشباب الملتحي بالجلابيب القصيرة الذي يأتي من كل أنحاء إمبابة ومن خارجها لحضور هذه المحاضرات. وبخلاف المسجد، هناك المدرسة التابعة للجمعية الشرعية، والمقر الإداري للجمعية والذي يشهد عادة زحاما كبيرا عند توزيع الصدقات والإعانات التي تقدمها الجمعية، أو يشهد توافدا لفقراء يتقدمون بطلبات للحصول على مساعدات. ومن اللافت كون معظم هؤلاء الفقراء طالبي المعونة من الملتحين أو المنتقبات أو مرتديات الخمار. وهو ما فسره البعض بأنه تظاهر من المحتاجين لنيل عطف ورضا القائمين على الجمعية الذين كانوا يعظونهم إن رأوا منهم ما ينتقدون، وهو الطبيعي في جمعية دعوية بالأساس.
يشير تقرير لـ"مركز التميز للمنظمات غير الحكومية" إلى أن "الجمعية الشرعية تتساوى مع معظم الجمعيات ذات الصبغة الدينية في تسييس مجال التكافل الاجتماعي بشكل غير مباشر" ولكن التقرير يقول أن التيار الغالب في الجمعية يدعو إلى البعد عن الارتباط بالتيارات السياسية ، ولكن ذلك لم يمنع وقوع بعض الاستثناءات بسبب اتساع المساحة الجغرافية التي يمتد إليها نشاط الجمعية، وتنوع أفكار وأراء أعضائها مع حجم عضويتها الكبير. ومسجد الجمعية الشرعية في إمبابة كان من ضمن هذه الاستثناءات.
فالجمعية التي تأسست قبل 96 عاما علي يد الشيخ محمود خطاب السبكي أحد علماء الأزهر تحت اسم "الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية" واستهدفت العمل في مجال الدعوة بالإضافة للعمل الخيري والإغاثي كطريق غير مباشر للدعوة، اتخذ خطابها الدعوي خطا مختلفا يمكن وصفه بأنه أكثر سلفية ومحافظة عن التيار السائد في الأزهر، ولكنها تظل بعيدة عن الخط السلفي الجهادي أو السياسي الذي تمثله تيارت مثل "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد"، أو الخط السلفي الأقرب للفكر السعودي والذي تمثله جمعيات أخرى مثل "جماعة أنصار السنة المحمدية".
ولكن مسجد الجمعية الشرعية في إمبابة كان مركزا لنفوذ العديد من الشباب الأقرب للخط السلفي الجهادي أو للخط السلفي السعودي. ورغم أن هذه الجماعات من الشباب نشطت في العمل الخيري وساهمت في الشعبية الكبيرة للجمعية الشرعية. ومما يذكره أهل المنطقة نشاط هؤلاء الشباب في إغاثة منكوبي زلزال 1992. ولكن الصدامات التي شهدتها إمبابة بين الأمن والجماعات الإسلامية في الثمانينات والتسعينات، دفعت الأمن للضغط على الجمعية والمسجد لوضع الأمور تحت السيطرة وهو ما كان يعني تجاوز الاستثناء وعودة مساجد الجمعية في إمبابة إلى الخط الأساسي الغالب للجمعية.
ما انتهي إليه الأمر مؤخرا هو إلغاء معظم المحاضرات الدينية لكبار الدعاة، الذين وجودوا بديلا في الفضائيات، والاكتفاء بمحاضرين أقل شهرة. بالإضافة إلى نقل كل الباعة في الشوارع المحيطة بالمسجد وإخلائها تماما.
يفصح الكهل السلفي عن أهم أسباب حنقه وهي أنه كان واحدا من باعة الشرائط الدينية حول المسجد، قبل تحوله إلى العمل في مجال صناعة العطور، ولكنه يضحك وهو يقول أن مهنته شهدت نفس التحولات التي حدثت في المنطقة، حيث مثلت مبيعات شرائط عمرو خالد مصدر دخله الأول وسط تراجع مبيعات الشيوخ التقليديين. ويضيف "رغم أني لم أكن راضيا عن منهجه في الدعوة وتساهله في الدين إلا أنني كنت أبيع شرائطه لأنه أفضل في كل الأحوال من أن يسمع الناس عمرو دياب!"
الكهل رفض رفضا قاطعا ذكر اسمه، منوها أنهم جميعا – الباعة حول المسجد- لهم ملفات في أمن الدولة، ولا داعي للمشاكل.
الخوف من الأمن، لم يكن فقط من نصيب الكهل بائع الأشرطة الدينية السابق. فهذا الهاجس يسطير على المقر الإداري للجمعية، الذي يقع في مبنى مستقل عن المسجد ولكنه مثله مفروش بالموكيت ويجب أن تخلع حذائك لتدخل إلى مكاتبه لتلتقي بالمسئولين الذين يرتدون الجلاليب. ففي مكاتب إدارة فرع الجمعية بإمبابة، رفض عبد الله الشرقاوي المدير التنفيذي، الإدلاء بأي تصريح عن نشاط الجمعية إلا بعد أن يرى خطابا رسميا من وزارة الشئون الاجتماعية يسمح لنا وله بالتحدث عن نشاط الجمعية. وأضاف الشرقاوي، الذي كان مديرا في نفس الوزارة قبل خروجه إلى المعاش، أن مكتب الأمن في الوزارة يقرأ كل ما ينشر في الصحف عن الجمعيات ويراجعهم فيها، وهو بدوره لا يريد أي مشاكل.
هذا يفسر ندرة المواد الصحفية المتوافرة عن جمعية لها 350 فرعا فى أنحاء الجمهورية، يتبعهم أكثر من ألف وثلاثمائة مسجدا، ونشاطها يمتد لعشرين محافظة، وتقدر ميزانيتها السنوية بخمسة وعشرين مليون جنيه. وهي الميزانية التي تذهب في بناء المساجد ومجالات النشاط الخيري التقليدي مثل رعاية الأيتام ومساعدة الأسر الفقيرة والمعوقين وتيسير سبل العمل للأمهات المعيلات وتيسير زواج الفقيرات واليتيمات وإقامة وحدات للعلاج بأسعار رخيصة.

جيل جديد ونمط مختلف
على خلاف الجمعية العريقة الضخمة البعيدة عن الإعلام والمتوجسة منه، فإن جمعيات "صناع الحياة" كانت بدايتها عبر الإعلام. فعبر برنامج "صناع الحياة"، الذي بثته العديد من الفضائيات، وجه الداعية عمرو خالد النداء إلى "العمل من أجل استعادة نهضة الأمة الإسلامية" مؤكدا على أن الهدف الأسمى "الذي يتمثل في عبادة الله ودعوة الأرض إلى عبادة الله لن يتحقق إلا بالتفوق الحضاري". ومن خلال مشروع "صناع الحياة" دعا إلى توجيه الطاقات الإيمانية إلى تنمية المجتمع. وكان نتيجة ذلك، العديد من الجمعيات التي تأسست كاستجابة لدعوته في مصر والعديد من الدول العربية.
ثاني هذه الجمعيات كانت جمعية "صناع الحياة بالجيزة" والتي انطلقت من مقرها في إمبابة وتوسعت الآن ليصبح تابعا لها مقرا آخر في إمبابة ومقرا في كل من الشيخ زايد والعمرانية.
بقع المقر الرئيسي للجمعية عند تقاطع شارعي البوهي وعمر بن الخطاب، وهما من أهم شوارع إمبابة ويحدان المناطق الأكثر حداثة والتي يسكنها شرائح من الطبقة الوسطى، على خلاف موقع "الجمعية الشرعية" بمحاذاة المنطقة القديمة من إمبابة التي يسكنها الشرائح الأقل دخلا.
مقر جمعية "صناع الحياة" شقة واحدة في البناية، غير ملحقة بمسجد. جدران الشقة مزينة بملصقات ورسومات دينية ذات طابع شبابي، بالإضافة للوحات موضح عليها صورمن أنشطة الجمعية. الأغلبية الساحقة ممن تراهم داخل الجمعية هم من الشباب، وتحديدا الشباب الجامعي. ويتسق هذا مع كون المدير التنفيذي للجمعية المهندس أحمد طه شابا لم يتجاوز الثلاثين من عمره.
يؤكد طه" نعم، معظم المتطوعين من الشباب. بدأنا في 2004 بعدد 50 متطوعا، والآن لدينا 1000 متطوعا وقعوا استمارات وضحوا فيها مجالات مساهماتهم"
يبدو أن معدل زيادة الأعضاء يتضاعف بمعدل سريع بالمقارنة بعدد أعضاء فرع من من "الجمعية الشرعية"، الذي يبلغ في المتوسط 500 عضوا. ويجب أن يكونوا، حسب لائحة "الجمعية الشرعية"، ممن لديهم عمل يدر عليهم دخلا، وممن لديهم حصيلة من العلوم الدينية. وهو ما يضيق دائرة الأعضاء ويمنع عضوية الطلاب الذين يشكلون العمود الفقري لمتطوعي "صناع الحياة". فأحمد حجازي ،أحد متطوعي "صناع الحياة" الذي يبلغ من العمر 19 عاما ويدرس في معهد صناعي، يجيب عن سؤال "ولماذا لم تفكر في التطوع في الجمعية الشرعية مثلا؟" متسائلا: "وهل هناك شباب أصلا في الجمعية الشرعية ؟"
الطابع الشاب لـ"صناع الحياة" يظهر أيضا في نشاطها، حيث يقول طه "في مجال العمل الخيري نقدم بالإضافة للأشكال التقليدية، أشكال أخرى جديدة تركز على الارتقاء بالفرد وتنمية المجتمع" ويشير طه إلى الأنشطة المختلفة لـ"صناع الحياة" والتي تضم محو أمية الكمبيوتر ومشروع "حماية" ضد إدمان المخدرات ومشروع "المنتديات الصحية" الذي يقوم بحملات للتوعية ضد أخطار أمراض معينة أو ممارسات ضارة بالإضافة للدعوة لأنشطة بيئية.
وفي مجال التشغيل لا تكتفي الجمعية بالمجالات التقليدية الصغيرة، بل تحاول التجريب في مجالات جديدة ينجح بعضها مثل مشروع تصنيع وبيع الشمع، ويتعثر بعضها مثل مشروع الاستثمار في زراعة أسطح المنازل.
كما أنها عبر مشروع "توكل" تعقد اتفاقيات مع عدد من المصانع والشركات لتوفير فرص تدريب وعمل للشباب عبر الجمعية.
يؤكد أحمد طه أيضا على اهتمام "صناع الحياة" بمجال "التنمية البشرية" وذلك عبر عدد من المشروعات التي تتناول مهارات الاتصال والتسويق والتخطيط والإدارة. وهو ما يبدو أنه أحد عوامل جاذبية الجمعية. مها عبد الله، الطالبة بالسنة الثانية في كلية العلاج الطبيعي بإحدى الجامعات الخاصة، تعرفت على جمعية "صناع الحياة" لأول مرة لحضور دورة تنظمها الجمعية في التنمية البشرية، ثم زارتها مرة أخرى لحضور دورة في مهارات التسويق: "بعد أن تعرفت على شباب الجمعية، دعوني للتطوع معهم، وكانت فرصة رائعة، فبالإضافة للمشاركة في عمل الخير اكتسبت خبرات جديدة من خلال المشاركة في أنشطة مختلفة منها مثلا تنظيم معارض الملابس في القرى والأحياء المعدمة".وتلخص هبة حسنين الأمر قائلة : " ميزة "صناع الحياة" أنها بخلاف الجمعيات الأخرى تصل للشباب وتدعوهم ولا تنتظرهم، سواء عبر برامج الأستاذ عمرو خالد أو عبر أنشطة الجمعيات".

تشترك "صناع الحياة" مع "الجمعية الشرعية" في الاعتماد على تبرعات أعضائها والمتعاطفين، ولكن بينما تعتمد "الجمعية الشرعية" على تبرعات تجار ورجال أعمال من المقربين للجمعية ومن أصحاب المكانة والوجاهة الاجتماعية في مناطق فروع الجمعية، فإن "صناع الحياة" تبدو أكثر حداثة وهي تحظي بدعم رعاة من مؤسسات صناعية واقتصادية كبرى. فمن ضمن رعاة "صناع الحياة" كبرى شركات صناعة السيراميك وشركة كبرى تعمل في مجال إنتاج الأجهزة الكهربائية بالإضافة لإحدى شركات المحمول.

بعيدا عن الوعظ
"صناع الحياة" يشتركون مع "الجمعية الشرعية" في وجود الدافع الدعوي وراء العمل الخيري أو التنموي، ولكن يلفت المدير التنفيذي لصناع الحياة أنهم يمثلون نموذجا أكثر انفتاحا من الجمعيات الدينية الأخرى، فهم لا يشترطون الالتزام الديني للعضوية والتطوع، ولكنه يؤكد أن الطابع الإسلامي المعروف عن "صناع الحياة" يجعل ممن يتطوعون فيها يعرفون مسبقا اتجاهها، ولذلك فأنهم يكونون دائما على استعداد للتغير." بعض الشباب يتطوع للعمل معنا، ويكون من متابعي الفيديو كليب أو تكون غير ملتزمة بضوابط الحجاب بالنسبة للفتيات، ولكنهم بعد فترة يتغيرون ويبدأون في الالتزام من تلقاء أنفسهم" يحب طه أن يؤكد أن الدعوة عند "صناع الحياة" هي دعوةعن طريق تقديم النموذج وضرب المثل، ولا تلجأ للدعوة المباشرة أو الوعظ فهذا ليس مجالها.
الأمر إذن ليس بالحدة التي صورها الكهل السلفي في مسجد "الجمعية الشرعية"، فمدير "صناع الحياة بالجيزة" مهتم أيضا بضوابط الحجاب، كما أن من بين المتطوعات العاملات في "صناع الحياة" سيدات منتقبات، وأغلب الفتيات يرتدين أزياء محافظة وإن كانت بالطبع أكثر عصرية مما يمكن أن نراه في أوساط السلفيين وأعضاء "الجمعية الشرعية". ولكن ما يمكن أن يثير حنق السلفيين هو العمل المختلط للشباب والفتيات في أنشطة الجمعية.
لا يوجد مسيحيين أعضاء في "صناع الحياة"، ولكن ينفي طه أن هناك ما يمنع ذلك ويذكر تعاون جمعيات "صناع الحياة" مع مؤسسات مسيحية في إطار حملة "حماية" ضد المخدرات.

في الجانب المؤسسي، وعلى خلاف "الجمعية الشرعية" التي تتمتع بإدارة مركزية تشرف على الفروع، يقول طه "صناع الحياة بالجيزة هي واحدة من 49 جمعية في مصر. كل واحدة منها أشهرت وتعمل بشكل مستقل، ولكن يجمعهم شكل من أشكال التنسيق وهناك اقتراحات بإنشاء مؤسسة كبرى لصناع الحياة تضم كل الجمعيات".
لعامل اللامركزية دور كبير في مرونة تأسيس جمعيات متعددة ومختلفة في هيكلها ونشاطها عن بعضها البعض ولكن يجمعها ما يشبه شبكة من التنسيق والتداخل والتعاون. ورغم إشارات البعض لقرب "صناع الحياة" وعمرو خالد من أوساط الإخوان المسلمين – وهوما ينفيه أحمد طه بشدة - إلا إن جمعيات صناع الحياة تتميز على كل حال باللامركزية في عملها، ويبدو أنها تدفع بعيدا الهواجس الأمنية التي تتابع العمل الخيري الديني خوفا من تسييسه لصالح الإسلاميين. يؤكد أحمد طه أن "صناع الحياة" تتعاون مع أجهزة حكومية ومراكز شباب ومعاهد وكليات، وتقيم بالاشتراك معهم ندوات وحملات ضمن أنشطة الجمعية المختلفة، وينفي تماما أن يكون هناك أي ضغوط أو مشكلات أمنية تعترض عمل "صناع الحياة".
رغم أنه لا يمكن استبعاد المتابعة الأمنية لكل أشكال الجمعيات في مصر، إلا أن الارتياح الذي يبديه المدير التنفيذي لـ"صناع الحياة" بالجيزة، في مقابل القلق المبالغ فيه من قبل المدير التنفيذي لـ"الجمعية الشرعية" في إمبابة يمكن أن يكون مؤشرا دالا على اختلاف كبير بين نمطين من أنماط العمل الخيري الديني، لا يزال أحدهما يعاني من مشكلة ازدواج الدعوة والعمل الخيري، بينما يقدم الآخر صيغة مريحة لأطراف عديدة.
من الاستثناءات القليلة ما حدث من توقف المشروع المركزي لكل جمعيات صناع الحياة المسمى "إنسان" لمواجهة التسرب من التعليم، الذي دعا عمرو خالد في برامجه المتطوعين إلى البدء في اجتذاب اجتذاب 35 ألف متطوع لازمين للمشروع. وضغوط الأمنية والسياسية التي يتردد أنها سبب توقف الحملة قبل أشهر هي نفسها التي قد تؤدي إلى ابتعاد عمرو خالد عن أي نشاط في مصر حتى إشعار آخر.
لا يحب أي من مسئولي صناع الحياة، ومنهم أحمد طه، الحديث عن أسباب توقف الحملة أو ابتعاد عمرو خالد. إلا أن شباب "صناع الحياة" على مدوناتهم يتهمون "أوامر سياسية عليا" أحست بخطورة استمرار عمرو خالد في تبني حملات كبيرة تجمع كل هذا العدد من المتطوعين خاصة أن الإعداد للحملة نجح في تجاوز العدد المستهدف من المتطوعين الذين أصبحوا 47 ألفا. ولكن ذلك العدد لن يذهب هدرا.
يوضح أحمد طه: "ابتعاد عمرو خالد بالتأكيد يؤثر على معنويات المتطوعين ويحبطهم لكنه لا يوقف عملنا. لم يتوقف إلا الحملة الإعلامية التي يقوم بها عمرو خالد بالتوازي مع مشروع "إنسان"، بينما المشروع نفسه مستمر، ولكن ستعمل كل جمعية على حدة"، ويضيف"ونحن في جمعية صناع الحياة بالجيزة نستهدف 200 متسرب من التعليم سنساعد أسرهم بمشروعات تكفل لهم حياة كريمة وتوفر تكاليف تعاليم أبنائهم".
ذلك الصدام بسبب المشروع المركزي، الذي لم يؤثر على نشاط كل جمعية على حدة، يؤكد أن أي ميل نحو "المركزية" في عمل صناع الحياة سوف يجلب المتاعب. والتجربة تؤكد لهم صحة توجههم الأساسي بالعمل في "شكل به مركزية للفكرة أو الروح بينما العمل على الأرض لا مركزي" كما يعبر أحمد طه.
مرونة الإدارة في جمعيات "صناع الحياة" ليست ميزتها الوحيدة التي ترجح صعودها على حساب أشكال أخرى من العمل الخيري الديني. فهناك أيضا الارتباط بنمط صاعد من التدين خاصة بين الشباب، وتبني طرق وأساليب حديثة وشراكات قوية واتجاه متصاعد نحو الأنشطة التنموية. كل ذلك ونتائجه المتمثلة في التطور المتسارع لعدد الفروع والأعضاء والمتطوعين في مدة قصيرة نسبيا، من شأنه أن يعطي انطباعا عن أن صورة ساحة العمل الخيري الديني ستختلف كثيرا خلال سنوات قليلة قادمة، وستشهد تقدما أكثر للأشكال التي تحررت من أعباء ومشكلات العمل الاجتماعي والخيري من فوق منبر دعوي مباشر وصريح.
المزيد

الأربعاء، ٣ يونيو ٢٠٠٩

القبة تلمع من جديد


تصوير: مروة مرجان

صدى صوت السلطة ملأ دوما فراغ القبة المهيبة لقاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، باستثناء لحظات قليلة غير محتمل تكرارها أثناء خطاب أوباما .

قد لا تكون إلا أسباب عملية للغاية هي التي كانت وراء ترجيح أوباما وفريق عمله لقاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة كمكان لإلقاء خطابه المنتظر. ببساطة "لأن جامعة القاهرة سهلة التأمين" كما قالت المصادر الرسمية.
ولكن برغم ذلك، فإن سيل التحليلات للمعاني والدلالات الرمزية السياسية والحضارية الكامنة وراء تفاصيل الاختيار سيزيد بريق القبة الشهيرة فوق القاعة المختارة، بعد ان أصبحت محط أنظار جزء لا بأس به من العالم حتى يبدأ أوباما حديثه، وساعتها ستنصرف التحليلات إلى ما وراء كلماته.
بريق القبة، بمعناه الحرفي لا الرمزي، كان محط اهتمام المسئولين. فبدأت اجراءات الصقل والتلميع، لتلفت الانتباه أكثر إلى أن الرمز الشهير لجامعة القاهرة كان بلا عناية كافية بعد أن فقد ما يرمز إليه ومن يرمز إليهم الأهمية الكافية.
الطلبة الذين تمشوا قربها بعد خروجهم من الامتحانات، فاجأهم الاهتمام المبكر بالمكان، فاستجابوا بلا شكوى لرجال بأزياء متنوعة ملأوا الجامعة يلوحون تجاههم بإشارات عصبية خالية من اللياقة "تهشهم"– بالمعنى الحرفي لا الرمزي- ليبتعدوا قليلا في سيرهم عن قاعة الاحتفالات التي كان يجرى تلميعها وتأمينها.
هم فاهمون لما يجري، لكن الأهم أنهم اعتادوا على مثل هذه المعاملة من حرس الجامعة، الذين "لولاهم لاختفت قبة الجامعة في اليوم التالي" كما صرح حسام كامل رئيس الجامعة.
هؤلاء الطلبة لا يذكر معظمهم أنه دخل هذه القاعة، وبعضهم يذكر حضوره ندوة عن وزير أو حفل موسيقى في مناسبة ما. ولكن كل من دخلوا يعلقون بانبهار على مشهد القبة الفخمة من الداخل والمهابة التي تلقيها على المكان الفخم الواسع. هذه المهابة احتكرتها السلطة التي استحوذت على المكان منذ إنشاءه، وشعرت بالذعر في اللحظات القليلة التي دوت فيه أصوات مختلفة مزعجة خارجة عن النظام.
أنشئت قاعة الاحتفالات الكبرى عام 1935، وذلك بعد 27 عاما من تأسيس الجامعة الأهلية التي كانت نواة التعليم العالي المصري في عام 1908 بعد اكتتاب عام دعا إليه رجال الوطنية المصرية المهتمين بتنوير لن يخرج من الأزهر التقليدي - الذي كان الخيار الآخر كمكان لخطاب أوباما.
ولكن الجامعة الأهلية التي طلبت من الأمير فؤاد الأول آنذاك أن يرأسها لكي تضمن الرعاية، لم تستطع استكمال المسيرة في استقلال عن الدولة فاندمجت مع مدارس عليا أخرى لتصبح "الجامعة المصرية" الحكومية التابعة لوزارة المعارف عام 1925. ثم يتغير اسمها في 1940 إلى "جامعة فؤاد الأول" قبل أن تعدل حكومة الثورة اسمها إلى "جامعة القاهرة" في 1952.
لعبت جامعة القاهرة دورا شديد الأهمية في سياسة حكومة الثورة، فهي كانت محضن الآلاف من أبناء الطبقات الشعبية ممن سيدينون بالولاء لنظام مجانية التعليم. وبالتوازي كانت قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة مكانا مفضلا لاحتفالات نظام الثورة واجتماعاته . فعلى مسرحها غنت أم كلثوم وغنى عبد الحليم حافظ في مناسبات مختلفة بحضور جمال عبد الناصر، الذي استضاف في نفس القاعة مؤتمر دول عدم الانحياز عام 1964. وبعد هزيمة يونيو 1967 التقي عبد الناصر بالمثقفين في إبريل 1968 ليقول إن تحرير سيناء قد يكون سهلا لو تخلت مصر عن انتمائها العربي وقبلت التسويات، وبشر بمعركة فاصلة.
هذه البشارة هي نفسها التي ستكون مطلب الاعتصام الشهير للطلبة المعارضين لخلفه السادات في عام 1972، بعد أن اقتحموا واحتلوا نفس القاعة التي تحول اسمها على يد السادات نفسه إلى قاعة جمال عبد الناصر بعد وفاة الأخير. ولكن الأمن المركزي اقتحم الجامعة القاعة المهيبة ليعتقل المعتصمين. لتخرج مجموعات أخرى من الطلبة في اليوم التالي لتعتصم في ميدان التحرير فيما سمي باعتصام "الكعكة الحجرية" كما خلدها أمل دنقل في قصيدته.
في مطلع 1973 تكرر اعتصام الطلبة واحتلالهم للقاعة ولكن انفض هذه المرة سلميا بعد قرار بإيقاف الدراسة تماما حتى فضه.
من الطبيعي بعدها أن يعود اسم القاعة إلى أصله، بعد أن تحولت الدولة المصرية مع السادات إلى مسار آخر. ولكنها تركت للمعارضين سلم مدخلها.
هذا السلم شهد مؤتمرات المظاهرات الطلابية المعارضة التي صارت قيادتها إلى الإخوان المسلمين. وبدورهم اعتصموا على درجاته مرارا احتجاجا على شطبهم وحرمانهم من خوض الانتخابات الطلابية. ثم شهد تظاهرات ضخمة في مناسبات مختلفة كان أشدها في 2000 دعما للانتفاضة الفلسطينية الثانية.
نفس السلم شهد ولا يزال مظاهرات حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات التي تأسست في 2004، والتي تحاول حشد الأساتذة لاستعادة القبة من عناية الحرس والأمن وتدخل الدولة.
ولكن آخر صوت مزعج دوى داخل القاعة وتحت القبة، كان في إبريل 2008 بعد أيام من الدعوة للإضراب العام في 6 إبريل واعتقال شباب الحركة التي عرفت فيما بعد بـحركة 6 إبريل. وكان صوت الطالب بلال دياب عضو حزب الغد الذي تسلل إلى لقاء الطلبة مع أحمد نظيف رئيس الوزراء وسط مجموعة من طلاب اتحاد كلية التجارة – المرضي عنهم – بعد أن رفض الأمن دخوله في البداية. ورغم تواجده في بلكون الدور الثاني إلا أنه قاطع حديث نظيف صائحا: "أفرج عن مصر يا ريس. مصر حزينة. أفرج عن شباب 6 إبريل".
مهما كان، فالأرجح أن الاستعدادات هذه المرة أكثر إحكاما مع أنباء الاختيارات الدقيقة للأساتذة والطلبة الأبعد عن أي صلة أو اهتمام بـ"التغيير"، والذي سيحظون وحدهم بحضور محاضرة أوباما، وهو الذي وصل إلى هنا بعد معركة كان عنوانها "التغيير". وربما لهذا السبب سيدوي في فضاء القاعة صوته المنفرد، وستتردد سلطته المتجاوزة للحدود في فراغها بلا معقب، لتنتقل إلى هؤلاء الذين اختار أن يسميهم "العالم الإسلامي" فأصبح ذلك اسمهم في كل وسائل الإعلام بلا نقاش.
-
نشر في "الشروق" الثلاثاء 2 يونيو 2009

المزيد