الثلاثاء، ٢٩ ديسمبر ٢٠٠٩

الفن علاجا


ممارسة الإبداع جزء فعال من عملية العلاج النفسي وهي أيضا جانب مهم من الصحة النفسية التي تساعد كل الناس، أصحاء أو مرضى، على أن يعيشوا حياة متسعة وغنية، مرنة ومتوازنة.

على خشبة المسرح النفسي

يجلس "البطل" وحده في مواجهة زملائه الذين سيكونون "الجمهور" وبعضهم سي
كون "ممثلا مساعدا". يقوم "المخرج" ببدء عصف ذهني بالتحاور مع البطل حول شأن يخصه ويطلب من الجمهور أن يحاوره أيضا حول نفس الأمر. أول ما يحتدم النقاش يأمر المخرج أحد الجالسين في مقاعد الجمهور أن يقوم ليلعب دورا ما متعلق بالبطل: أبوه أو أمه أو أخوه أو صديقه أو خطيبته. يرتجل الممثلون والبطل تفاصيل المشاهد التي يقترحها المخرج ويدفعها باتجاه معين. يلعب يالإضاءة أوتغير أماكن الممثلين أو يعلن عن موت أحدهم أو غياب آخ. يطالبهم بعقد علاقات وصلات أو تمثيل حالات معينة أو تخيل أحداث معينة ويترك المشاهد تتوالي وتتصاعد ويحاول أن يتخطى الزمان والمكان باستحضار الماضي أوالقفز للمستقبل، استدعاء الأموات أو الغائبين، تجسيد الأفكار والرغبات في أشخاص يتكلمون ويحاورون البطل. يصل الأمر غالبا لذروة انفعالية حين يعبر مشهد ما عن وجه مؤلم أو قاسي أو كاشف عن مشكلة البطل أو أزمته بعد أن قلبّتها مشاهد مختلفة على أوجه متعددة. ينهي المخرج المسرحية الارتجالية عندما درجة معينة ويدير نقاشا هادئيا بين كل الحاضرين حول الأمر قبل أن يتفرق الجميع.
المخرج هو د.خليل فاضل والمسرح هو غرفة "السيكودراما" في عيادته الخاصة والحضور الذي يتناوبون على أداء دور البطل والممثلين المساعدين والجمهور هم زوار عيادته ممن يقصدونه للعلاج من متاعب نفسية يمرون بها.
منذ 9 سنوات يستخدم د.خليل فاضل في موعد أسبوعي ثابت أسلوب "السيكودراما"، الذي يسمى أيضا "المسرح النفسي العلاجي". وهو الأسلوب الذي ابتكره جاكوب مارينو، الطبيب النفسي الأمريكي من أصل نمساوي، في الأربعينات واستخدمه أولا لمعالجة جنود شاركوا في الحرب العالمية الثانية. وهو يعتمد على المزج بين فن المسرح وبين أسلوب العلاج الجماعي الذي يقوم فيه المعالج بإدارة مجموعة من المتعالجين الذين يشاركون بعضهم البعض بمشاكلهم وهمومهم ومتاعبهم.
يتم التحضير لجلسة السيكودراما بالإحماء، حيث يجلس المشاركون في حلقة يعرفون أنفسهم سريعا ويذكرون ما يحضر على ذهنهم من المواقف والأحداث أو آخر ما مروا به الأسبوع الماضي بشكل عام أو ما هو متعلق بمشكلتهم الأساسية. يقوم كل واحد بذلك ويختار من يتكلم بعده سواء يعرفه أو لا، يلقي إليه بكرة خيط يظل طرفها عند المعالج/ المخرج، وإن لم تكن موجودة يتخيل المشاركون وجودها ويمثلون تسليمها إلى بعضهم البعض ويسملها آخرهم إلى المعالج مرة أخرى. ومن الحكايات والبوح يحدد المعالج -الذي يعرف خليفات كل مشارك - من سيكون البطل هذه الليلة، ليأخذ دوره في مواجهة الباقين وتبدأ الدراما.
يقول د.خليل فاضل: "تعتمد السيكودراما على تكثيف اللحظة وحرق المراحل، فهي تساعد على سرعة علاج مشكلات نفسية قد تستغرق سنوات طويلة إذا تم علاجها بالأدوية فقط أو بالجلسات التقليدية. في السيكودراما نستدعي الماضي أوالمستقبل. أونستحصر مشاهد من الحاضر ولكن بعد تأطيرها أو وضعها في إطار جديد فالمشارك يتفاعل مع شخصيات وأحداث بشكل مكثف وليس كما يحدث في الواقع".
السيكودراما إحدى أشكال العلاج بالتعبير وهي تعتمد على أحد مبدأين. أولهما أن الأداء والتعبير الفني له تأثيرات صحية وأن له دورا في التعافي وهو ينطبق أكثر على العلاج بالفنون المختلفة Art therapy، وثانيهما أن التعبير الفني فيه مجاز ورمزية يتيحان تعبيرا وتواصلا لا تتيحه اللغة العادية والتواصل العادي. والسيكورداما تعتمد بعض الشيء على المبدأ الأول لكنها أقرب للاعتماد على المبدأ الثاني.
ينصح د.خليل فاضل بجلسات "السيكودراما" عملاء عيادته ممن يشكون من إعاقة اجتماعية ما أو مشكلتهم تتعلق بالتواصل مع الناس والمجتمع. وهذا يشمل ممن يعانون من مشاكل أسرية أو مشاكل زوجية أو اضطرابات في الشخصية أو الإدمان وربما بعض المرضى العقليين إن كانت حالتهم تسمح ويمكنهم التواصل مع آخرين. ولكن د.خليل فاضل يوضح: " فائدة جلسة السيكودراما لا تتوقف على البطل الذي تدور المشاهد حول مشكلته، فهي أيضا تعطي كل فرد الفرصة أن يلعب أدوارا مختلفة لا يؤديها في الحقيقة، وأن ينظر للمشاكل من زويا مختلفة، أن يرى غيره يفصح عن مشكلته بصراحة وبلا خوف ويمثلها أمامه قبل أن يأتي دوره هو أيضا ليفعل ذلك. واحد ممن كتبوا عن السيكودراما قال أنها: فضح متبادل".
أحيانا ما يتماهي شاب يشكو في الأصل من انطوائيته مع دور شاب جريء متمرس في "غواية" الفتيات، أو أن ينفعل شخص متدين ليتوجه بحديثه إلى الله.
"لا تابوهات في جلسات السيكودراما" يقول د.خليل "لكن أحيانا ما أحول مسار الدراما لوشعرت أن المشاركين يفتعلون "مخرجا ثقافيا" لمشاكلهم الشخصية, فأحيانا ما كادت تتحول الجلسات إلى ندوات سياسية تشكو أوضاع البلد وسوء الخدمات والفساد وغير ذلك. وقد يكون ذلك من الحيل الدفاعية النفسية التي نتهرب خلالها من مواجهة مشاكلنا المباشرة".
ولكن بالتأكيد، المشكلات الشخصية المتكررة والتي تظهر عند "أبطال" جلسات السيكودراما تعد مؤشرا على مشكلات اجتماعية. يخص د.خليل منها مشكلة علاقة الآباء والأبناء. ويعتبر أكبر المشكلات تكمن فيما يسميه "الإخصاء" الذي يمارسه بعض الآباء ضد أبناءهم الذين يفشلون في التمرد عليهم إلا بعد إصابتهم بمتاعب نفسية: "أتعجب من شباب تجاوزوا الثلاثين ويعانون من أن آبائهم لا زالوا يتحكمون في تفاصيل حياتهم، ليس فقط مكان السكن والزوجة والعمل، بل حتى ماركة البنطلون !".
المشاكل بين الزوجين والمشاكل المتعلقة بالجنس وحالات القلق الديني والأفكار التي تخشى الإعلان في الحياة العادة تجد متنفسا في السيكودراما.
في إحدى الجلسات أفصح أحد الشباب أنه يشعر بمتعة شديدة عند تناول البيرة في نهار رمضان، ورغم انتقاد الآخرين له إلا أنه دخل معهم في جدل صريح بلا خوف أو خجل من نفسه. وفي أخرى أثناء نقاش حول سلوك البنات والشرف وقفت فتاة غير متزوجة لتصرخ في الجميع: "أنا لست عذراء! عاوزين حاجة؟" وتبوح للآخرين بتجربتها بكل قوة، ولم يقم أحد من زملائها بوصمها أو الابتعاد عنها بعد ذلك. لكن د.خليل يقول أن بعض الآباء من المشاركين أصيبوا بالذعر من ذلك وبدأوا في التقرب من بناتهم ومحاولة التعرف على حياتهم بشكل أقرب.
يتعلم المشاركون مرة بعد مرة القدرة على الدفاع عن وجهة نظرهم أو الاعتراف بأخطائهم بشجاعة ولكن تظل فائدة السيكودراما الأهم كما يقول د.خليل فاضل أن المشاركين من خلال وضع أنفسهم في أدوار مختلفة أو التعاطف مع البطل يتعلمون ألا يحكموا على الناس من خلال منظورهم الخاص فقط.



من نافذة الخيال تدخل الصحة النفسية

يفتح نافذته صباحا فيجد وردة بلدي حمراء ! يتعجب لأنه يسكن في الدور العاشر. يلقى بنظره إلى الشجرة التي تستقر أسفل العمارة فيجد أن فرعا بعينه امتد وطال حتى وصل إليه بالوردة وكأنه يقصده تحديدا. يقص الوردة ويضعها في كوب ماء بسكر، يتناول ساندوتش جبنة رومي، يرتدي ملابسه على مهل. ينزل فيكتشف أن ربع ساعة فقط تبقت على موعد عمله، ولكنه يجد أكثر من ميكروباص متجهين إلى التحرير يقفون لإشارته، أحدهم يفتح له الباب ويخبر الباقين:"خلاص، الأستاذ معايا". يجلس مستريحا على مقعد وحده لا يزاحمه فيه أحد. يفاجئه أن السائق يعطيه زجاجة مياه غازية. يشربها ويفكر أنه سيعطيه ثمنها فوق الأجرة. وهو ينزل يحاول فعل ذلك فيقسم السائق أنه لن يأخذ إلا الأجرة المقررة وأن المياه الغازية "عزومة" وتحية. يدخل إلى عمله فيكتشف أنه تأخر عشر دقائق، يعتذر لمديره فيتقبل اعتذاره في ود، يدخل إلى زملائه الذين يخبروه أن المدير لم يغضب لأنهم قاموا بدلا منه بكتابة الأوراق المطلوبة على الفور. يجلس مطمئنا ويؤدي عمله وفي نهاية اليوم يرحل في موعده. وأول ما ينزل يجد نفس السائق ينتظره بالميكروباص لكي يعيده إلى بيته ويقول له أنه أحبه "لله في لله".
يحكي محمد مهدي، مدرب الدراما العلاجية في دار الصحة النفسية بالمقطم، أن هذا المشهد تخيله ومثّله أحد المرضى في إحدى الجلسات عندما طلب منه أن يتخيل يوما من أجمل أيام الدنيا: "لقد ضحكنا معا على المفارقات وبكينا معا على بساطة الحلم والخيال وجماله وإبداعه في الوقت نفسه".
بين الكوميديا والمرح واللعب والعبث من جانب والاندماج الذي يصل بالمجموعة أحيانا إلى البكاء تمضي جلسات الدراما في دار الصحة النفسية - الشهيرة باسم مستشفى الرخاوي. يوضح د. محمد الرخاوي، أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة ومدير المستشفى، أن الدراما العلاجية كما يقدمونها هي أحد أشكال العلاج بالفن لكنها تختلف عن "السيكودراما". فالأخيرة تقلب في جذور المشكلة النفسية لدى المريض وتجعلها تبرز على السطح في قوة وسرعة، وهي مسئولية كبيرة ويجب أن يكون هناك دائما معالج نفسي شديد الخبرة واليقظة لكي يتعامل مع ذلك بشكل مناسب. ويضيف :"ولكن في الدراما العلاجية Drama therapy فنحن ببساطة نلعب وننمي أنفسنا. نحن نعالج لا بالتوجه نحو المشكلة ولكن بالصحة النفسية، نمارس السلوك الصحي وندعه يستبعد السلوك المرضيّ".
الدراما هي الفن الأقرب للحياة اليومية. كما أنه يمكن أن يشمل داخلة فنون الأداء جميعها، الأداء الصوتي والحركية، يمكن أن يشتمل على موسيقى وغناء ورقص. ولذلك يتحيز د. الرخاوي للدراما كنشاط مفيد للصحة النفسية لأي إنسان وليس المرضى فقط. فالتمثيل يوفر مهارات مطلوبة للتكيف في الحياة، أهمها إن يتمكن كل إنسان من لعب أدوار مختلفة ولا يتصلب أو يتقولب في دور واحد.
يقول د. الرخاوي :"عندما تقف في الطابور، ربما تحتاج عدة أدوار، مرة دور القوي الغضوب حين يريد أحدهم أن يأخذ دورك، دور المتعاطف إن وجدت سيدة عجوز متعبة من الوقوف وتطلب أن تأخذ دورك، ربما تلعب دور التفاوضي مع آخر. أن تؤدي دورا واحدا في كل الحالات فهذا هو التصلب في قالب واحد، والقدرة على لعب أدوار مختلفة هذا ما نسميه المرونة وهي من علامات الصحة النفسية".
في إحدى تمارين جلسة الدراما، يأمر المدرب محمد مهدي كل مشارك أن يسير على سجادة حمراء مرة كأنه وزير ومرة كأنه رجل أعمال ومرة كأنه ممثلة جميلة مشهورة ومرة كبطل رياضي. يقول مهدي: "في كل حالة هو فقط يتقمص حالة ويعيش شعورا لا يعيشه في الواقع. كما أن جسده يتشكل مع كل حالة وهي خبرة مختلفة".
تشكل الجسد بأسلوب غير معتاد في حياة الفرد، هي فكرة العلاج بالرقص الذي يمارسه البعض بمعزل عن الدراما، فالاعتقاد وراء هذا الأسلوب من العلاج أن الخبرة الجديدة للجسد تجعل الشخص يجرب جانبا من أسلوب حياة جديد غير معتاد بالنسبة له.
يقول محمد مهدي:" أيضا في مثل هذه التمرين يبدأ المريض يشعر كيف أن الوقفة والنظرة واللفتة تدل على الحضور والهوية فيبدأ في الاهتمام بهذا ويعتني بذاته وحضوره وصورته".
مزج الدراما بالموسيقى والغناء أيضا يضفيان أجياء مرحة وممتعة على جلسات الدراما، وقد يكون لها دورها العلاجي. "الغناء فيه تنظيم للنفس وإخراج للطاقة وانفتاح للذات على الخارج فهي تؤدي وتستعرض، عكس الحالة المرضية من بطء أو تسارع النفس أو الميل للانسحاب إلى الداخل".
ممارسة التمثيل تخرج المريض من عزلته أوانسحابه وتجعله منفتحا على الآخرين، كما أنها فرصة لتفريغ الكوامن المكبوتة التي نقعمها داخلنا. فبعض الأشخاص الملتزمين قد يجد فرصة لعيش خبرة جديدة تتعلق برغبات مقموعة لديه مثل أن يؤدي دور شخص يغازل فتاة أو يمثل شخصية رئيس عصابة. "أوجه شخصياتنا التي أخفيت عن الآخرين تحفى علينا نحن أيضا" ولذلك يري د. الرخاوي أن "التمثيل يعطينا الفرصة لإعلاء صوت أجزاء من أنفسنا لا نعترف بها ولا نتحملها، وفي الوقت نفسه يتم استيعابها في المساحة الآمنة للعب الدرامي. ومن خلال التعبير عن هذه الجوانب التي لا نعيشها، ويعيشها آخرون، نكتشف إنسانيتنا المشتركة ونتحلى بالفهم والتعاطف مع بعضنا البعض".
الدراما أيضا تمنحنا فرصة إعادة تمثيل أدارنا في الحياة ولكن مع "مسافة" ما. "موازنة المسافة أو ضبطها من أهم المهارات النفسية الصحية المطلوبة" يشرح د.الرخاوي: "بعض الناس تندمج في مشكلتها تماما أو في مشكلة غيرها وتغرق فيها، والبعض الآخر يضع مسافة كبيرة بينه وبين مشكلته أو مشكلة غيره فيتعامل بتبلد وبرود. في التمثيل يتعلم الممثل أن يكون متقمصا ومعايشا ولكن ليس مبالغا أو Over وهذه المسافة الجمالية المطلوبة في الفن هي المسافة الصحية المطلوبة في الحياة".



ألوان جديدة للحياة

يقفا
ن على طرفي غشاء شفاف، بالتبادل يمسك كلا منهما بالألوان ويبدأ في "شفّ" صورة الآخر على اللوحة الشفافة بيهما. ولأنه لا يمكن أن يظلا يحدقان في بعضهما البعض بلا كلام يبدآن في تجاذب أطراف الحديث، ثم الابتسامات والقهقهات. وشيئا فشيئا تتوطد صداقة وعلاقة بدأت بتأمل كل منهما للآخر.
هذه اللعبة ابتكرها محمد عبلة، الفنان التشكيلي، وسماها "تجربة التفاعل" وسجلها باسمه كأحد أساليب العلاج بالرسم. ويذكرها تحديدا ليقول أن العلاج بالفن دائما فيه مساحة مشتركة لفائدة الجميع وليس فقط المرضى النفسيين،فهو يطبقها أيضا في ورش لمن لا يعانون من أي متاعب نفسية بغرض الحصول على ميزات التفاعل والتواصل من خلال اللعب والفن.
عقب تخرجه من كلية الفنون الجميلة وأثناء دراسته للفن في سويسرا، بدأ محمد عبلة الاهتمام بالمساحة المشتركة بين علم النفس والفن، والتحق بمعهد "يونج" ودرس به ثم افتتح بالاشتراك مع طبيبة نفسية سويسرية عيادة للعلاج بالرسم: "كان الأطباء والمعالجون يحولون إلينا الحالات المستعصية التي وجدوا صعوبة بالغة في التعامل معها، وكنا بخلافهم لا نهتم بتحليل العقدة أو المشكلة ولكن نستخدم الرسم كنشاط يعطي المريض لغة جديدة يتواصل بها مع نفسه ومع العالم ويساعده على أن يكون أكثر قدرة وقوة على مواجهة مشكلته بنفسه".
يرى عبلة إن المعالج بالرسم يجب أن يكون مختلفا عن الطبيب النفسي الذي يتعامل مع المشكلة وعن مدرب الرسم الذي يركز على التقنيات الفنية، فعلى خلافهما يجب أن يلتقط الإشارات فيما يرسمه المريض ويوجهه شيئا فشيئا لكي يكون شكلا يكون ذا معنى له وليس مجرد شخبطة وأن يخرجه من حالة تكرار الخطوط والإصرار على تفاصيل محددة والميل لألوان بعينها إلى حالة من المرونة والتنوع والتوازن.
ولكن بعض الحالات المميزة تعبر بوضوح وبشكل صارخ عن مشكلتها. يحكي محمد عبلة إن إحدى الحالات المميزة التي تعامل معها كان مدرسا للتاريخ بالمرحلة الثانوية وكانت حالته متردية جدا وعندما بدأ جلسات العلاج بالرسم كان يرسم دائما زنزانة بألوان قاتمة ويرسم نفسه جالسا داخلها أو مشنوقا في سقفها، كان تعبيره واضحا عن إحساسه بأنه محبوس في إطار حياة نمطي ومكرر وأن هذه الفكرة تسيطر عليه، لم يناقشه في مشكلته ولكنه اقترح عليه أن يرسم الزنزانة ولكن بلا قضبان حديدية في منافذها، وفي مرة لاحقة أخفى عبلة الألوان القاتمة، فبدت اللوحة وكأنها لغرفة عادية، ومرة فمرة بدأ المدرس يكتشف أنه يرسم أشياء مختلفة. ربما أعجبه التنوع الممكن من خلال الرسم واكتشف فيه متنفسا لأنه أخبر محمد عبلة أنه اشتري لوحة وألوانا وبدأ في الاهتمام بالرسم بشكل كبير وساعده ذلك على تحسن حالته رغم أنه استمر في نفس الحياة ونفس الوظيفة.
"الاغتراب عن الجمال والانغماس في حياة روتينية نؤدي فيها مهام نمطية ونجمع أموالا ننفقها على أنفسنا وأولادنا ليدوروا هم أيضا في نفس الحلقة هو مصدر للمرض النفسي" هكذا ترى نجلاء صالح، الأخصائية النفسية المسئولة عن العلاج بالعمل اليدوي الفني في دار الصحة النفسية. "هذه الحياة تفرض تنميطا على شخصياتنا وبعض المرض النفسي هو شكل من الاختلاف ولكنه اختلاف سلبي وليس إيجابي ولذلك يتم احتوائه من خلال الأعمال الفنية".
يقوم المرضى في المستشفى بإنتاج أعمال فنية بسيطة مثل تشكيل الخشب أو صنع لوحة بالرمل الملون أو الموزايك. وترى نجلاء أن أهم ما في الأمر أن يتعلموا أن كل إنسان قادر على إنتاج الجمال وليس فقط قادرا على إنهاء عمل روتيني بمقايس ومعايير مفروضة يرضي بها الناس، كما أنه يتذوف متعة أن يبدع شيئا يحبه هو ويعجبه هو. المريض النفسي يكون مغتربا عن فكرة الجمال حتى في مظهره الشخصي، وعندما ينفتح عليها يبدأ في الاهتمام بجمال ذاته ويعتني عموما بنفسه".
تتنوع جلسات العلاج بالعمل اليدوي بين الاهتمام بتنمية مهارات ذات طابع فردي وأخرى ذات طابع اجتماعي، فتبدأ الجلسات بشكل فردي لكي يكتشف كل مريض ذاته ويؤمن أنه قادر إلى الإنجاز بنفسه ولكي يتعلم أن يتبع إحساسه ويقوم بالأشياء بشكل يرضيه. وفي الجزء الجماعي تنمو مهاراته الاجتماعية ويتدرب على أن يعمل في مجموعة ويرى نفسه جزء من كل.
تقول نجلاء صالح: " العمل اليدوي الفني نفسه ينمي بعض المهارات التي تساعد على التكيف والتواصل الاجتماعي، فإنجاز اللوحة يتطلب إدراك الوحدة الكلية وأجزائها. فيتعلم أن يرى مشكلته كجزء من مشاكل أو أنها مقسمة إلى مشاكل يمكنها أن يتعامل معها واحدة واحدة. وأن يرى نفسه جزء من مجتمع عليه أن يفهمه ويتاصل معه ولكنه أيضا جزء متميز له هويته. كما أن متعة إنجاز العمل الفني تخرج المريض من حالة الخمود والتراخي وتنمي لديه المثابرة والإقبال على العمل والحياة".



إعادة تنظيم

تتفاوت مجالات الإبداع في تضمنها لمهارات وقدرات معينة تثري النفس الإنسانية وتساعدها على التمتع بالصحة أو تدعمها من أجل التعافي. ولكن كل أشكال العلاج بالفنون تشترك في أنها تتضمن اعتقادا بأن الإبداع في حد ذاته جزء من الصحة النفسية كما أنه أحد طرق مواجهة الحياة.
يقول د.محمد الرخاوي، أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، أن سلوكنا في الحياة ينقسم إلى اتباع وإبداع. وبنوع من الاختزال يمكن أن نقول أن اختلاف المريض النفسي تعبير عن حالة إبداع مجهضة بمعنى ما. فالمبدع بشكل عام هو من ينجح في ابتكار تنظيم جديد ومختلف لشيء ما، لكن المريض فكك عناصر حياته من حوله ولم يعد يراها مثلما يراها باقي الناس من حوله، ولكنه أيضا لم ينجح في إعادة ترتيبها في نظام جديد يرى به الأشياء.
أحد جوانب الفاعلية في العلاج بالفن أن المريض يتذوق أشكال إبداعية غير مجهضة بل وثرية، وأيضا يمارس وينجز أعمال إبداعية. كما أن معظم الأعمال الإبداعية تتطلب أن يترك الإنسان تقوقعه داخل ذاته ويتوجه إلى العالم من حوله وإلى الآخرين لينفتح عليهم ويتأملهم ويتفاعل معهم. تنمي بعض أشكال العلاج بالفن مهارات حيايتة، فالدراما من خلال لعب الأدوار تنمي المرونة والقدرة على تنوع الاستجابات، بينما ينشط العلاج بحفظ الشعر الذاكرة ويضبط الإيقاع، وكذلك تفعل الموسيقى، الغناء بما فيه من أداء واستعراض ينمي الحضور الشخصي ويقضي على الانسحاب والتقوقع. الأشغال الفنية اليدوية تنمي التآزر الحركي البصري، كما ينمي العلاج بالرقص الإحساس بالجسد وقدرته على التعبير وتنبه المريض على الانتباه لجسده لأنه عنوان هويته الشخصية وأن إشاراته لها معان وتعبر عن دوره أو رغباته أو انفعالاته المختلفة. هناك أيضا اتجاهات حديثة تطور أشكال من العلاج عن طريق الكتابة وخاصة تدوين اليوميات، فمن خلالها نعيد تنظيم الأحداث والأفكار داخل اللغة وأثناء الكتابة وبعدها نعيد تأمل ذاتنا وسلوكنا وحياتنا والتفكير فيهم.


نشر في "الشروق" 27 ديسمبر 2009
PDF
الصور:
1- شباب يؤدون تجربة "التفاعل بالرسم" التي ابتكرها الفنان محمد عبلة
2- د.خليل فاضل في تجربة سيكودراما تعليمية مع طلاب من الجامعة الأمريكية
3- محمد عبلة يشترك في أداء تجربة التفاعل بالرسم
المزيد

الاثنين، ٢١ ديسمبر ٢٠٠٩

سلفي ثم ملحد ثم ملحد مسلم


دع جانبا تفسير الحياة، لا تؤمن بشيء بشكل نهائي، اترك الاحتمالات مفتوحة، تصالح مع ما تراه تناقضات وازدواجية، اتبع مصلحتك ولذتك وراحتك. هذه هي خلاصة قناعات الكاتب الشاب أحمد منتصر الذي يطلق على نفسه "مفكر الجيل" ويرى أنه يلخص فلسفة حياة أغلبيته، ويصنف نفسه "ملحد مسلم" !

"الهاتف يرن: أيوه يا له!
- أيوه يا منتصر، تعالى صلّي معايا فـ"فجر الإسلام!"
- والله يا بني مش فاضي الليلة!
- يا بني الليلة ليلة خمسة وعشرين، احتمال تكون ليلة القدر!
- والله يا بني أصلي حاشرب الليلة!
- يا عم أجل الشرب لبكره وبكره نخرج مع بعض!
- طب بص، أنا حاشرب وبعدين حالحقك!
- هههههه يا بن الكلب هههههه !
- فيه إيه يا بني؟ حاشرب وأجيلك المسجد نصلي التراويح مع بعض! "

يكتب أحمد منتصر- 23 سنة- هذا الموقف ضمن يومياته التي يكتبها على صفحته في الفيس بوك كفقرات أو ملاحظات متناثرة لا يجمعها إلا أنها تعبر عن "كيف يفكر أحمد منتصر" كما يسميها. قد يبدو للبعض موقفا عاديا في تناقضه بالنسبة لمن ينظرون إلى هذا الجيل بعين السخط، ولكن ربما يصدمهم أن منتصر قد قرر نيابة عن هذا الجيل أن يفلسف هذا التناقض من خلال تجربته الخاصة مع الدين، بداية من السلفية ومرورا بالإلحاد وانتهاء بموقف لاديني ولكنه يبقى على شعرة ما مع الدين. ينوي منتصر أن يخرج يومياته إلى العلن في كتاب يصدر قريبا بعنوان "ملحد مسلم"!

يومياته وأفكاره التي صاغها بالعامية وبوضوح كبير وجرأة تختلف عن حالة التمويه التي يلجأ إليها الكثير من المثقفين والكتاب والفنانين عند الحديث عن الدين أمام الجمهور ويتخلون عنها في جلساتهم الخاصة. وورغم أن شباب كثر على الإنترنت يعبرون عن مواقف إلحادية وقد تكون مهاجمة للدين بشراسة، إلا أن القليل منهم يفصحون عن شخصيتهم الحقيقية وأحدهم كان كريم عامر، المدون الذي لا زال يقضي عقوبة السجن لخمس سنوات بتهمة تجمع بين ازدراء الإسلام وإهانة رئيس الجمهورية.

يروى منتصر أنه تأثر بالفكر السلفي مبكرا أثناء عمل والديه في السعودية لفترة، ولكنه لم يتجه إليه فعليا إلا عندما عاد إلى مصر وإلى مدينته طنطا: "اتجهت إلى المسجد بعد محاولات فاشلة للانضمام لأي شلة ما. في المسجد يمكن تقبلك بسهولة خصوصا لو كنت انطوائي وتبتسم كثيرا بلا حساب".
يقول أنه أحس أن الصوفيين سذج وأن الإخوان مشغولون بالسياسة ولكنه اندمج مع السلفيين بل وانضم لتيار متطرف في السلفية يكفر الأمام أي حنيفة النعمان!
كان الخروج من هذه الحالة إلى غيرها كما كتب في يومياته عبر تجربتين أو صدمتين: أولاهما عاطفية وهي تجربة دخوله الجامعة في شبين الكوم. رغم أنها مدينة صغيرة إلا أنه اعتبر ذلك انفتاحا على العالم كما يقول وبدأت علاقته مع الجنس الآخر وهو سلفي يتوجس من المرأة: "كان انفتاحا كبيرا على العالم. كنت أقف مع سائر الطلبة طويلا بانتظار عربة شبين الكوم بموقف العجيزي بطنطا ولما تأتي عربة نندفع إليها في هبة رجل واحد لا فرق بين ذكر وأنثى ونجلس أربعا على كل أريكة من أرائك العربة متلاصقين نستمتع باكتشاف أجسادنا مع كل التصاقة ومع كل مطب أو حركة".
يصف منتصر ما حدث بأنه صدمة عاطفية لا فكرية: "في رأيي أن الصدمات العاطفية هي التي تولد الأفكار. فأعظم الروايات لم يكتبها مؤلفوها إلا بعد تجربة ثرية ما. وأعظم الفلسفات لم يتوصل إليها أصحابها إلا بعد معاناة مع المجتمع من حولهم... بدأ التغير أول ما بدأ في الملبس حيث بدأت أطيل من بنطالي وأقصر من لحيتي وألبس الألوان الفاقعة كالأحمر والأخضر والأزرق. (وهي أشياء كان يمتنع عنها بسبب التزامه السلفي) وأخذت فترة طويلة في التأمل حتى أدركت عقم التفكير السلفي عموما وتفكيري على وجه الخصوص".

التجربة الأخرى كانت فكرية وتدريجية، عبر تأثره بروايات مصرية للجيب وبداية دخوله إلى الإنترنت والتحاور مع باقي محبي هذه الروايات بأفكارهم العادية المعتدلة نوعا بالمقارنة بفكره السلفي، ورغم أنه تم طرده من هذه المنتديات بسبب ذلك كما يقول إلا أنه استفاد تعرفه على أفكار أخرى وخففت قليلا حدة يقينه ونظره للعالم من منظور واحد ضيق خاص به. استمر في التعبير عن نفسه على الإنترنت في مدونة خاصة بدأ فيها يعبر عن تشككه بخصوص مفاهيم دينية وينقد بعض الأفكار الدينية بالفعل فحذف موقع الاستضافة العربي مدونته، فلجأ إلى موقع استضافة آخر وبدأ يكتب بحرية أكثر ثم من خلال الفيس بوك واصل كتاباته التي انتقلت إلى مهاجمة الدين بعد تحوله بشكل حاسم إلى ملحد.

انضم منتصر بعد تحوله إلى الطرف الآخر للمعركة. المتحولون إلى الإلحاد أو اللادينية الذين يبدأون في مهاجمة الدين ومحاولة تشكيك المؤمنين فيه، بعضهم يكرس جهده لهذا الأمر في مقابل مؤمنين يستميتون في الدفاع أو الهجوم المضاد. المعظم يستخدم أسماء مستعارة ويكونون شللا أومجموعات ترى في نفسها طلائع التنوير في مواجهة الظلام والفكر الغيبي. هذه الحالة موجودة في منتديات عديدة منها "شبكة الملحدين العرب"، "منتدى اللادينيين العرب" وإحدى ساحات "نادي الفكر العربي". ولكن منتصر بعد فترة أحس أنه انتقل من عزلة السلفيين إلى عزلة الملحدين: "الملحدين العرب أغلبهم متخلفين عقليا. .. 90% من كلامهم ع النت وفي الواقع إما تريقة على الإسلام وإما نقد للإسلام وإما يشتكوا إنهم مش عارفين يعيشوا بحرية ومن تخلف المجتمع. نفس عبط السلفيين وتخلفهم ومنطلقاتهم الفكرية. مش عارف أنا ربنا بيكرهني ليه؟ شوية يرميني مع سلفيين وشوية مع ملحدين ولاد كلب. طيب والنبي يا رب لو دخلتني جهنم ماتدخلنيش معاهم!!. مش يبقى دنيا وآخرة!".
بدأ منتصر يرى أن الإلحاد الذي يجزم بعدم وجود إله هو أيضا عقيدة فيها يقين وتأكيد، بينما عبر هو عن قناعته أنه ملحد لا يؤمن بالله ولكن عنده احتمال غير قليل بأن الله موجود، ويكتب في يومياته:"الإيمان فكرة ساذجة والإلحاد فكرة أكثر سذاجة. واحد مؤمن بكائن خيالي كلي القدرة والتاني يقول لك لا مش ممكن يكون في إله كلي القدرة إنما المادة هي اللي عملت نفسها بنفسها. يعني أسخم ! كلهم ساذجين وأساسا تفسير الحياة مش شايف له فايدة إنت كده كده عايش عشان تشبع غرائزك فبلاش وجع دماغ. عامل زي واحد لقى بيضة راح دوّر على الفرخة. لقى الفرخة راح دوّر على قشر البيضة اللي طلعت منها يا بن الهبلة ما تضيعش وقتك واستمتع بحياتك يا حمار!".

يقول عن نفسه الآن أنه "ملحد مسلم" ويعبر في يومياته أن المصطلح له أكثر من وجه، فأولا هو مثل ملحدين آخرين لديهم خلفية ثقافية دينية تتمحور حول الله والدين وما تفرع من الدين من عادات وتقاليد وقيود، كما أنه يراه طريقة في الحياة تخلق "وضعا مناسبا اجتماعيا للملحدين المعتدلين الذين يعيشون وسط نسق ديني وصحوة راديكالية رجعية تسهيلا على الناس كي يتقبلوا الفكر الإلحادي الصرف فيما بعد" على حد تعبيره. كما يعني أيضا بأنه ليس مثل المتدينين السلفيين أو الملحدين أو حتى المفكرين والمثقفين الذين يريدون أن يغيروا الناس. فهو يدعو إلى فكر يتكيف مع الموجود ويرى أن غالبية الناس إيجابيين ومتعايشين مع تناقضاتهم فهم يعلنون التدين ويتمسكون بقيمه وممارساته التي تشعرهم بالراحة النفسية والاجتماعية لكنهم أيضا يتمردون عليه ويخالفون تعاليمه من أجل لذتهم ومصلحتهم. هنا يضرب أحمد منتصر مثالا بتامر حسني الذي يعبر عن حبه لأغانيه وأفلامه ويقول أن تامر يعلن اعتزازه بالدين وتمسكه به في أوقات كثيرة لكنه يفعل ما يريد ويقدم ما يريد رغم ذلك.
"المصلحة" هي مفتاح آخر لـ"فلسفة مفكر الجيل" كما يراها: " في رأيي المحرك الرئيسي للحياة البشرية هو المصلحة: فين لذتك؟ يبقى وراها، فين ألمك؟ اهرب منه. حتى الإيمان والإلحاد يمكن نفسره بالطريقة دي". يذهب منتصر بهذه الفكرة حتى النهاية بشكل يجعله يكتب في يومياته: "مستعد أمسح كتاباتي المقلقة وإيقاف حملاتي الفكرية تجاه أشخاص بعينهم بس مقابل الفلوس أعظم قيمة في الدنيا." ويبرر بها موقفه الجديد كـ"ملحد مسلم" : "عايز لما آجي أجدد البطاقة أعمل شرطة في خانة الديانة بس في مشكلتين. يمكن أحب أتجوز مسلمة...المانع التاني في الورث لازم تبقى مسلم عشان تورث... لذا فأنا ولله الحمد مسلم ورقيا حتى إشعار آخر".

يضع منتصر كل أوراقه على الطاولة بجرأة ويكتب عن تفاصيل حياته الشخصية بجرأة أكبر: "واحدة بترمي نفسها عليا. بنظرة الرجل الشرقي دي قلة أدب .. بنظرة الرجل الغربي دي فرصة جيدة. قلت خليني محايد وأجمع ما بين التفكيرين فقلت: قليلة الأدب ودي فرصة كويسة هع هع!". يقول أحيانا ساخرا : "فلاح وأفتخر" ولا يخجل من رواية مواقف قد تثير سخرية "المتحررين": "إحنا ف طنطا محتاجين وسائل ترفيه.... مفيش ديسكو عااااا مش عارف بس نتفسح فين غير كل شوية أنا وصحابي نروح أي قاعة ندخل أي فرح نرقص مع الناس وخلاص!".
قد يكون مثيرا لدهشة للبعض، ممن هم بعيدون عن ساحات تعبير الأجيال الجديدة، أن يجدوا نموذج منتصر الذي يصرح بأفكاره بهذه الجرأة في مدينة مثل طنطا. ولكن المتابع سيجد أن هناك حالة من الزخم الفكري ومجموعات من الشباب لا تكتفي بالتأثر بل يجدون في أنفسهم الجرأة في أن طرح أفكارهم ولا يرون مشكلة ألا يتقبلهم أحد من الأجيال الأكبر ولا ينتظرون تقديمهم.
بخلاف صفحته الشخصية لمنتصر الآن صفحة معجبين Fan page باعتباره ناقدا بينما لا يزال طالبا في كلية الآداب.
في نفس الوقت مجموعات الشباب هذه لا تعيش بالضرورة حالة اتفاق فكري. فتحت يومياته التي ينشرها هناك حوارات ساخنة وبعض أصدقائه إسلاميين يقول عنهم أنهم "إسلاميين ليبراليين" ولكن معظمهم من الشباب الليبراليين العلمانيين - فمنتصر ناشط في حزب الجبهة الديمقراطية- الذين يتفقون أو يختلفون مع آرائه. بعضهم بدأ يرى وجاهة في فكرة "ملحد مسلم" وبعضهم يقول عنها أنها "مهلبية" ومثقفي الأجيال الأكبر يرون أنه يريد الفرقعة والظهور.

بعض أصدقاء المرحلة السلفية عندما يلتقونه في الطريق لا يصافحونه أو يتظاهرون أنهم لا يعرفونه احتجاجا على تحوله. ولكن بشكل عام لا يجد مشاكل كبيرة من إعلانه أفكاره، ولكن بعضهم لا يزال يحاول أن يعيده إلى الطريق الأول.
يحكي في يومياته: "جالي البيت اتنين كانوا سلفيين معايا زمان وبقوا دلوقتي مشايخ قد الدنيا هع هع. قال هاني السمدوني: يا منتصر إنت كنت أخ طيب وحافظ القرآن وكنت بتصلي بينا. أسافر بره أشتغل تلات سنين أرجع ألاقيك حتنزل كتاب اسمه ملحد مسلم؟ ده كلام؟. وقعد يتكلم ف الدين الصح والطريق الصح وطريقة عمل البيتيفور صح وعن كل حاجة صح بيعملها لمدة نص ساعة. في الآخر قلتله كعادتي ف حصر نقاط الخلاف لما سمعت أذان المغرب:عندك مشكلتين في التفكير الأولى إنك بتحكم على غيرك بتفكيرك إنت. والتانية إنك مقتنع إنك الصح! راح سكت وسلموا عليا ونزلوا يصلوا المغرب".
عائلة منتصر تبدو ليبرالية أيضا في تقبلها لآرائه بلا مشاكل كبيرة، فهو يقول أنهم ناقشوه في آرائه ثم تركوه وقالوا "ربنا يهديك". ولكنه يعتقد أن الوضع الحالي أكثر راحة بالنسبة لهم من المرحلة السلفية: "لما كنت سلفي كنت مجننهم ف حياتهم. مفيش تلفزيون مفيش أغاني طول الوقت قرآن وشرايط دينية فهم ع الأقل دلوقتي اترحموا من تدخلي في حياتهم". ويكتب في يومياته أنهم لا يزالون يتابعون كتاباته وتطورات أفكاره: "الحاج كل يوم تقريبا يقعد ع الجهاز يشوف آخر كتاباتي. ولما قرا كلامي عن الورث قال لي: امشي يا بن الكلب!".


الصورة: غلاف كتاب "ملحد مسلم" من تصميم نادين أبو شادي
نشر "الشروق" 20 ديسمبر 2009
PDF
المزيد

"فرسان النور" يحتاجون دليلا حديثا


النزعة الروحانية المعاصرة التي تعبر نفسها داخل الأديان أو على هامشها، تبحث عن تعبير يصورالإيمان في قلب تجربة ومغامرة ورحلة تجمع بين الحقيقي والمتخيل، بين الواقعي بكل قسوته والخرافي بكل إمكاناته المفتوحة ووعوده الجميلة.

الشعور بافتقاد حياته إلى الجانب الروحاني رغم أنه يعد نفسه مؤمنا ومتدينا، كان شعور محمد النقيب، المهندس الشاب، أول ما تعرف على كتب باولو كويلو. أحس بضرورة اتخاذ خطوة ما نحو إشباع هذا الجانب من حياته، بحث عن وجود الطرق الصوفية في الإسماعيلية حيث يسكن، ولكن لقاءات قصيرة معهم كانت كافية ليحسم أمره أن ما يريده ليس عندهم. عاد إلى ما يشعر أنه يشبهه، افتتح في فبراير 2007 مدونة باسم "محارب النور" وبدأ في ترجمة مقالات باولو كويلو التي ينشرها بالإنجليزية في مدونة بنفس الاسم. وكان أول مقال يترجمه يتضمن نصيحة نقلها كويلو عن معلم له سأله عن الإيمان:"اذهب وافعل ما تشاء. حاول فقط أن تضع الحب في كل بادرة".
ما كان يبحث عنه محمد النقيب كما يقول هو نزعة روحانية إنسانية وتؤكد على الإيمان بالله وفي الوقت نفسه تستخدم "الكود الأخلاقي" للأديان كلها، تقبل الاختلاف وتعطي مساحة لكل فرد وهي ترشده لاستكشاف قوته الداخلية التي يعاني معظم الناس في البحث عنها.
لا يزال الشكل التقليدي للنزوع الروحاني الشعبي مسيطرا على الأذهان، كما يظهر في الاهتمام بالموالد والأولياء وبركتهم واتباع نصيحة المشايخ أو تلقي التربية منهم والانخراط في جماعة كالطرق الصوفية. ولكن على خلافها تظهر النزعة الروحانية الإيمانية التي يمكن أن نصفها بـ"الحديثة" لتجمع عددا لا بأس به من شباب الطبقة الوسطى وما وفقها، ممن لا يجدون ما يروي عطشهم في أدبيات دينية تقليدية أو في مجرد محاولات للتجديد العقلي والفكري للدين ولكنهم متمسكون بـ"إيمان" ما بالله وبالجانب الروحي من الإنسان. قد يتفاوتون في درجة تدينهم وتمسكهم بتعاليم الأديان وشعائرها، فبعضهم لديه نزوع للتشكك أحيانا. ولكن يجمعهم الميل للتحرر من كل خطاب لا يتوجه إليهم الآن وهنا، أو كل وعظ يرسم إيمانهم في قوالب محددة يطالبهم أن يضعوها في قلوبهم، ولا يتفهم قلقهم وأن تساؤلهم عن معنى هذا الوجود لا يريد جوابا خارج هذه الحياة فهو تساؤل لا ينفصل عن رغتبهم في التجربة والمغامرة والتحقق والسعادة.
هذه النزعة الواسعة والفردية التي تجمع أفرادا مختلفين ربما لا يمكن الإمساك بها وتأملها إلا عندما يجتمع أصحابها- من كل العالم- ليجعلوا من الكاتب "باولو كويلو" ظاهرة فيصبح من أشهر الكتاب على مستوى العالم وكتبه هي الأكثر مبيعا لأنها تحدثت بلغة هذا النزعة وعبرت عنها.
قد يكون من هؤلاء مثل محمد النقيب مسلما متدينا معتدلا يبحث عن الاجتهادات الأكثر رحابة عند بعض العلماء، ولكنه يقول أيضا أن بين أبناء جيله شباب لديهم ما لا يمكن أن يصرحوا به من أنهم لا يجدون في الدين- بالشكل التقليدي له- ما يروي غليلهم و لا يجدون إجابات عن كثير من تساؤلاتهم و يقفون عند بعض ما يجدونه تناقضات، ولكنهم في الوقت نفسه لا يتخلون عن فكرة "الإيمان" تماما ولا يقبلون بأن الإنسان وحياته ماديان تماما.
هبة محمد تعتبر نفسها واحدة من هؤلاء :” أنا لا زلت مقتنعة بوجود إله، قوة كاملة متحكمة في الكون وتشجع الفضائل الإنسانية العامة. ولكن لا يمكن أن أقول أني مقتنعة بالإسلام بشكل كامل. وأنا أيضا لست مسيحية أو على دين آخر".
من أجل ذلك تنفر هبة من أي خطاب ديني، ولكنها تجد في نفسه ميلا لنوع من الروحانية ربما لا تجد له اسمها أو تعبيرا إلا أن تبتسم وتقول: "روحانية واسعة مثلما في روايات باولو كويلو" ثم تضيف مفصلة: "هناك قوة علوية كأنها يد من السماء، مهما كنت في أي حالة، شك أو إيمان، يمكن أن تكون هناك صلة بينك وبينها. أن تؤمن بذاتك أولا مهما كانت، ولا تعتذر عنها ولا تبررها، وعلى قدر إيمانك قد تحدث معجزات"
تعترف أن في بعض كلامها تفاؤل قد يبدو خرافيا، ولكنه تبتسم وتقول ربما لذلك تحديدا يعجبها ذلك.
“"فى كل لحظة من حياتنا لدينا قدم فى قصص الجنيات الخرافية وقدم أخرى فى الهاوية" هذا جزء من افتتاحية "إحدى عشر دقيقة" إحدى أشهر روايات باولو كويلو وأكثرها جدلا، فهو يحكي عن ماريا الفتاة البرازيلية التي ترحل في تجربة غامضة تنتهي بها إلى احتراف الدعارة في أوروبا وتتساءل عن اختيارها وأسبابه وتحاول أن تتأمل في معنى حياتها لتصل في النهاية إلى حالة لا تجعلها تشعر بالتنصل من ذاتها أو من خيارها أوالاعتذار عنه.
يعتقد محمد النقيب أن تحفظات بعض المتدينين على هذه الرواية التي تختلف عن باقي أعماله مبالغ فيها، فقبول الاختلاف وعدم الحكم على الأشخاص بمعزل عن السياق الذي يقودهم إلى اختيارات معينة قيم أساسية عنده. وفي الوقت نفسه يرى أن الإيمان الروحي الذي يجعلك دائما مؤمنا بخلاص ما - يمكن ألا يكون حقيقيا أو واقعيا تماما- ولكنه في رأيه يجعلنا نتقبل الحياة بشكل أحسن.
"يتعرف فارس النور طريقه اللحظة التي يبدأ فيها المسير. كل حجرة، كل منعطف يرحب به. يتماهى مع الجبال والوديان. يرى بعضا من روحه في النباتات و الحيوانات و طيور البادية. عندئذ، و قد رضي بمعونة الرب وعلاماته، يستسلم لأسطورته الشخصية مفسحا المجال لها لترشده إلى المهمات التي احتفظت بها لأجله”.
في هذا النص من كتابه "دليل محارب النور" يؤكد كويلو على فكرته التي أصبحت شعبية وملهمة: "الأسطورة الشخصية" التي سيتأمر الكون كله لتنفيذها لو أنك آمنت بها حقا. هذا النوع من الأفكار الملهمة يجد فيه مينا عزيز نموذجا لأفكار الطاقة الإيجابية التي تجعل الجانب الروحاني إيجابيا عند مواجهة مصاعب الشغل والتنافس والقلق والرغبة في تحويل المسار أو المغامرة بالمستقبل المادي والوظيفي لاختيارات معينة: "في الدين هناك إطار أخلاقي محدد أعتقد له دوره ووظيفته، ولكن في الحياة المتغيرة هناك خيارات نتخذها ولا يمكن للدين أن يجيب عنها لأنها ليست من هدفه، ولكن حتى الكلام العام الذي ينقله كويلو عن تراث الصوفية والحكماء في كل العالم ويضعه في تفاصيل معاصرة تجعل من هذه الأشياء جانبا داعما لروحك".
يتفق محمد النقيب مع هذه الفكرة، فهو يرى أن تقديم أدبيات روحانية بلغة وتفاصيل معاصرة أكثر تعبيرا عما يعتقده من أن الإيمان هو الذي يعطيك القوة لتتغير ولكي تؤثر في الناس من حولك.


الصورة من الموقع الرسمي لباولو كويلو
نشر في "الشروق" 20 ديسمبر 2009
PDF

المزيد

الأحد، ٦ ديسمبر ٢٠٠٩

"بلطجية .. ويا ليتنا مثلهم"


قطاع لا بأس به من الجمهور المصري ونخبته وصفوا المشجعين الجزائريين في السودان بـ"الهمجية" – على أقل تقدير- وفي الوقت نفسه أبدوا أسفهم أننا لم نرسل إليهم مشجعينا الشجعان لكي يفعلوا ما فعلوه وأكثر ويردوا لهم الصاع صاعين!

توترت الأمور بين أدهم عبد الراضي ومديره في العمل. وذات مساء كان أدهم سهرانا وحده مع ساع في المكتب الهندسي الصغير ينهي مشروعا ما، تطورت الخلافات في مشادة على الهاتف وقال له مديره أنه لا مكان له في المكتب بعد الآن وأن عليه إما أن يعتذر صاغرا أو أن يبحث عن عمل آخر. أغلق أدهم سماعة التليفون ولم يكن أمامه الكثير من الوقت، طلب من الساعي أن يشتري له شيئا من سوبر ماركت، فتح جهاز الكمبيوتر ودخل على الشبكة ومسح كل ما طالته يده من ملفات المكتب. وعندما انتهي وقف ورفع شاشة جهاز الكمبيوتر من فوق المكتب وهشمها وكذلك فعل مع عدد من الأجهزة، ثم خرج وترك باب الشقة مفتوحا.

يحكي أدهم هذه الحكاية دائما ضاحكا وفخورا هو يتذكر كيف حكى له بعض زملائه كيف تضرر المكتب من فعلته وكيف فقد المدير صوابه : "اشتغلت في هذا المكتب سنتين وأعرف كيف يتعاملون مع من يطردونهم. لا عقود لنا أصلا ولا أي حقوق، وعندما ستطالب ببقية أجرك سيقول لك خصمنا منه بسبب كذا وكذا. هي بلطجة، ومالهاش حل إلا البلطجة".

لم يكن هناك مجال للقانون في هذا الأمر، وعندما تقدم مدير المكتب ببلاغ إلى الشرطة تم حفظه لأن لا شيء رسميا يثبت أنه يعمل في المكتب. يحكي أدهم أن بعض زملائه كانوا يتصلون به بدعوى تهدئة الأمور والاطمئنان على أحواله ويسألون عن مكان عمله الجديد: "المدير أيضا عرف أن القانون لن ينفعه فأراد أن يكمل بالبلطجة ويطاردني في عملي الجديد".

يستخدم أدهم كلمة "البلطجة" ليصف معظم الأفعال التي حدثت في "المعركة". ويبدو أن هذا النمط من السلوك صار أسلوبا في التعامل وحل المشكلات والخلافات والصراعات ولم يعد فقط وصفا للبلطجة التقليدية التي تستخدم العنف البدني لإرهاب الخصوم أو إلحاق الأذى بهم. البلطجة صارت لها العديد من الأسلحة ولكنها كلها تجتمع في أنها شكل من أشكال العنف والصراع الذي يتجاوز كل أخلاق أو عرف أو قانون.

"أريد أن أرى مصر طفلا صايعا أو شابا متهورا" هكذا قال عمرو أديب، المذيع الشهير في برنامجه على قناة أوربت في إحدى تعليقاته على تداعيات "المعركة الكروية" بين مصر والجزائر، وذلك بعد أن قال أنه لا يريد أن يسمع من أحد مرة أخرى أن مصر هي الأم لأن الأم على حد تعبيره "ما تنضربش على قفاها". الحل إذن هي "الصياعة". فنانون ومثقفون ورموز مجتمع تبنوا هذا الحل وقدموا مداخلاتهم التي تفيد: "لقد أرسلنا الفرافير وكان يجب أن نحشد الصيع"، "كان يجب أن نرسل لهم جمهور إمبابة وبولاق وشبرا" - وكأن هذه المناطق هي معامل تفريخ بلطجية- وتمنى ممثل "أكشن" لو أنه كان هناك ليريهم! وأخيرا قال الممثل محمد سعد في مداخلة: "أنا لو طلقت عليهم اللمبي والله أجيلهم ملط ! ".

في الواقع أن الإعلان عن إطلاق اللمبي كنموذج وأسلوب مميز في حياة المصريين حدث في السينما في فيلم "الناظر" حين أبدى علاء ولي الدين رغبته في أن يكون "صايعا" لكي يتمكن من التعامل مع الحياة ومع البلطجية من الطلبة. وبالفعل لم يتمكن من السيطرة على الطلبة إلا بعد معركة بينه وبين طالب بلطجي انتهت بفوز الناظر الذي أعاد الانضباط غلى المدرسة وقضى على الفوضى ولكن بقوة البلطجة!

"داوني بالتي كانت هي الداء!"
في دراستها عن مضمون "أفلام العشوائيات" بعد عام 2000 من خلال نموذجي "حين ميسرة" و"اللمبي"، والتي نالت بها درجة الماجستير في علم الاجتماع من الجامعة الأمريكية، تركز الباحثة فيروز كراوية على "الفوضى" كصورة تحاول هذه الأفلام أن تؤكد عليها كحالة مجتمعية. ورغم أنها ترى أن هذه الصورة تتضمن نوعا من العنصرية الطبقية ضد "الأحياء العشوائية" لأنها مصدر وسبب هذه الفوضى، إلا أنها تقول أن هذه الصورة عندما تبرز استحالة السيطرة على هذه الأحياء وهذه الفوضى فإنها تبرر استخدام بعض عناصر هذه الفوضى مثل البلطجية.
في "حين ميسرة" تلجأ الشرطة دائما لبلطجي ومسجل خطر تجتذبه ليكون عينها وذراعها داخل الحي العشوائي، وهي التهمة التي يوجهها كثيرون للشرطة. وتقول فيروز كراوية:"أيضا بفعل الاحتكاك بين الطبقات، تستعير الطبقة الوسطى من الطبقات الأدنى ما تلومها بشأنه، بل وتستخدم أفراد هذه الطبقات في ذلك، إذا كان سلوك البلطجة يقضي المصلحة لأن القانون لن يحققها فأهلا بالبلطجة". وهكذا تكون البلطجة والفوضى مبرران للمزيد منهما.

ولكن مهما كانت درجة الفوضى وغياب المرجعيات والأعراف أو تفكك السلطات التقليدية كالآباء و"الكبار" وضعف السلطات الحديثة كالدولة وقوة القانون، فإن بعض المهتمين بحالة العنف المتنامي وأشكاله المختلفة في المجتمع المصري يرونه جزءا من حالة إنسانية عامة. فرغم أنه يرى أن "مصر دخلت عصر الجريمة الأكثر عنفا" إلا أن د.خليل فاضل، الطبيب النفسي، يعتبر الميل للعنف والعدوان حل سهل غريزي وتلقائي في مواجهة المشاكل، تحاول الحضارة التحكم فيه إلا أن هذه الغريزة تظل طاقة عند الإنسان تظهر لو لم يتمكن من تفريفها في إنجاز أو إبداع.
في عيادة د.خليل الأسابيع الماضية كان المرضى يتحدثون منفعلين وغاضبين عن تفاصيل "المعركة المصرية الجزائرية"، وبعضهم كان ممكن ذهبوا وحاولوا التظاهر أمام السفارة الجزائرية، ولكن د.خليل فاضل رأي في ذلك تنفيسا وإزاحة لعنف مكبوت وإحباط في ساحات أخرى. ويضيف: "واحد من هؤلاء طبيب ولأنه كان واعيا أن لديه طاقة عنف يخشى أن تتفجر في مواجهة آخرين أو في جريمة طلب مني أن أعطيه أدوية لكي يتجنب ذلك". في رأي د.خليل فاضل المهتم بتطور العنف وأنماط الجريمة أن بعض خصائص التطور والحضارة الحديثة تدفع الأفراد للعنف مثل كثافة السكان وتزاحمهم وكثافة الاتصال بسبب تقدم الإعلام وتطور الاتصالات، فكل هذه العوامل تؤدي إلى احتكاك كبير ونقل سريع وواضح لأشكال العنف والصراعات من كل مكان عبر الأخبار أو عبر الدراما.

الزحام والاحتشاد والكثافة العالية يمثلون تهديدا وجوديا لكل كائن يدفعه إلى أن يكون أكثر عنفا وميلا للعدوان في حل المشكلات وفي مواجهة الآخرين، هكذا يرى إريك فروم، عالم النفس والفيلسوف الشهير، في كتابه "تشريح النزعة التدميرية". فهو يناقش الفكرة القائلة أن العنف والعدوان والنزوع للتدمير غريزة إنسانية فطرية ويحاول أن يصنف درجات هذه النزعات ويردها إلى الأنماط الاجتماعية المختلفة. فيرى أن الأنماط الاجتماعية التي يسودها التحقق الفردي مع التضامن الاجتماعي والثقة المتبادلة تكون أبعد عن العنف بينما تلك الأخرى التي تقل فيها الثقة والتحقق ويكثر فيها النزاعات تكون أقرب للعنف.

"إنت ما تعرفش أنا مين؟"
بعد تصادم لسيارتين تصاب فيه إحداهما أو كلتاهما بإصابات ليست طفيفة أو في أثناء مشاجرة محتدمة عادة ما يبدأ الطرفان في استعراض إمكانانت البلطجة :" إنت ما تعرفش أنا مين؟" وعادة يقصد بهذا السؤال: "ماذا يمكن أن أفعل بك؟" وبالطبع الفعل سيكون خارج نطاق القانون والأخلاق. إن لم يكن مباشرة سيكون عبر وسيط أو معرفة أو قريب.
لا تنكر مروة زين أنها قالت تلك الجملة مرات عديدة، ولا تنكر أن معناها فعلا فيه إيجاء بالبلطجة: "لكن أعمل إيه؟ كيف أواجه أشخاص لا أخلاق لديهم في شارع بلا أخلاق أصلا. الشرطة غير معنية بالتدخل في التفاصيل والنزاعات الصغيرة وبدلا من أن أجد نفسي وحيدة في مواجهة شاب بلطجي أرفع سماعة التليفون وأتصل بقريبي وكيل النيابة. وهكذا تسير الأمور في البلد".

في إحدى المرات التي استعانت بقريبها بسبب شجار مع جيرانها، الذين تصف مستواهم الاجتماعي والثقافي بالمتدني، كانت وصيته فعالة وبدأ ضابط الشرطة في معاملة جيرانها بشكل مهين وفظ، إلى الدرجة التي جعلتها تتصل به وتطلب منه ألا يصل الأمر لدرجة إهانتهم وأنها فقط كانت تطلب اهتمام الشرطة بالأمر. تذمر قريبها وأخبرها أن ضابط الشرطة جامله ولكنه لا يعمل عنده ولا يمكنه أن يعلمه كيف يتعامل مع الناس ثم قال لها بصراحة:" القانون مش هايجيب حقك، سبيبه يشوف شغله علشان يخافوا". ولكنها في هذه اللحظة أخبرته أنها أيضا خائفة أن يمارسوا إرهابهم المضاد بطريقتهم خارج القسم الذي لن يلجأوا إليه كل يوم.

لكل طبقة ومستوى اجتماعي طريقة في الإرهاب والبلطجة وقول "إنت ما تعرفش أنا مين؟". والكل يتعلل بحالة الفوضى التي تدفعه لانتزاع حقه بهذا الأسلوب أو مجرد المحاولة والتعبير اليائس عن عدم القدرة على انتزاعه. في كتاب إريك فروم وأثناء مناقشته للعنف والعدوان يحاول أن يقترب من فهم ما يميز الإنسان لكي يضع الحدود بين غريزة العدوان عنده وعند غيره من الكائنات ومن ضمن التعريفات التي يتناولها أن "الذكاء الأعلى للإنسان يجعله أكثر مرونة وأقل اعتمادا على السلوك الانعكاسي الغريزي".
هذه المرونة هي ما تجعل الإنسان يفكر في أن يضع حلا للمشكلات حتى لو تضمنت عنفا يهدده، بينما يسارع الحيوان بمحاولة تنفيذ هجوم عدواني مضاد. والإنسان في مسيرة بناءه للحضارة مبتعدا عن الحيوان يطور الأنساق الأخلاقية والأعراف والتقاليد والقوانين المحلية والدولية لكي يضع صراعاته ومشكلاته في ساحات أخرى. لكن يبدو أنه في بعض الأحيان يتورط ويحتاج إلى عودة غريزية تتحايل على كل ذلك أو تتجاهله وتفكر في العنف والعدوان. قد تكون تلك العودة حربا بين الشعوب، أو قد تكون حروبا بين الشعب الواحد عبر "البلطجة"، التي تبرر وجودها بالفوضى أو ببلطجة أخرى أو شغب ملاعب أو مشكلة عمل أو حتى شجار عابر.


تم تعديل أسماء بعض المصادر بناء على طلبهم
نشر في "الشروق" 6 ديسمبر 2009
PDF

المزيد

الأحد، ٢٩ نوفمبر ٢٠٠٩

إشارة إلى السماء وإشهار وجود



في الساحة المحيطة بمسجد عمرو بن العاص يتجول مجموعة من المصورين الهواة يجربون الكادرات المختلفة ويتأملون تفاصيل المسجد. يلاحظ أحدهم وهو يصوب كاميرته إلى المئذنة أن شكلها وتفاصيلها مختلفين عن طراز باقي تفاصيل المسجد. يتعجب جدا عندما يعرف أن مسجد عمرو بن العاص أول ما بنى كان خاليا تماما من المآذن.
رغم أن المساجد لم تعرف المئذنة إلا في العصر الأموي، إلا أنها أصبحت تفصيلة متوقعة مرتبطة بكل مسجد كبير خاصة لو كان عتيقا، فضلا عن اعتبارها أحد رموز للإسلام وحضارته في كتابات مؤرخين كثر ومتخصصون في الفن الإسلامي، وبعضهم جعلها الرمز الأهم كما فعل جوناثان بلوم ، أستاذ الفن الإسلامي في جامعة بوسطن بالولايات المتحدة وصاحب كتاب "المئذنة: رمز الإسلام" Minaret: Symbol of Islam.
الثابت تاريخيا أن المساجد في عهد النبي والخلفاء الأربعة الراشدين ظلت بسيطة في تصميمها وبلا مآذن. وكان المؤذنون يرتقون سطح المسجد لإعلان الأذان. والمسجد الذي بناه عمرو بن العاص في الفسطاط في عهد الخليفة عمر بن الخطاب كان كذلك. وفي العصر الأموي عندما بدأت تظهر ملامح "الامبراطورية الإسلامية" وبدأت المساجد تنتشر في المدن سواء التي أصبحت حواضر إسلامية أو تلك الجديدة المفتوحة التي لا يزال أهلها يدينون بغير الإسلام. في المدن الأولى بدأ الترف والتفنن في بناء البيوت والقصور فأصبحت هناك حاجة لتمييز المسجد، وفي المدن المفتوحة لا تزال الكنائس بأبراجها أو الأعمدة الرومانية والبيزنطية أو المسلات الفرعونية التي شيدت لتخليد ذكرى الانتصارات بالإضافة أيضا لأبراج وثنية أقامتها بعض الشعوب الآسيوية رمزا للقداسة والألوهية، ويبدو أن انطباع العظمة والعلو كان لابد وأن ينتقل إلى عمارة المساجد اتساقا مع التوسع الكبير للدولة الإسلامية والإعلان عن هيمنة الدين الجديد.
يناقش جوناثان بلوم في كتابه "المئذنة رمز الإسلام" الأصول التاريخية للمئذنة. ويرجح أن أول شكل للمآذن هو الشكل المربع الذي أطلق عليه المسلمون الصوامع وبني في المسجد الأموي في دمشق على أنقاض أبراج معبد روماني وثني. وهوالشكل نفسه الذي انتقل إلى مصر في العهد الأموي، عندما أمر معاوية بن أي سفيان واليه في مصر ببناء أربعة صوامع مربعة في أركان جامع عمرو، وبدأ المؤذنون يرتقون هذه الصوامع لإشهار الأذان.
في العصر العباسي كان تطور المدن الإسلامية قد بلغ مرحلة أخرى، فأصبحت المآذن العالية المتقدمة في تقنيات بناءها وجمالياتها دالا على مكانة المسجد الذي بدأ يتبلور كمؤسسة دينية ذات سلطة وكمركز للمدينة ورمز لحضور الخلافة الإسلامية الممتدة.
شهدت العصور اللاحقة تطورا كبيرا في المآذن التي تنوعت وتشكلت في حوار مع الثقافات والبيئات المحلية. ويروي د.ثروت عكاشة في كتابه "القيم الجمالية في العمارة الإسلامية" قصة تطور المآذن المصرية من الطراز الشامي المربع للصوامع إلى أشكال متعددة، حتى استقرت على الطرازين المملوكي ثم العثماني. ولا تزال مآذن القاهرة القديمة أبرز ما يميز المساجد عما حولها من مبان.
تحولت وظيفة المئذنة عبر العصور، فكانت مكانا لرفع الأذان أو الإعلان عن الأخبار الهامة، كما أنها كانت منارة للمدينة كلها عندما توضع القناديل في شرفتها العلوية، وحديثا بالأضواء الكهربائية والزينات في أثناء الأعياد والمناسبات الدينية والموالد.ولذلك تسمى المئذنة أيضا "منارة" وانتقل ذلك إلى اللغات اللاتينية لتصبح Minaret.
غير أن وظيفتها الجمالية والرمزية ظلت الأهم وتسبب ذلك في بعض المعارك على مر التاريخ. يركز الباحثون المسلمون عادة على المعنى الجمالي الممتزج بالرموز الروحية والدينية، فيرى شريف شاه عبد الرحمن، رئيس منظمة الثقافة الإسلامية في أسبانيا في محاضرة له بعنوان "المئذنة، رمز حضارة" أن أهمية المئذنة تنبع من كونها رمزا لمركز المجتمع المسلم الذي يقوم بالنداء من أعلى في إشارة إلى الاتجاه إلى الله والدعوة إليه. الباحثون الغربيون لديهم خلفيتهم التي تجعلهم يناقشون معنى "السلطة" و"الهيمنة" في المئذنة، حيث يروي جوناثان بلوم الوقائع التاريخية لتحول أبراج كنائس في أوروبا إلى مآذن بعد احتلالها من قبل الجيوش العثمانية، وبالمثل تتحول المآذن إلى أبراج كنائس في أسبانيا بعد استعادة الممالك المسيحية للسلطة فيها. ربما لهذا السبب لا يزال بعض الأوروبيين يرون في المئذنة رمز اختراق وهيمنة الغزاة رغم انقضاء القرون، ولكن بلوم يرى أنه بعد زوال عهد هذه الحروب الدينية في أوروبا وانتشار الإسلام في أنحاء العالم بعيدا عن السلطة، فإن دلالة المآذن تحولت إلى رمز لهذا الانتشار والحضورعلى مستوى العالم.



الصوت والنفوذ


أحيانا ما يحدث أن يبدأ الأذان في الإذاعة أو مسجد مجاور، فيترك الشيخ حمدي محله فورا ويدخل مسرعا إلى المسجد الصغير الملاصق لمحله في نفس العمارة بمنطقة الوراق. يتجه مباشرة إلى المنبر ويفتح كوة فيه تستقر فيه أجهزة الصوت فيفتح الميكروفون ويقف باتجاه القبلة، يرفع كفيه إلى أذنيه ويبدأ أذانه الذي يخرج محشرجا من مكبر الصوت الموضوع في شرفة آخر طابق بالعمارة، ليتداخل مع صوت أذانين آخرين في مسجدين مجاورين.
يبتسم الشيخ حمدي- هكذا يطلق عليه الجميع في المنطقة- ويقول أنه أحيانا ما يتأخر بسبب الوقت الذي أصبح يمر سريعا بلا بركة فلا يشعر إلا ووقت الأذان قد حل، ولكنه يؤكد أنه ملتزم بالأذان من أكثر من عشرين سنة، منذ افتتح محله في هذه البناية وتولى متطوعا رعاية المسجد وإقامة الأذان وإحيانا إمامة المصلين إن لم يكن هناك رجل يفوقه علما ودراية بالقرآن.
يسمع الشيخ حمدي عن مشروع توحيد الآذان الذي أعلنت وزارة الأوقاف أوائل الشهر أنها نتهت من التجهيزات الفنية له وأنها بصدد تجريبه في 4000 مسجد في القاهرة ولكنه يمتعض غاضبا: "عاوزين يحرموا كل الناس دي من الخير. النبي قال أن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة. ينفع يبقى مصر كلها فيها مؤذن واحد. طيب المؤذنين اللي بياكلوا عيش يروحوا فين؟".
بالنسبة للشيخ حمدي فالأمر حرمان من الخير، ولكن بالنسبة لوزارة الأوقاف هو تنظيم لفوضى مكبرات الصوت التي انتشرت في القاهرة. المساجد الأهلية تنتشر تحت العمارات كمكان متواضع لإقامة الصلاة. ولأنه لا مئذنة عالية لها، فإنها تعلن عن وجودها بمكبر صوت فوق أعلى مكان في البناية أو في بناية مجاورة. الشيخ حمدي يرى في ذلك إعلانا لكلمات الله ونداء حي على الصلاة. ولكن البعض له رأي آخر. أحمد نبيه الذي يسكن على بعد عمارتين من "مسجد الشيخ حمدي" كما يطلق عليه في سخرية من سيطرته عليه، منزعج جدا من سيطرته على المسجد، فبخلاف صوته غير الجميل أحيانا ما يقرر أن "يربي" أهل المنطقة: "أحيانا عندما تكون هناك مباراة هامة ويزدحم المقهى الموجود في الشارع بالشباب ويحين وقت صلاة العشاء. يترك الشيخ حمدي الميكروفون المؤدي إلى مكبر الصوت الخارجي مفتوحا ويذيع على الهواء مباشرة صلاة العشاء كإنذار ووعيد للشباب اللاهي على المقهى أو القابعين في منازلهم أمام التليفزيون".
يبدو أن "سلطة الصوت" هي ما تبقى للمساجد الصغيرة بعد أن انزوت في أسفل البيوت بينما ترتفع المساجد الجامعة الكبيرة بقبابها ومآذنها لتعلن عن وجودها المميز. ولكن حتى تلك الأخيرة لم يعد المؤذن يرتقي سلم المئذنة الحلزوني ليصعد إلى شرفتها العلوية ويرفع صوته بالأذان. بل أصبح مكبر الصوت هو الذي يصعد لمرة واحدة ويستقر فوق المئذنة. تعدد المساجد وتجاورها أصبح سمة تؤدي فيما بعد إلى صراع مكبرات الصوت لينتهي الأذان أحيانا إلى ضوضاء غير مفهومة.
يحتج الشيخ حمدي بأن تعدد المؤذنين في المنطقة الواحدة خير. وأنه ضمانة لأن يرتفع الأذان حتى لو نسى أحدهم! وأن التداخل يحدث في مناطق قليلة فيها مساجد كثيرة، ويرى أن سبب هذه "الخطط" هي "ضيق بعض الذين في قلوبهم مرض" -على حد تعبيره- من ارتفاع الأذان والقرآن، ولكنهم في الوقت نفسه لا يعترضون أبدا على أصوت أفراح الشوارع التي تتركها الشرطة تزعج الناس وتقلق راحتهم في أوقات متأخرة من الليل. يضيف: "خايف ييجي يوم ينظموا فيه بناء المآذن كمان". ويستطرد أن أهل الخير هم الذين يهتمون بان تكون كلمة الله هي العليا مهما كانت القيود الحكومية. ويضرب مثالا لذلك بالمسجد الكبير في الوراق المجاور لكنيسة كبيرة، ويقول أنه لا يصح في دولة إسلامية أن يكون برج الكنيسة هو الأعلى ولذلك تحدى أهل الخير من الموسرين تراخيص البناءوقاموا ببناء مئذنة كبيرة أعلى من برج الكنيسة.
الشيخ حمدي ليس وحده من يعتقد أن للمئذنة وطولها في مقابل وجود برج الكنيسة وطوله بعدا رمزيا. وربما كان هذا سبب المشكلات حول بناء الكنائس في أحياء شعبية وقرى في القاهرة والمحافظات- خاصة في الصعيد. فيبدو أن الطابع المميز للكنيسة وأبراجها يشعر بعض "المسلمين المتعصبين" بأنه نوع من الهيمنة الرمزية والحضور المكثف. هل هذا التوجس هو نفسه ما يعبر عنه المتطرفون اليمينيون في أوروبا المعارضون لبناء المساجد أو وجود المآذن؟


ضمن ملف عن المآذن في يوم الاستفتاء السويسري حول السماخ ببناء مآذن للمساجد أو حظرها.
تصوير: محمد حسن
المزيد

الجمعة، ١٣ نوفمبر ٢٠٠٩

سهرة سماعي


"سمّيعة الطرب" الذين لا يضيرهم الاستماع فرادي إلى موسيقاهم المفضلة ، تتضاعف متعتهم عندما يجتمعون حول اسطوانة قديمة تقاوم الزمن تداعبها إبرة جرامافون لا يزال طلاؤه الذهبي يلمع وينطلق بوقه باللحن القديم زاهيا.

يقلب د. محمد الباز في مجموعات الاسطوانات المتناثرة في أرجاء الصالون إلى أن يجد اسطوانة بعينها، يضعها في أحد أجهزة الجرامافون الكثيرة الموزعة في الأركان. يخرج إبرة جديدة من كيس مجاور للجرامافون ويثبتها فيه. يلف الزنبلك بيده لثوان، قبل أن يضع الإبرة على سطح الاسطوانة التي بدأت تدور.
"يا صحبة الورد النادية، الكون ده مخلوق علشانك. ابتسمي للدنيا الزاهية، وفتحي قبل أوانك" ينطلق صوت ليلى مراد هادئا وناصعا، ومتسقا مع ديكور الصالون والأثاث الكلاسيكي وأجهزة الراديو ذات الطراز القديم وقطع السجاد اليدوي الفنية المعلقة على الحائط والأغلفة الصفراء المتناثرة التي تحفظ الاسطوانات الكبيرة العتيقة، التي توقف د. محمد الباز مؤقتا عن تقليبه فيها بحثا عن شيء آخر وهو يستقبل ضيوفه ويرحب بهم ويشدد على خدمه التزام الحذر وهم ينقلون بعض الاسطونات: "كأنها من زجاج".
الليلة هو موعد لقاء مجموعة منتقاة من "السميعة" الذين اجتمع شملهم من خلال منتدى "سماعي" على الإنترنت، ثم بدأوا التواصل وجها لوجه والتلاقي كل فترة في سهرة تتنوع بين السماع والنقاش حول الموسيقى التراثية أو أحاديث الذكريات، وأصبح منزل د. الباز بأجوائه المميزة مكانا مفضلا للقاءاتهم.
يجلس ياسين سعيد، الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين بعد ويعبر عن سعادته الدائمة بالقدوم إلى فيلا د.محمد الباز، الطبيب وأستاذ طب الأطفال في جامعة الزقازيق، والاستمتاع بأجواء الطرب وسط "كبار السميعة". يرحب ياسين بمحمد الآلاتي، الملحن والناقد الموسيقى الذي يبدو في الأربعينات من عمره. ويحييان معا المهندس محمد رؤوف المسيري الذي يبدو أكبر قليلا ويخاطبونه باسمه الذي يعرف به في المنتدى :"الباشا". المهندس رؤوف، بالإضافة لكونه "سميعا قديما"، فهو خبير في تكنولوجيا المعلومات وواحد من المجموعة القليلة التي أحيت المنتدى وقت افتتاحه عام 2005.
يرحبون جميعا بقدوم محمد أبو مندور ثم يفاجئون مضيفهم بحضور د. صالح عبد الفتاح أستاذ الفيزياء النووية بجامعة القاهرة الذي قد يفضل في هذا المقام لقبا آخر: "الحبر الكلثومي" فهو واحد من أشهر سميعة "أم كلثوم" بشكل خاص ويحفظ عن ظهر قلب التاريخ الفني لأم كلثوم بما في ذلك تواريخ حفلاتها وماذا غنت في كل منهم.
كانت اسطوانة ليلى مراد قد انتهت، فوضع د.محمد الباز شريط بَكَر Reel في مشغل هذا النوع من الشرائط، والذي كان التطور السابق على الكاسيت، وطلب من الجميع الاستماع إلى ذلك التسجيل لأغنية "يا اللي كان يشجيك أنيني" والتركيز على الختام المميز للأغنية مع كلمة "دموعي" التي تفيض لوعة وشجنا. يحلل محمد الآلاتي هذه اللفتة الموسيقية، بينما يتناقش د.صالح ود.الباز حول عدد المرات التي غنت فيها أم كلثوم هذه الأغنية وتاريخ هذا التسجيل.
يعلق ياسين: "المرة الأولى التي اطلعت فيها على نقاشات المنتدى استغربت هذا الاهتمام بالتسجيلات المختلفة والفروق بينهما. كلهم في النهاية أغنية "يا اللي كان يشجيك أنيني"، ما الفرق؟ ولكن بعد فترة علمت أن هناك فروق فنية لا يلاحظها إلا السمّيع، مثل إعادتها لمقاطع أو صولوهات لآلات معينة وأيضا ارتجالاتها المختلفة خارج اللجن المكتوب". يتدخل د. صالح: "في إحدى الحفلات بعد أن هموا بإنزال الستار استجابت أم كلثوم لطلب الحضور وأعادت مقاطع من آخر أغنية يتصريفات وارتجالات لا مثيل لها لم تغنها من قبل. مثل هذا الإبداع ليس متاحا في كل تسجيل فهو لم يكتبه الملحن في النوتة ولم تتدرب عليه الفرقة في البروفات ولكنهم يلاحقون أم كلثوم ويحاولون مجاراتها".
لدى د.صالح أرشيفا لكل حفلات أم كلثوم بتواريخها وأسماء المذيعين الذين قدموها بل وأرقام الاسطوانات المتاحة منها في مكتبة الإذاعة المصرية التي لم يدخلها أبدا! يحكي أنه بدأ في الاتصال بالإذاعة والسؤال عن أرقام الاسطوانات لكي يدونها، واستغربوا ذلك في البداية ولكنه كون صداقات بين مهندسي الإذاعة وعندما أنهى تسجيل أرقام الاسطوانات أصبحوا يرجعون إليه أحيانا لسرعة الوصول إلى أرقام الاسطوانات مع معلومات عن الحفلة وأغانيها، وفي أوائل الثمانينات كانت الإذاعة تعلن أن فقرة أم كلثوم من إعداد واختيار د. صالح عبد الفتاح.
في منتدى "سماعي" وجد صالح عبد الفتاح احتفاء باهتمامه البالغ بتاريخ أم كلثوم، كما أنه وجد مشاركين له في هذا الاهتمام لدرجة أن المنتدى يحتوى على تسجيلات لا توجد عند الإذاعة المصرية أو أنها مفقودة وتالفة أو لا تذاع بسبب سوء حالتها.

مجلس الطرب الافتراضي
منتدى "سماعي"، الذي يعد الآن أكبر منتدى موسيقى عربي على الإنترنت ويتجاوز عدد الأعضاء المسجلين به 470 ألف عضو، كان نقطة التقاء مهتمين بالموسيقى العربية التراثية من مختلف الأعمار والأماكن. ورغم أن مؤسسيه كانوا ثلاثة: محمد الزمنطر من تونس وأحمد المسلمي من اليمن ومحمد حسان من مصر، إلا أن الحضور المصري الأكثر كثافة واضح في المنتدى. وهم يظنون أنهم في الغالب المجموعة الأكثر تواصلا في الواقع، بالإضافة لمجموعة أخرى في المغرب، ويحكي محمد الآلاتي أن أول لقاء موسع لـ"سميعة المنتدى" كان في مقهى البستان بوسط القاهرة في أغسطس 2007 وحضر إليه أعضاء من المحافظات المختلفة، ثم بدأوا لقاءات غير دورية في منزل د.محمد الباز.
يحكي د. الباز أنه كان يمارس وحده هوايته في جمع الاسطوانات والشرائط القديمة وأجهزة تشغيلها إلى أن تعرف على م.رؤوف عبر المنتدى، والذي علمه كيفية تحويل هذه التسجيلات النادرة إلى صيغة الكترونية ووضعها في المنتدى ومشاركتها مع الآخرين ممن يفعلون الشيء نفسه ليجد هو أيضا تسجيلات لم يكن على علم بها. يقول د.محمد: "قبل ذلك كان المصدر الوحيد للتسجيلات والاسطوانات هم تجار الأنتيكات الذين يشترون هذه الأشياء من البيوت والقصور ثم يبيعونها للهواة.
هؤلاء التجار، قبل ذيوع المنتديات، كانوا إحدى حلقات الوصل بين الهواة. وعن طريقهم تعرف هواة لاقتناء التسجيلات على د.محمد الباز ومنهم من حضر خصيصا من بلاد أخرى ليكمل مجموعته أو يستمع إلى تسجيل نادر. يذكر ياسين د.الباز بالشيخ خالد من قطر الذي زاره خصيصا من أجل بعض الاسطوانات النادرة التي لديه ثم يطلب منه تشغيل أغنية "يارفيع التاج" لمحمد عبد الوهاب. يضع د. الباز الاسطوانة وعندما تبدأ تنتعش ملامحه مع الأنغام ويقول: "كان محمد عبد الوهاب يقول أنه لا يستمتع بالسماع إلا وهو يشاهد الاسطوانة تدور أمامه".
يمدح محمد عبد الوهاب في الأغنية آل سعود. فيتطرق الحديث إلى ممالئة عمالقة الطرب للحكام ويؤكدون على أنهم يحبون فنهم وإبداعهم مهما كانت الملاحظات على سيرتهم الشخصية. يلقى د.الباز بملحوظة عن استبداد أم كلثوم وتسلطها أحيانا بعد شهرتها. يتفق معه مع بعض التحفظ د. صالح المتحيز لأم كلثوم دائما، بينما لا يجد ياسين، وهابيّ الهوى، غضاضة في ذلك ويؤكد :"لا أعتقد في هوايتنا حنين لعصر معين عشناه أو سيرة أشخاص، أنا لم أعش تلك الأيام ولا رأيتهم ولكن من يحب شيء ما يبحث عن الأصيل فيه".
يحكي ياسين عن كونه غريبا بعض الشيء بالنسبة لأقرانه من الشباب. فزملاؤه في العمل "ضبطوه" وهو ينقل إلى الكمبيوتر بعضا من مختاراته الموسيقية وظلوا يحدقون لفترة في بعض الأسماء: محمد أفندي صادق، عبد الحي حلمي، وعبد الرحيم حسنين ! وعندما طلبوا منه أن يشغل لهم أحدث ما عنده شغل لهم أغنية لمحمد ثروت! يتدخل م.رؤوف ليقول أن الأغاني الحديثة هي أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب في الستينات. يضحك الجميع ويذكر ياسين أن الحقبة الزمنية المفضلة لـ"الباشا" هي العشرينات والثلاثنيات التي شهدت بدايات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.
"اسمعوا دي" يعثر د.محمد فورا على اسطوانة قديمة تغني فيها أم كلثوم طقطوقة قديمة بأسلوب العشرينات: "الفل والياسمين والورد، عملوا سوا صحبة موضة - ويا الزهور دول ربطوا عهد، عايزين حبيبي في الأوضة". ويؤكد على أن لها أغاني قديمة جميلة غير معروفة للأجيال الجديدة ربما لأن كلماتها تحتاج لتوضيح، ويعلن عن أسفه أن تسجيلات قديمة كثيرة تندثر بسبب عدم الاهتمام بها من جانب المسئولين.

التشبث بالذاكرة
يحكي د. الباز عن تجربة له في دار الكتب المصرية في عهد رئيسها السابق. فقد تعرف عليه مصادفة، وعندما عرف د. الباز أن لديهم اسطوانات تحوي تسجيلات نادرة عرض أن يأتي بشكل منتظم إلى دار الكتب ويحضر معه جهاز تسجيل لكي ينقل محتوى الاسطوانات إلى صيغة الكترونية يسهل حفظها، فوافق. وعندما بدأ مهمته فوجيء بأن الاسطوانات مكومة فوق بعضها في المخازن، وأنها موضوعة في أغلفة خشنة تفسدها، وأن الموظفة المسئولة عن القسم منذ أكثر من 20 عاما لم تسمع أيا من كل هذه الاسطوانات ولم تشغل ولو مرة واحدة الجرامافون الموجود عندها ولو من باب حب الاستطلاع. واكتشف عندما كانت تساعده أنها تلقي بالاسطوانات في القمامة عندما تجدها مشروخة بدلا من محاولة إصلاحها! في الوقت الذي كان هو ينتشي لأنه يجد تسجيلا نادرا لبروفة للشيخ يوسف المنيلاوي مثلا. وفي النهاية اضطر لأن يتوقف عن هذا التطوع لأن بعض الموظفين شكوه للإدارة وقالوا أنه يسرب التسجيلات إلى خارج الدار!
يلتقط د.صالح طرف الكلام ليقول أنه متأكد أن هناك اسطوانات وتسجيلات تتلف في مكتبات الإذاعة ولا نسمع عنها في الوقت الذي خاطر مرة بحياته في سبيل تسجيل نادر! ويحكي أنه سمع مصادفة في إذاعة اسرائيل تسجيلا نادرا لإحدى أغنيات أم كلثوم، ولم يكن هذا التسجيل موجودا في الإذاعة المصرية ولا عندي أي من الهواة الذين يعرفهم، فترقب لشهور واستمع يوميا لبرنامج إذاعة اسرائيل صباحا ليعرف أي من أغاني أم كلثوم سيذاع مساء، وعندما أعلنوا عن بث الأغنية مرة أخرى، انطلق مساء بسيارته على طريق السويس ومعه جهاز تسجيل ببطاريات ليحصل على درجة نقاء عالية. وعند منطقة معينة توقف في الصحراء وترك نفسه للموسيقى إلى أن فوجيء بكشافات تخترق الظلام الذي حل وفوهات أسلحة تطرق على زجاج السيارة، فتأكد أولا من استمرار التسجيل ثم خرج إليهم ليعرف أنه توقف قرب منطقة عسكرية. وطبعا لم يتفهم كلامه المريب عن الأغنية و"إذاعة إسرائيل" إلا قيادات المنطقة من كبار الضباط فعاد إلى سيارته ليحمد الله أن التسجيل تم بنجاح.
تقترب الساعة من الحادية عشرة، وهو ما يعني موعد أغنية أم كلثوم في إذاعة الأغاني، فيفتح د. الباز الراديو وينصت هو ود. صالح إلى المدخل الموسيقى وبعد ثوان يخبره د. صالح باسم الأغنية وتاريخ الحلفة :"عندنا التسجيل ده" ويهزان رأسيهما باطمئنان ويغلق د.الباز الراديو ويأمر بالشاي ويضع اسطوانة "أصل اشتباكي مع المحبوب في هوايا" لصالح عبد الحي، ويستمر السماع وحديث الذكريات حتى منتصف الليل.


تصوير :محمد الميموني
نشر في "الشروق" الخميس 12 نوفمبر 2009
PDF

المزيد

اتجاه واحد إلى القاهرة


بعض عواصم الدول تحمل اسم الدولة نفسها، فلا مشكلة أن يسمى بعضنا القاهرة "مصر". لكن مشكلة كبيرة أن تكون مصر هي القاهرة، فتسافر إليها كل الأحلام والطموحات من كل المدن وتتركز فيها كل الفرص والتجارب.


في شركة الاتصالات التي تعمل بها شاهيناز عبد السلام، لاحظت الإدارة أن نسبة كبيرة من العاملين هم من مدينة الإسكندرية. الشركة هي فرع لمؤسسة دولية اختارت القاهرة عندما قررت الاستثمار في مصر. ولكن بسبب هذه النسبة الكبيرة من السكندريين فكرت الإدارة، كما تحكي شاهيناز، في افتتاح مكتب في الإسكندرية، وبدأت بالفعل في الاستفسار منها ومن زملائها السكندريين عن المستوى الاجتماعي في الإسكندرية والمستوى التعليمي لمدارسها وكلياتها. غير أن هذه الفكرة لم يكتب لها التنفيذ لأن الإدارة تراجعت عنها بعدما وجدت أن العديد من هؤلاء بدأ في الاستقرار في القاهرة أو رتب أموره لذلك بشكل دائم أو مؤقت، وبعضهم كان بالفعل غير منزعج من الإقامة في القاهرة بل ربما كان ذلك أفضل له من بعض الجوانب، مثل شاهيناز نفسها.
يصلح هذا الموقف كنموذج ولو محدود يشير إلى صعوبة تحديد المسئولية أو نقطة بداية المشكلة عندما نتحدث عن الحالة الصارخة لتركز الخدمات والأعمال والفرص والنشاط في القاهرة وحدها دونا عن باقي المدن المصرية، وبفارق كبير حتى عن الإسكندرية المدينة الكبرى العريقة. فالناس يلقون اللوم على الحكومة وأصحاب الأعمال لأنهم لا يوفرون خدمات ولا يغامرون باستثمارات كافية في المحافظات المختلفة بينما رجال الدولة مضطرون بشكل ما لزيادة الخدمات في العاصمة التي ينزح إليها الناس من كل مكان، ومن الطبيعي أيضا أن يفتتح المستثمرون أعمالهم وسط الجمهور الأكبر. من أولا: البيضة أم الدجاجة؟

هناك حالات مختلفة قد تشير بشكل ما إلى هذا الطرف أو ذلك ولكن لا يمكن حسم المسألة. ففي نفس الشركة التي تعمل بها شاهيناز هناك زميلتها هبة سامي التي انتقلت أسرتها بسبب عمل والدها من القاهرة إلى الإسكندرية للاستقرار هناك، ورغم أنها تفضل الحياة في الإسكندرية إلا أن كلتاهما الآن في القاهرة من أجل العمل.

شاهيناز تلائمها الحياة في القاهرة من بعض الجوانب، إلا أنها تعتقد أن تمركز الأعمال والأنشطة فيها سلبي وتلوم تخطيط الدولة بشكل أساسي: "أنا بالأساس متخصصة في الهندسة النووية وخريجة كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، كل المتخصصين في هذا المجال يعلمون أن المكان الأنسب لأي مفاعل نووي هو بجانب البحر. ولكن عندما فكرت في فرصة عمل أو تدريب في هذا المجال وجدت أن المفاعل الوحيد موجود في أنشاص". ورغم أن أنشاص تقع في محافظة الشرقية إلا أنها لا تبعد إلا 60 كيلومترا عن القاهرة، وتعتبر شاهيناز هذا دليلا على التفكير المفرط في المركزية لدى الدولة. غيرت شاهيناز تخصصها إلى مجال تكنولوجيا المعلومات ومن عام 2001 إلى 2005 تنقلت في الإسكندرية بين عدة أعمال وصفتها بأنها مؤقتة أو غير مجزية أو ليس لها مستقبل. معظم الشركات الكبرى أو الدولية تفتتح فروعها في القاهرة وفي مجال حديث مثل تكنولوجيا المعلومات كانت فرص العمل في الإسكندرية محدودة، ولذلك أتت إلى القاهرة.

عمل ونمط حياة
البحث عن فرصة عمل أفضل أو أي فرصة عمل متاحة هو الدافع الأول للانتقال إلى القاهرة، وتسارعت هذه الوتيرة في الستينات مع تركيز دولة الثروة على التصنيع والحاجة إلى الأيدي العاملة، ورغم أن مجالات الأعمال مثل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ذات طبيعة مختلفة ولا تتطلب التركز في أماكن بعينها، إلا أن القاهرة لا تزال تجتذب الاستثمارات ومقار الشركات الجديدة أو فروع الشركات العريقة، وبالتالي تتركز فرص الأعمال الجديدة فيها. وهو ما كان نفس السبب الذي أدى لانتقال هبة سامي من الإسكندرية إلى القاهرة. أسرة هبة كانت قد انتقلت إلى الإسكندرية بسبب عمل والدها مهندس الإلكترونيات في البحرية، ورغم أن الأسرة تأقلمت مع الحياة هناك وفضلوها عن القاهرة إلا أن الجيل الثاني من الأبناء قد ينتقل للاستقرار في القاهرة على غير رغبة منهم بسبب فرص العمل في تخصصاتهم غير المتوافرة في الإسكندرية.
أمر مشابه حدث مع أسرة بسمة طنطاوي، مهندسة الإلكترونيات. الأسرة كلها انتقلت إلى الإسماعيلية عام 1982 مع الوالد الطبيب الذي سيعمل في مستشفيات هيئة قناة السويس. ولكنهم عادوا إلى القاهرة قبل 3 سنوات بعد انتهاء عمل الوالد هناك. وبخلاف فرصة عمل بسمة، في شركة دولية للاتصالات لم تكن لتجدها فل الإسماعيلية، كانت هناك أسباب أخرى مثل الدراسة والمستوى المعيشي المختلف والحيوي. تقول السيدة سلمى راشد والدة بسمة: "قبل أن ننتقل كلنا كان الأولاد يدرسون في القاهرة بسبب عدم توفر التخصصات مثل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وبعض تخصصات الهندسة و لأن التخرج من كلية الهندسة جامعة عين شمس أفضل من جامعة إقليمية مثل جامعة قناة السويس".

تقول السيدة سلمى أيضا أن تطلع الأولاد إلى حياة أغني وأكثر تنوعا كان سببا، ورغم التقدم الكبير والنشاط الذي حدث في مدينة الإسماعيلية خلال فترة إقامتهم إلا أنهم طلوا طوال تلك الفترة يزورون القاهرة أسبوعيا للتسوق وشراء ما لا يتوفر هناك. تشير خاصة إلى الملابس وتقول أنه إلى وقت قريب كانت الملابس في الإسماعيلية بعيدة عن الموضة أو أذواقها لا تناسبهم بينما تحتاج البنات إلى معرفة الألوان الجديدة وأحدث الموضات. الترفيه والتمتع بألوان الثقافة والفنون غير متاحين إلا في أضيق الحدود في الإسماعيلية، وحتى عندما بدأت الفضائيات في الانتشار كان سعر الطبق اللاقط في الإسماعيلية أكثر من ضعفه في القاهرة وهناك بعض الكماليات الأخرى تضطر لزيارة القاهرة إلى شرائها.

التمتع بنمط نمط الحياة المتنوع والثري أو مستوى أفضل منه في رأي البعض هو أحد أسباب الكثيرين ممن ينتقلون إليها، أوعودة من كانت أمامهم فرصة الاستقرار خارجها في عمل ما.
ولكن يبدو أنه من الصعب مقاومة إغراء القاهرة خاصة بالنسبة للاجيال الجديدة المتطلعة للأفضل، وبالنسبة للأجيال الأكبر قد يكون البقاء وسط العائلة الكبيرة سببا إضافيا.

يرى البعض في ذلك نزوع للاستقرار في مكان المولد مع العائلة الكبيرة، وغياب روح المغامرة وارتياد الأماكن الجديدة وبدء حياة جديدة وتحمل خشونة العيش أوقلة الترف فيها حتى تزدهر، وتفضيل اللجوء إلى المدن الكبرى وحياتها الجاهزة، وذلك مقارنة بشعوب أخرى مثل الشعب الأمريكي. تعترض السيدة سلمى قائلة :"صحيح أننا مثل المصريين نفضل أن نكون بجانب الأهل وفي محيط اجتماعي حي، ولكننا عشنا هناك في الإسماعيلية أكثر من عشرين سنة، والتطور كان بطيئا جدا. وفي رأيي أن الدولة يجب أن توجه الاستثمار والتنمية أكثر إلى المدن الأخرى لتسرع من تطورها بدلا من تركز كل شيء في القاهرة".

مركزية موازية
ولكن حتى لوم الدولة قد تبعها وتركز في القاهرة بشكل ما. هكذا يرى مايكل نبيل، الناشط الشاب في حزب الجبهة الديمقراطية في أسيوط: "المركزية الحكومية سحبت معها المعارضة، معظم الحركة السياسية والحقوقية متركزة في القاهرة. الناشطين في الأقاليم معدودين جدا. وحتى مناقشة تأثيرات المركزية أصبحت بالنسبة لنا من الأمور المقتولة بحثا ونتعامل معها كأمر لا واقع لا يمكن أن يتغير إلا بتغير النظام السياسي كله".

قد يكون لذلك مميزاته بالنسبة لمايكل، فقلة عدد الكوادر وضعف المنافسة يسهلان ترقي الناشط السياسي في محافظته، وبالفعل بشكل أسهل وأسرع أصبح مايكل عضوا بالهيئة العليا للحزب. ولكن استمرار صعوده وترقيه يبدو مرتبطا بتواجده في القاهرة، وقد يكون ذلك أحد "الأسباب الشخصية" التي يقول مايكل أنها ستدفعه لتفضيل الحياة في القاهرة مستقبلا.

هذا كان أيضا حال شاهيناز عبد السلام التي حاولت أن تنشط مع حركة كفاية منذ 2004 في الإسكندرية ولكنها كانت تضطر للقدوم إلى القاهرة أسبوعيا لتشارك في أنشطة الحركة، وحتى عندما حاولت أن تتصل بالحركة الحقوقية في مدينتها فوجئت بالتراخي الكبير لفروع المنظمات في الإسكندرية: "كنت أذهب فأجد فروعهم مغلقة، أو أجد واحدا فقط في المكان يقول لي أنهم متوقفون في العمل. كل شيء يحدث فقط في القاهرة. وعندما كنا نتظاهر أحيانا في الإسكندرية كان الأمن يهددنا: سيحدث معكم مثلما يحدث في القاهرة لكن لا أحد سيسمع عنكم هنا !".

الأسباب الشخصية تمتزج بالعملية لتجعل الحياة في القاهرة أكثر جاذبية لكل أفراد "النخبة" السياسية أو الثقافية، سواء بسبب حالة "موت السياسة" في كل مكان باستثناء التمثيل الرمزي للاتجاهات والتيارات في العاصمة. وحتى جماعة مثل الإخوان المسلمين لديها قواعد كثيفة في المحافظات، يفضل شبابها ممن لديهم طموحات واسعة الانتقال إلى القاهرة. يقول محمد عبد الكريم، طالب الهندسة بجامعة الفيوم، والمتحدث الرسمي باسم طلبة الإخوان في الفيوم: "هناك أكثر من مجال لنشاط الإخوان معظمها نشط في المحافظات لوجود الكوادر بالإضافة للنواب البرلمانيين من كتلة الإخوان. لكن من أجل أن تعد نفسك ككادر سياسي وتتصل بالرموز السياسة في الجماعة عليك أن تذهب إلى القاهرة حيث الزخم والنشاط والحركة". يقول محمد أنه بشكل شخصي يجب قريته الصغيرة في الفيوم ويتمنى الحياة فيها لكنه سيضطر في النهاية لتركها إلى القاهرة إن لم يكن بسبب الطموح السسايسي فلكي يجد عملا جيدا كمهندس مدني وهو ما لن توفره له حركة البناء البطيئة في القرية وربما في الفيوم كلها.

النخبة الثقافية أيضا مركزة في القاهرة، القليل فقط من الأدباء والكتاب يظلون في مدنهم وقراهم. والأغلبية تنتقل بشكل دائم أو تأتي بانتظام من أجل عقد الصلات والعلاقات بالوسط الثقافي والصحفي ومن أجل فرص النشر ومتابعة الفاعليات. ربما كانت مصر البلد الوحيد التي يطلق فيها على الأدباء من خارج العاصمة "أدباء الأقاليم" في فاعليات رسمية !

منذ سنوات قليلة بدأت الإنترنت تقلل من حدة هذه الحالة، شباب كثر وجدوا فرصا أسهل للنشر والانتشار، ولكن الأمور لا تزال تسير في اتجاه واحد وعلى الأديب الشاب أن يتخذ من القاهرة مكانا لشهرته وتواجده، من الصعب أن يكون العكس. فمحمد أبو الفتوح غنيم، الصيدلاني المقيم في طنطا والشاعر الشاب، وجد فرصة للنشر مع دار نشر جديدة بدأت عملها بالنشر لمدونين تتعرف عليهم من مدوناتهم. اشترط غنيم أن توزع الدار ديوانه الأول في مدينته طنطا حيث محيطه الاجتماعي الأساسي، وتم الاتفاق على ذلك. ولكن يبدو أن التنفيذ كان عسيرا لأن الدار لم تقم بذلك وتسبب ذلك في خلاف كبير بينه وبين الناشر انتهت بسببه علاقتهما.

قبل ذلك الموقف كتب غنيم في مدونته تحت عنوان "مصر الطاردة" عن حالة المركزية الصارخة في مصر التي تجعل معظم المحافظات طاردة وقلة منها جاذبة، وقال أن ذلك أحد أسباب كون مصر كلها طادرة للكفاءات والمواهب والطموحات. فغنيم يرى أن الحالة التي تطرد الشباب من قراهم إلى المراكز ثم إلى المدن ثم إلى المدن الكبرى ثم إلى العاصمة، تجعل الخطوة الطبيعية القادمة هي طردهم خارج مصر.
المسار ذو الاتجاه الواحد إلى العاصمة كما يفرغ المدن والقرى "الطاردة" من الأحلام والطموحات فإنه يلقي بها في الزحام الذي يقتل كثيرا منها.


  • عكس الاتجاه مؤقتا

بعد عودته من السعودية ليبدأ دراسته الجامعية هنا، كانت درجات أحمد الشيخ تكفي ليدخل كلية الطب جامعة القاهرة. ولكنه فضل أن يذهب إلى كلية طب الأسنان بجامعة المنصورة وأن ينتقل إلى الحياة هناك طوال فترة دراسته من 2003 حتى هذه السنة حيث يبدأ الامتياز.

لدى أحمد الشيخ مبرراته لمثل هذا القرار الذي جعله يسير عكس الاتجاه:" مدن الخليج منظمة رغما عنها، وعندما أتيت هنا لم أحتمل القاهرة، القاهرة مدنية الفوضى المدمرة للأعصاب. كبيرها اللي فارد دراعه، الأعلى صوتا، الأكثر فهلوة، وأنا لم أعتد على ذلك. وفي نفس الوقت كانت أسرتي على وشك العودة إلى القاهرة وأنا أردت أن أستقل بحياتي بعيدا عنهم". اختار أحمد المنصورة لأنها قريبة من مسقط رأس أسرته في ميت غمر ولأن فيها عدد من أصدقائه كما أنها قريبة نسبيا من القاهرة.

ورغم أن أحمد الشيخ شاعر إلا أن مجتمع المثقفين في وسط البلد لم يعجبه ولم يغره: "بالعكس، هو أحد أسوأ الأشياء في القاهرة. مجتمع نرجسي وشوفيني. ومعظمه بلا علاقات إنسانية حقيقة. شعر طويل وتي شيرت جيفارا وزجاجة ستلا وكوفية فلسطين وكتاب رديء في السوق".

على خلاف ذلك يرى أحمد في المنصورة مدينة راقية ومبهجة. وهادئة غالبا وحتى زحامها منظم بالمقارنة بالقاهرة. ويقول أن بعض مقاهيها يجمع بين حميمة المقاهي البلدية في القاهرة وبين هدوء ورقي الكافيهات الحديثة.

ورغم كل هذا المديح فإن أحمد الشيخ يعبر عن أسفه من أنه سيضظر بعد انتهاء الدراسة وما يلحقها من امتياز وتكليف سيضطر للعودة للإقامة في القاهرة: "عندي شقة هناك، كما أنني لا أتوقع أن أجد عملا هنا. هناك عدد كبير من أطباء الأسنان في المنصورة، ولا مكان لطبيب جديد".

تجربة أحمد تتكرر بأشكال مختلفة تجعل الخروج من القاهرة فعلا مؤقتا ينتهي مع البحث عن عمل مناسب، أو يمكنه أن يصمد لجيل واحد إذا كان بسبب وظيفة ما في محافظة أخرى ولكن مع الجيل الثاني تعود الأسرة لتسير في الاتجاه المعتاد، وهو ماحدث مع أسرة بسمة طنطاوي.

فور أن انتهت فترة عمل الوالد في مستشفيات قناة السويس حتى عادت الأسرة إلى القاهرة مرة أخرى من أجل دخول الأبناء جامعات في القاهرة. تقول والدتها السيدة سلمى راشد:"رغم ذلك كانت تجربة جيدة وتصلح لكل أسرة صغيرة تبدأ حياتها. الحياة هناك سهلة والجو أكثر نظافة وهدوءا. البضاعة العادية رخيصة - باستثناء الأشياء المميزة والفاخرة أو الجديدة - والمدارس جيدة. بالمقارنة بالقاهرة كنت أشعر هناك أن اليوم 48 أو 72 ساعة. المشاوير لا تستهلك الوقت والأعصاب. حتى الآن نذهب إلى هناك فترات للاستجمام. ولا زلت أقطع الطريق إلى الإسماعيلية لاستخراج أوراق أو إنهاء إجراءات وأعود وقد يستغرق ذلك وقتا أقل من فعل ذلك في القاهرة ويحدث ذلك بشكل أسهل وأكثر بساطة".

يشير الباحث د. محمد على حسانين في دراسته عن الاتجاهات الجديدة للهجرة الداخلية أن عوامل الجذب في المناطق الجاذبة مثل القاهرة الكبرى ليست هي الأكثر حسما، ولكن عوامل الطرد في المناطق الطاردة هي الأكثر تأثيرا وتحريكا للهجرة الداخلية.

ويبدو أنه بسبب ذلك لا تصمد كثيرا إيجابيات الحياة في المدن الصغيرة أمام سلبياتها. فلاتصمد محاولات الهجرة العكسية بسبب ضرورات الحياة والبحث عن فرص عمل، أو بسبب تطلعات الأجيال الجديدة التي لا تستطيع أن تبعد نظرها عن بريق العاصمة والمستوى الاجتماعي المميز والحياة المتنوعة الثرية والخيارات المفتوحة. ويظل الخروج من القاهرة رهنا بفرص عمل مرتبطة بأماكن بعينها مثل العمل في السياحة أو القضاء أو التدريس في جامعات إقليمية أو ربما كنوع من البحث عن أجواء جديدة ملهمة مثلما يفعل بعض المثقفين والفنانين في بعض الأماكن منها قرية "تونس" في الفيوم.


  • مدينة المهاجرين

"إنت منين أصلا؟ " هو سؤال معتاد يوجه لكل ساكن للقاهرة، يفترض مسبقا أن قلة فقط هي التي ترجع أصولها إلى العاصمة. وهو الافتراض الذي تدعمه الدراسات عن الهجرة الداخلية في مصر والذي يتجه القسم الأعظم منها إلى القاهرة الكبرى.

من 700 ألف مهاجر في بداية القرن العشرين إلى 4 مليون قرب نهايته تزايدت أعداد المهاجرين داخليا بين محافظات مصر. الأرقام سجلها د. محمد علي حسانين في رسالته للدكتوراة "الهجرة الداخلية فى مصر خلال الفترة «١٩٦٠-١٩٩٦»- دراسة جغرافية" التي ناقشها هذه السنة قبل ثلاثة أشهر.

شكلت موجات الهجرة الداخلية بالفعل التركيبة السكانية للقاهرة الكبرى، ففي عام 1960 بسبب مشروعات الثورة التنمية والصناعية الكبيرة رصدت الإحصاءات أن القاهرة شهدت هجرة من المحافظات أخرى شكلت ثلث سكانها آنذاك، وهذه كانت أكبر موجة هجرة إلى القاهرة رغم أن المعدلات لم تنخفض كثيرا، ففي عام 1996 رصدت الإحصاءات أن الموجات الأحدث من الهجرة شكلت نحو ربع سكان القاهرة. والموجات المتتالية للاستقرار في القاهرة جعلتها مكان تركز الزيادة السكانية في مصر وهو ما حاصر المدينة من جهتين.

فمن ناحية زادت مساحة العشوائيات لتتحمل الطلب على السكن الرخيص من قبل المهاجرين الهاربين من معدلات الفقر الأكثر ترديا في المحافظات التي تعاني من انخفاض نصيب الفرد في الناتج القومي. ومن ناحية أخرى سجل نمط الاستهلاك فيها معدلات عالية بسبب ارتفاع مستوى معيشة قطاعات أخرى من المهاجرين، حيث يرصد د.حسانين أن ترقي الحالة المهنية يأتي مصاحبا لهجرة القطاعات الفنية والعلمية والمديرين والإداريين. أكثر أشكال الاستهلاك تأثيراعلى المدنية هو استهلاك السيارات، ففي أوائل الثمانينات كانت القاهرة من المدن التي حققت أعلى معدلات زيادة في أعداد السيارات الخاصة، وفي عام 1999 كانت في القاهرة مليون سيارة بحسب تقرير لوزارة النقل صدر عام 2002. وهو ما أدى إلى أزمة مرورية دائمة تخنق العاصمة على الدوام، ويعبر عن ذلك دراسة أجريت رصدت أن متوسط سرعة السيارات في العاصمة كان نصف متوسط سرعة السيارات في مدن ليست أقل ازدحاما مثل فرانكفورت او لندن بحسب نفس التقرير.

وفي 2006 أصدر مكتب الأمم المتحدة بالقاهرة ومعهد التخطيط القومي تقرير التنمية البشرية الذي أوصى بإعلان القاهرة مدينة مغلقة للحد من الهجرة الداخلية إليها، ورسم خريطة عقارية جديدة تركز على المدن الجديدة والتجمعات العمرانية في المحافظات المختلفة، ودعا إلى إنشاء عاصمة جديدة إدارية تكون مقرا للحكومة من أجل انقاذ مستوى الحياة في القاهرة وتخفيف الضغط السكاني عليها مع الاحتفاظ بها مركزا ثقافيا وتجاريا.

يشير د. حسانين في دراسته إلى جهود الدولة وخططها من أجل تقليل الهجرة الداخلية إلى المحافظات الجاذبة وعلى رأسها القاهرة، ويذكر التوسع في إنشاء المدن التوأمية حول المدن الكبرى مثل مدن 6 أكتوبر ومايو والعاشر من رمضان ومدن ينى سويف الجديدة والمنيا الجديدة، ومحاولة تنشيط الصناعة والسياحة في مناطق مختلفة لجذب السكان إليها، ولكن دراسته لا تتوقع أن يسهم ذلك في تقليل الظاهرة إلا بنسبة ضئيلة. فيقول أنه بفرض ثبات معدل النمو السكاني وثبات الأحوال السياسية والاقتصادية الحالية فإنه من المتوقع أن يبلغ حجم الهجرة الداخلية 5 مليون في 2011 وأن يزيد عن 7 مليون عام 2026.


  • "مقبرتي التي أخشاها"

"منذ عدة سنوات كان انفتاحى الأكبر على العالم ، عندما بدأت باستخدام الشبكة التى يحلو للبعض أن يسميها بالعنكبوتية (..) وبعدها عشت سنتين من عمرى فى القاهرة ، فتعرفت على أناس أكثر ، وزرت أماكن كنت فقط أسمع عنها ، واقتربت من شخصيات كنت فقط أرى صورها ، والأهم من كل هذا كنت قريبا من مناطق صناعة الحدث ، ومن النقطة الساخنة التى منها يبدأ الغليان قرأت كتبا، وحضرت ندوات وفعاليات ومهرجانات. حياة مليئة بالصخب والضجة ، وأحيانا المتعة. وبعدها عدت ..
إلى حيث مقبرتى التى أخشاها، إلى حيث الهدوء والملل، إلى حيث الطبيعة والبساطة.
ربما يغبطنى الكثيرون على مكان كهذا أعيش فيه. يقولون: هواء نقى، وأناس قلوبهم نقية ، وحياة وادعة. ولكني وجدت شوارع قذرة أغرقتها مياه المجارى، أو تلك التى تبرع الأهالى بسكبها ، أو مخلفات تلك الحيوانات فى طريقها إلى الحقل ذهابا وإيابا، ووجدت أناسا بسطاء، يكاد يقتلهم الفراغ فأخذوا يسلون أوقاتهم بالحديث عن هذا وذاك، والنميمة والوقيعة والحسد والمكيدة وما أكثر المصاطب فى بلادنا.
وجدت حياة يسمونها وادعة ، وأسميها مملة فلا أحداث ولا اهتمامات ، ولا مشاغل كبرى ، ولا حملةً لفكر ، ولا شخصيات مؤثرة فقط عشرات من هؤلاء الذين يعيشون ويموتون وينسون (..) أجدنى محاطا بزملاء كل همهم معرفة كلمتين عن الطب ، من أجل فتح عيادة أو العمل بمستوصف فى مكان ما ، من اجل الحصول على بعض جنيهات فى كل كشف ، بلا طموح ، ولا نهضة ، ولا علم. الهدف، هو اقتسام الكعكة مع اطباء المنطقة... أتذكر من آن لآخر هدفى ، وأجاهد حتى لا تتمكن المقبرة من احتوائي لعلى أفر منها قريبا إلى حيث أستطيع صنع حياتى".

هكذا كتب محمد الشريف، طالب الطب في جامعة الفيوم، في مدونته ونقله في منتدى طلبة الفيوم ليثير الجدل بين زملائه. بعضهم اتهموه بالتعالي عليهم :"أصل أهل القريه ناس مساكين وغلابه وانت راجل دكتور مين قدك" وبعضهم من سكان مدينة الفيوم رد عليه قائلا: "أراك تنظر الى المدينة وكأنها سطح الأرض الذى تتمنى البقاء فوقه. ليس معنى أنك قضيت بها عامين أنها تكون الحياة التى تتمناها والتى حرمت منها، أنت لم تر فيها الا الأشياء التى اردت ان تنظر اليها لتقارن.. اذا كنت وجدت فى القرية الحسد والحقد فهذة أشياء وعادات سلبية بالدعوة نغيرها لكن فى المدينة ما يتعدى هذا بكثير وما هو اخطر من هذا .. ارجع الى بلدتك وانظر الى ايجابياتها". غير أن محمد عبد الكريم طالب الهندسة ابن نفس القرية كان متفهما له واعتبرهم متحاملين عليه وقال أن زميله يعبر عن طموحه :"أخي يريد أن يحدث تغييراً لا أن لايقنع بما في ذات اليد. يجد في نفسه طاقة وأمل وطموح لكي يبدع ويصنع ويخترع ويوجد، لا يريد ان يعيش حياة ابن القرية النمطيه الروتينيه المتكرره بنفس الخطوات والترتيب. لايريد ان يعيش عادي ويتزوج عاديه ويخلفوا عادي ويموتوا عادي وكأنه لاشئ قد حدث، وتأتي أجيل لاتعلم عن عادي أي شئ غير أنه إنسان عادي. فلايمكننا ان نتهمه بالأنانيه (..) فلديه حلم كبير إن تحقق فسيخدم قري ومدن بل أمة، ولن يقتصر النفع على قريته هو فقط".
ولكنه داعبه فيما يخص إشارته إلى "المصاطب" بشكل سلبي قائلا:" على فكرة إحنا عندنا واحدة عايزك تاجي تقعد معايا شويه عليها. بتحلى القعده عليها في الصيف".


نشر في "الشروق" الأحد8نوفمبر 2009
PDF
الصورة لميدان التحرير من Arab Compiler


المزيد

الأحد، ١ نوفمبر ٢٠٠٩

عمرو أم تامر ؟ .. تلك هي المسألة !



تزامنا مع صدور ألبوم لأحدهما أو قرب إعلان جائزة أو استفتاء تطفو المقارنة بين عمرو دياب وتامر حسني على السطح وتتحول أحيانا لصراع بين مجموعتين من الشباب في ساحات تعبيرهم. الجدل المحتدم يعكس بعضا من تفضيلات وملامح الأجيال المنقسمة بين "الهضبة" و"نجم الجيل"، كما كان صعود كلاهما المثير للجدل والانتقادات والصخب معبرا عن معارك تحل فيها تطلعات وأمزجة جديدة محل أخرى قديمة.


"المتمرد الشعبي" يغير ملابسه ولا يغير مكانه


في فيلم "آيس كريم في جليم" غنى سيف (عمرو دياب) أغنية "رصيف نمرة خمسة" التي كتبها له صديقه المثقف المناضل، ورددها بين الناس في الشوارع مع فرقته، وكانت النتيجة هي: التخشيبة. يحكي عمرو دياب في الفيلم الوثائقي "الحلم" الذي يسرد قصه صعوده وسيرته الفنية: "عندما سمعت كلمات "رصيف نمرة خمسة" أمسكت العود وتقمصت حالة الشيخ إمام- الملحن والمغني النضالي- ولحنتها". ولذلك كانت هذه الأغنية من أغان قليلة تجمع بين الجمهور المخلص عمرو دياب وبين "الشباب المثقف". ولكن في الفيلم وداخل التخشيبة تمرد سيف على صديقه وقال أنه سيغني أغاني بسيطة يشعر بمعناها وسيكون نفسه وهو يشق طريقه.
من بين العديدين من محبي عمرو دياب يرى خالد سعيد، المحامي الذي اقترب من أواخر الثلاثينات، أن الفيلم الذي كتبه الأديب محمد المنسي قنديل وأخرجه خيري بشارة كان تمثيلا لروح عمرو دياب الصاعدة بين الشباب :" الفيلم عرض سنة 1992 سنة تخرجي من الجامعة. وأنا لم أكن مثقفا ولا لي نشاط سياسي. لم أشعر أن تلك الأشياء تناسبني ولا شعرت بالقرب من هؤلاء الأشخاص. وكثير من أبناء جيلي يشاركونني نفس المشاعر. كانت الثمانينات والتسعينات سنوات باردة، كنا نسمع عن الأحداث الساخنة في الستينات والسبعينات، ولم تكن تلك الأيام صاخبة مثل أيامنا الآن مع ثورة الاتصالات والفضائيات والإنترنت وكل هذه الأشياء. وسط هذا "البرد" كنا ننتظر التعبير البسيط الجميل، للحن نصفق ونرقص عليه ونتقافز في الرحلة والحفلة من غير فذلكة. وعمرو كان دائما من يقدم ذلك".
في الفيلم ، يبحث عمرو دياب وفرقته عن فرصة فلا يجدون إلا مسابقة لفرق المعوقين! فيقررون خوضها ولكن أثناء الغناء يتخلى عمرو عن تمثيله شخصية ضرير ويخلع نظارته السوداء، ثم يخلع أعضاء فرقته "عاهاتهم"، أحدهم يفك جبيرة ذارعه أويرمي بعيدا العكاز ويقف على قدمه ويغني عمرو وهو يرقص وفي خلفيته البحر: "الناس حاسين بالبرد وفي قلبي ده شم نسيم" ويبدو أن المشهد كان بمثابة بيان باسم جيل وجد فيه تعبيره المميز المليء بالحيوية وسط حالة من الجمود والتيبس.
يتفق خالد تماما مع ذلك: "صحيح فعلا. ولم يقل عمرو البيان بشجن ولا هدوء. غناه وهو يرقص ويتنطط على البحر! وفي نفس الأغنية قال "أنا مش مألوف دلوقتي لكن للجاي مألوف وهاعاند أيوه هاعاند دايما من غير تسليم" وفي نفس الفيلم لما غنى "هاتمرد ع الوضع الحالي" لم يكن كلاما في السياسة بل تمردا عاطفيا فهو يكمل "ومش هاسهر لعنيكي ليالي"! ".

"ما بلاش نتكلم في الماضي"!
من بين مطربين ظلوا أقرب لظل أسلافهم، انطلق عمرو دياب إلى فضاء جماهيري أكبر وأوسع. رغم الانتقادات التي وطالته باعتباره يقدم أغان سطحية وألحانا خفيفة وصاخبة ويتقافز على المسرح حتى هو يغني عن الشوق والهجر. كان الاتهام الأكبر أنه "موضة" وواجهه به مفيد فوزي في حوار عام 1989، وكانت إجابة عمرو دياب أنه يتمنى فعلا أن يكون موضة جديدة تجذب الناس ولكن ليس موضة تذهب بلا أثر.
"ومالها الموضة؟" يتابع خالد: "الشباب مغرم بمتابعة الموضة والجديد . أذكر أننا كنا نتابع بشغف البرامج القليلة عن الأغاني الأجنبية على القناة الثانية ثم في الفترة المفتوحة" السوبر فايف" في القناة الخامسة" يضحك "كانت أيام قحط وجفاف بعيد عنك قبل الإنترنت. ومن طبائع الأمور أن ننظر إلى الغرب الذي يتحرك باستمرار ويقدم الجديد. أعتقد أن عمرو دياب كان يقدم أغاني شبابية شرقية وفيها موسيقى غربية جذابة لكنها لا تجعلك تشعر أنها غريبة عنك، وفي نفس الوقت كان يمزج من هنا وهناك ويقدم موضة للشباب في اللبس وتسريحة الشعر وحتى في الكلام ".
العديد من الكتب الموسيقية منها "الموزايك المتوسطي" لجوفريدو بلاستينو اعتبرت عمرو دياب من مؤسسي أسلوب "موسيقى البحر المتوسط" التي يمزج بين تيمات شرقية وغربية. في وثائقي "الحلم" يبدو واضحا من حديث الملحنين والشعراء والموزعين الذين تعاملوا معه أن عمرو دياب لم يكن مجرد مطرب بل قائد فريق عمل. فبالإضافة أنه يلحن أحيانا فهو الذي يختار الأسلوب والوجهة والتناول وهو ما يجعل أعماله حلقات في "مشروع شخصي" محوره "شخص بطل أو نجم" لذلك فتراكم أعماله صنع نجوميته بينما تشتهر أغنية أو أخرى لغيره ولكنهم لا يراكمون مثله.
كلماته أيضا تم اتهامها بانها سطحية أو تافهة، على الأقل مقارنة بكلمات "الطرب الأصيل" أو بعض أقرانه ممن يغنون لشعراء العامية المثقفين. كتاب الأغاني الذين تعاملوا معه في البداية قالوا أنه كان أحيانا يسعى إلى كلمات الأغاني التي لم يقبلها غيره أو استغربوها، فغنى: "وإيه يعني تودعني" و"طيب إزيك ما ترد علينا" و"هاتمرد على الوضع الحالي" و"بلاش نتكلم في الماضي" و"يبقى إحنا كده خالصين". يستشهد خالد بمقولة حلمي بكر في وثائقي "الحلم": "عمرو دياب بيسمّع الناس اللي عاوزين يسمعوه، قبل ما يعوزوه".
هنا يتدخل ياسر حسن، الذي لا يبدو متحمسا لعمرودياب بنفس قوة صديقه خالد: "عمرو دياب بياع ذكي. وهويعرف كيف يسوّق نفسه ويعرف قيمة البروباجندا التي تشغل ذهن الشباب الخفيف الذي تعجبه تيمة موسيقية مميزة على أي كلام، ويا سلام لو كان الكلام أيضا "صايع" أو صادما او غريبا. وهذا هو ما كان يفعله ولكن في الأيام الأخيرة يعيش على تاريخه لأن آخرين ظهروا وهم أصغر و"أصيع" منه وشاطرين في البروباجندا أيضا".
يواجه ياسر استهجان صديقه خالد كلامه قائلا: "وثائقي "الحلم" مصنوع كله من وجهة نظر عمرو دياب ومع أصحابه. وهذا الفيلم الذي يذكّر الناس بأن عمرو فعل كذا وكذا يعبر عن قلق من صعود آخرين، بوضوح: تامر حسني. وأصلا فكرة المقارنة بينهم هي فكرة ذكية للبروباجندا يتمسك بها تامر وجمهوره للصعود على أكتاف عمرو ومحاولة شغل مكانه".
ينفعل خالد ويضحك بسخرية عندما يأتي ذكر تامر حسني ولكنه يعود ويقول :"ربما، الصورة الكلية لتامر حسني تبدو فعلا أقرب لـشباب اليومين دول الذين يتركون شعرهم ولحاهم و"سهتانين" شوية وعاطفيين زيادة وأخف كثيرا من جيلنا. لكن عمرو دياب كان صورة أخرى، بطل طول بعرض، شاربه وذقنه يحلقهما جيدا مثل النجوم الكلاسيكيين. يقفز ويتحرك ساعات لكن أحيانا أخرى يكون شابا غامضا هادئا - خاصة في بوستر ألبوماته - ينظر إلى الكل بتحد ساخر" يضحك وهو يكمل:"دائما كنت أتصور أن هذه النظرة تجذب الفتيات".
من الشاب "الكول" المتمرد في ثقة الذي يصنع موضة الشتاء ويختار الشكل المناسب للقمصان ذات الأكمام أوالجاكيت الجلد إلى صورة الشاب الذي يكشف عن عضلاته وهو يرتدي ملابس صيفية أو يخلع قميصه نهائيا كما في بوستر "ليلي نهاري" أو يرقص على موسيقى الهاوس والتكنو في "وياه، يتابع عمرو دياب تقمص الصور الأكثر جاذبية للشباب. يتدخل هنا ياسر ساخرا :"صورة عمرو دياب في أواخره وإصراره على إبراز عضلاته وارتداء ملابس المصيف هي نفسها صورة "فورمة شباب الساحل" التي سخر منها أحمد مكي في فيلمه "طير إنت"، ومزيكا التكنو التي أغرق بها أغانيه يحاول بها أن يداعب روح الصيف التي تأخذ الشباب إلى الديسكوهات وأن يجعل أغانيه هي إيقاع الحفلات بعد انتشار الدي جيه الذي يفضل دائما هذه الأغاني المعدنية".

"هاتلاقي فين أيامنا ؟"
يتراجع خالد هنا قليلا أمام ياسر ويعترف أنه يحب أغاني عمرو القديمة أكثر التي يشعر فيها بطزاجة أكبر على حد تعبيره ولكنه يقول أنه لا يزال سواء بسبب تاريخه أو حاضره متربعا على عرش الأغنية المصري والعربية وفق كل الإحصائيات ويحق له أن يتسمى بـ"الهضبة" وأن يترفع عن أي معارك او مقارنات. ويقول أنه يحسب له رغم المشوار الطويل أنه يستميل الملحنين والشعراء والموزعين الشباب لكي يظل دئما قريبا من طريقة تفكيرهم ومزاجهم.
ولكن ربما يضعف ذلك من مركزيته في فريق العمل وفي اختياراته بينما تزيد فرص شاب أصغر مثل تامر حسني أيضا يكتب كلمات أغانيه ويلحنها ويصبغ أغاينه بلمسة مميزة وجديدة فهو بنافسه في نفس ساحته وهي التعبير الأكثر طلاقة وجذابية وحداثة.
يعلق ياسر: "أنا لا أعرف لماذا لا يعيش الفنانون سنهم ويعبرون عنها. السوق طبعا يتطلب أن تخاطب الشباب فهم الممولون والمهتمون. ولكني أستغرب صورة عمرو دياب التي تبدو أكثر شبابا مني بينما يقارب عمره الخمسين الآن".
ولكن يبدو أن حلم النجومية الممتدة وصورة الشباب الدائم المتجدد والتربع المستمر داخل دائرة الضوء بدون صخب وبعيدا عن الإعلام والصحافة لا تزال تعبر عن مزاج آخرين من جيل خالد وياسر أو ما بعده، وربما أيضا من بعض المثقفين الجدد الذين تمردوا على صورة المثقف التقليدية. فالروائي الشاب طارق إمام يحكي في مدونته أنه كان يواجه باستهجان من كبار المثقفين لو تطرق الحديث إلى عمرو دياب، مفضلين الحديث عن الطرب الأصيل أو التجريبي الحديث، ويعبر عن ارتياحه أنه وجد بين أبناء جيله من المثقفين والكتاب الجدد اهتماما مشتركا بعمرو دياب وأغانيه مهما كانت التحولات، ويعلن عن حبه لعمرو رغم ما قد يراه فيه من "ضعف" تطلعا إلى ما يمثله من حلم: " لم عد حتى أخجل من الاستفاضة في الحديث عنه ــ إن أتى ذكره ــ أمام أتخن مثقف مكتئب منكفيء متضخم متعالٍ منحاز للطرب التجريبي أو للغناء الأصيل .. ولا يعنيني أي منهما، أحب عمرو دياب.. مطرب السوق .. الذي يقول كلمات دون معنى أحيانا من قبيل (عودوني عليك احبك ) الذي يتفاخر بعضلاته.. اللي ما قراش كتاب في حياته ..أحب عمرو دياب الذي يطربني، والذي تمنحني قصة حياته أملاً . الذي يمنحني صورة النجم التي أحب أن تكون لي. أحب عمرو دياب.. الأفيش الضخم ، الذي لا يبتسم قدر ما يبدو متجهماً .. بينما يطل على القاهرة الواسعة بوجدان نازح. للأسف، بدأ عمرو دياب يصير معلناً بين مثقفين جدد، بينما يستعد طابور قادم لإعلان تامر حسني مطرباً لجيل آخر".



نجم نصف الجيل وعدو النصف الآخر

للأسف، لم يكن في مقدور ليالي أن تحضر تلك الحفلة لتامر حسني. لذا فإنها ذهبت إلى منزله مع أختها وبعض أصدقائهما وانتظروه قبل موعد الحفلة بوقت مناسب لكي يروه وهو في طريقه إلى هناك. وأول ما خرج أحاط رفاق ليالي به وتبادلوا معه أحاديث المعجبين المعتادة إلا ليالي التي احتاجت بعض الوقت لتقطع صمتها وتقول له أن لديها مشكلة ما. تقول أن تامر وقف يسمعها باهتمام رغم محاولة بعض مرافقيه استعجاله، لتحكي له أن صوتها جميل وتريد أن تبدأ مشوراها في عالم الموسيقى ولكن المشكلة أنها محجبة.
لم تكن تتوقع ليالي أن يكون رد تامر هو أنها بحجابها أفضل بكثير ويجب ألا تتخلي عنه من أجل دخول الوسط الفني الذي قال أنه لا يشعر فيه بعدم الارتياح بل وأضاف أن "الغناء أكبر مشكلة في حياته" على حد روايتها. وعندما قالت له أنها فعلا لن تتخلى أبدا عن حجابها شجعها وحياها ثم ركب السيارة وودعها مبتسما: "باي يا عسل".
تحكي ليالي هذا الموقف في منتدى "رابطة عشاق تامر حسني" وتعبر عن ارتياحها لنصيحته وكلامه وتقول :"فعلا كنت حاسة إني باكلم أخويا الكبير اللى خايف عليا وبينصحنى". لترد عليها إحدى مشرفات المنتدى مشيدة بخوف تامرعلى أخواته البنات وتقديره للحجاب، مؤكدة أن كلامه تأكيد لما قاله في إحدى البرامج أنه يتمنى ألا يموت وهو لا يزال مطربا !
مثل هذه الحوارات في منتدى الرابطة قد تبدو غرائبية للبعض، ولكن الردود النشيطة والتعليقات المؤيدة المتحمسة لـ"عشاق تامر" هي مؤشر على مسافة كبيرة بين من يرون ذلك غريبا ومتناقضا ومثيرا للأعضاب وبين من يرونه رائعا ومبررا لكون تامر هو فعلا "نجم الجيل" المعبر عنهم والقريب منهم والذي صعد بقوة خلال 5 سنوات ليناطح عمرو دياب المستقر على قمة سوق الغناء عشرين عاما.

"هاعيش حياتي"
في إحدى مشاهد فيلم "عمر وسلمى"، يجلس عمر ( تامر حسني) على درجات سلم قصير في ساحة الجامعة الخاصة ممسكا بجيتاره يعزف ويغني وحوله شباب وفتيات يصفقون. يوجه غنائه أحيانا إلى نقطة بعيدة حيث تقف سلمى (مي عز الدين) الفتاة الجادة التي يحاول التقرب منها: "يعني إيه أبقى عايش مش شايف غير صورتك"، ثم يلتفت في وسط الأغنية الرومانسية ويحول مسارها تماما "يعني إيه أبقى عايش مش شايف غير ودنك" لكي يسخر من زميله ذي الأذنين الكبيرتين الجالس بجواره.
إسلام زكي الطالب بإحدى الجامعات الخاصة ذي الاثنين وعشرين عاما يجد نفسه في هذا المشهد ويقول أن تامر بدأ مشواره الفني فعلا من على الأرض من غنائه بين زملائه من الشباب الذين هتفوا باسمه في ندوة سلمى الشماع ليغني أمامها أغنية خاصة به - لا أغنية لواحد آخر- فتقرر مساعدته على بداية مشواره الفني.
إسلام ليس الوحيد من هذا الجيل الذي يحتضن جيتاره يستمتع ويجرب دندته وبالمرة يحلم ويحضر نفسه لفرصة الشهرة والتحقق. وهو ينتظر فرصة مماثلة لفرصة تامر الذي يرى أن سبب نجاحه وشهرته وقربه الشديد من شباب هذا الجيل أنه كان يغني لنفسه "بمزاج وروقان وخفة دم" ولا يقلد أحدا فعبر عن نفسه بصدق فوجودوا أنفسهم فيه.
المسار الشخصي لتامر أحد أسباب جاذبيته وما يحكيه عن حياته منقسم بين عدة صور تقربه كل منها إلى فريق: صورة "ابن الناس" وطالب الإعلام في الجامعة الخاصة، وأحيانا صورة الشاب الصاعد من أسرة تعاني من أزمة اضطر معها لأن يعمل في مهن عديدة وينفق على أسرته.
"تامر كمان طبيعي ومش عايش الدور" هذا ما يراه إسلام أيضا مشيرا إلى تنقل وتنوع أغانيه وأفلامه من الرومانسية الشديدة المرهفة المحلقة كما في "يا نور عيني" و"دي عيونه دار" إلى المزاح والسخرية أو "التهريج والتهييس" في: "كل مرة أشوفك فيها يبقى نفسي آآ ..". وحتى في تعبيره عن الفراق يعبر عن تقلب المزاج بين الانفصال الهاديء الحزين مثلما في "طيب قبل ماتمشي خليني أبكي في خضنك شوية" وبين الانفصال العنيف والعداوني الذي يتضمن "المعايرة" كما في " زمان كان بس نفسك أعدي وتلمحيني" و" اعتذري للي جاي بعدي، خليه يسامحني، أصل أنا أخدت كل حاجة في عهدي". ويضيف أن هذا التنوع يعبر عن مزاج الشباب الذي يشعر بالملل من نموذج المطرب "عايش الدور" الذي يغني طول حياته كمحب ولهان متسامح أو يقوم في أفلامه بدور النجم المثالي النقي المؤدب.
يكتب تامر كلمات العديد من أغانيه ويلحن عددا أكبر، بل وكتب قصة فيلمين من خمسة أفلام قام ببطولتهم. ومع أريحيته وانطلاقه في التعبير بالكلمات أو بالموسيقى فإن أعماله الفنية تبدو فيها بوضوح بصمته الشخصية وأفكاره بل وتجارب حياته. فأغانيه وأفلامه مهما كان مستواها هي تعبير شخصي وليست مجرد "شغل" وإنتاج مصنوع وهو في هذا يتشابه مع عمرو دياب.وهو هنا يقف موقفا وسطا بين الفنانين المثقفين في دوائر النخبة الذين يعبرون عن تجاربهم ورؤاهم الخاصة المميزة بعيدا عن ضغط الإنتاج، وبين من يلبون مطالب خط الإنتاج الكثيف المتسارع بكلام وألحان متشابهة.
تامر حسني كان الوحيد في الفترة الأخيرة الذي وجد الجرأة أن يغني على لحن فولكلوري للسمسمية في أغنية "قرب حبيبي"- وهو ما فعله عمرو دياب في أول مشواره على نفس اللحن الفولكلوري- كما أن تامر كان ممن انتبهوا لانتشار الراب بين الشباب فغنى مع الرابر كريم محسن في ألبومه الأخير Come back to me. كما أنه الأكثر جرأة في استخدام التعبيرات الأحدث في حياة الشباب بشكل شعري في "حبي ليكي اتاخد قفش" أو "ضحكتها ما بتهزرش" أو في كلماته وألحانه لمغنين آخرين مثل "قوم اقف وانت بتكلمني" لبهاء حسني و"شكلك عامل عملة" لنيكول سابا و"بص بقى علشان تبقى عارف" لشيرين. وبفضل هذه الإفيهات التي يوظفها في أغانيه ويجذب بها الأنظار يظل دائما في دائرة الجدل الإعلامي حول نجوميته بتأكيدها أو مهاجمتها.

"كل حلم معاك حلمته"
ولكن هناك من له رأي آخر في أن تعامل تامر مع الإعلام يخلو من الهالات المعدة بعناية التي توضع على رأس آخرين، عمرو دياب تحديدا، فتقول مها عاطف، طالبة تمهيدي الماجيستير في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أنها تشعر أن تامر حسني قريب من هذا الجيل ليس فقط بفنه بل أيضا بشخصيته العادية، وتضيف :"الناس بيحسوه بيتكلم زيهم ومش شايف نفسه ولا عامل فيها سوبر ستار".
حتى عندما يحاول تامر حسني أن يعبر عن شعوره بتميزه يفعل ذلك بقدر من السذاجة. في برنامج "واحد من الناس" مع عمرو الليثي، حكي تامر حكاية تعبر عن إحساسه بـاصطفاء الله له ليكون مشهورا ومميزا. فيها وارب الأستاذ شباك الفصل ليدخل فقط شعاع واحد على وجه تامر التلميذ آنذاك الذي شعر أنها "علامة" من الله. وعندما أمره الأستاذ أن ينتقل لمكان آخر وغيّر زاوية فتح الشباك تحرك الضوء ليسقط على وجهه مرة أخرى ليتأكد من "العلامة".
الجيل المحب لروايات باولو كويلهو يبدو مستعدا لتقبل منطق "العلامات". بل هو مستعد أيضا لتقبل تامر وهو يسهب في الحديث عن الدين كأنه أحد الدعاة الجدد بل ويسجل تترات لأحد برامج عمرو خالد ويطلق ألبوما دينيا كاملا، وفي الوقت نفسه يقبلون منه بعض الإيحاءات الجنسية في أفلامه وكلمات أغانيه مثلما في كلمات الأغنية الشهيرة "هي دي "التي يؤكدها في تصوير الفيديو كليب. ولو اضطروا في كلامهم أن يعلنوا اعتراضهم على مضض فهم يلتمسون له الأعذار المختلفة، تماما كما يفعل هو نفسه عندما يحرجه الإعلام.
ترى مها عاطف أن هذه الأخطاء التي لا تعجب البعض وتثير الانتقادات هي عادية لأنه كشاب من هذا الجيل يخطيء مثلهم. وقصة تهربه من التجنيد واتهامه بالتزوير قد تكون نموذجا على ذلك. كما أنها ترد على اتهامه بالتناقض - خاصة بين التدين والانفلات- أنه متناقض مثل هذا الجيل أيضا وتقول: "ده تناقض طبيعي. الحالة الطبيعية إن الواحد مننا بيكون شوية كده وشوية كده. إحنا دايما بنعمل توازن بين التناقضات اللى ممكن تكون موجودة فى حياتنا، وطالما عرفنا نوصل للتوازن مش هايبقى فيه مشكلة".

"أنا خنتك امبارح - مش عارف أتغير"
مها لا ترى مشكلة أيضا في الاعتراف بأن تعبيراته عن الحب تصور حبا ليس فقط مختلفا بل "أقل رقيا" من حب الأجيال الأكبر "الرايق" كما عند عبد الحليم حافظ وعند عمرو دياب ! فالعلاقات بين الجنسين - كما تقول- أصبحت أسهل وأقصر وطبيعتها مختلفة وتامر حسني يعبر عن ذلك في أغانيه.
حتى الطابع الذكوري الشديد الذي يظهر في أفلامه يبدو أنه لا يضايق جمهوره من الفتيات. في جزئي "عمر وسلمى"- كتب قصتهما تامر حسني - عمر هو الشاب متعدد العلاقات الذي يرتبط بسلمى الفتاة الجادة المستقيمة. يستمر هو في التورط في علاقات أخرى على مدار الجزئين قبل زواجهما وبعده وتسامحه دائما إلا أنه يتصرف معها بعنف بل ويضربها عند أدنى شك. تقول مها :"هذا النوع من العلاقات هو السائد، بعض بنات جيلنا تقبله تماما، وبعضهن يرفضنه، لكن أنا من جانب أقبل أن تختلف الضوابط التي تحكم سلوك الرجل والمرأة. لكن من جانب آخر لازم يتفقوا والرجل لازم يلتزم بالضوابط بتاعته".
الخيال الذكوري الجامح واضح في ما يكتبه تامر من أغان وقصص أفلام يمثلا، ونتاج هذا الخيال يمثل "الأحلام الممنوعة" لجيل يتردد بين التحرر والمحافظة. فيلم "عمر وسلمى" بجزئيه يبدو كحلم ذكوري طويل فيه شاب يحظى بأب "مطرقع" مثل "عزت أبو عزف" يتبادل مع ابنه الخبرات في العلاقات العاطفية والجنسية، يداعب و"يقرص" من يعرف ولا يعرف من الفتيات في الجامعة أو في شركة والده بدون مشاكل، يتمتع بعلاقات ونزوات عابرة ثم يستقر مع فتاة مستقيمة جميلة تغفر له كل شيء. حتى خوفه "الذكوري" من إنجاب الإناث لكيلا يعاقبه الله على خطاياه عبر بناته هو تخوف منتشر بين الشباب العابث.
وحتى لحظة استيقاظه من الحلم تتضمن نموذجا محببا وممتعا لحالة التوبة المتعثرة - لا "العزة بالإثم" ولا الإلتزام - ففي ألبومه الأخير هناك أغنية نادمة بعنوان "أنا خنتك إمبارح" كما أنه في تعبيره عن مشاعره الدينية لا يدعي التوفيق- وهذا ينفي التناقض- بل يغني "يا رب أنا تعبان- يا رب أنا زعلان من نفسي" أو " أنا مش عارف أتغير، كل ما أقول هاتغير تحصل حاجة ترجعني".



نشر في "الشروق" 1 نوفمبر 2009
PDF
المزيد