قطاع لا بأس به من الجمهور المصري ونخبته وصفوا المشجعين الجزائريين في السودان بـ"الهمجية" – على أقل تقدير- وفي الوقت نفسه أبدوا أسفهم أننا لم نرسل إليهم مشجعينا الشجعان لكي يفعلوا ما فعلوه وأكثر ويردوا لهم الصاع صاعين!
توترت الأمور بين أدهم عبد الراضي ومديره في العمل. وذات مساء كان أدهم سهرانا وحده مع ساع في المكتب الهندسي الصغير ينهي مشروعا ما، تطورت الخلافات في مشادة على الهاتف وقال له مديره أنه لا مكان له في المكتب بعد الآن وأن عليه إما أن يعتذر صاغرا أو أن يبحث عن عمل آخر. أغلق أدهم سماعة التليفون ولم يكن أمامه الكثير من الوقت، طلب من الساعي أن يشتري له شيئا من سوبر ماركت، فتح جهاز الكمبيوتر ودخل على الشبكة ومسح كل ما طالته يده من ملفات المكتب. وعندما انتهي وقف ورفع شاشة جهاز الكمبيوتر من فوق المكتب وهشمها وكذلك فعل مع عدد من الأجهزة، ثم خرج وترك باب الشقة مفتوحا.
يحكي أدهم هذه الحكاية دائما ضاحكا وفخورا هو يتذكر كيف حكى له بعض زملائه كيف تضرر المكتب من فعلته وكيف فقد المدير صوابه : "اشتغلت في هذا المكتب سنتين وأعرف كيف يتعاملون مع من يطردونهم. لا عقود لنا أصلا ولا أي حقوق، وعندما ستطالب ببقية أجرك سيقول لك خصمنا منه بسبب كذا وكذا. هي بلطجة، ومالهاش حل إلا البلطجة".
لم يكن هناك مجال للقانون في هذا الأمر، وعندما تقدم مدير المكتب ببلاغ إلى الشرطة تم حفظه لأن لا شيء رسميا يثبت أنه يعمل في المكتب. يحكي أدهم أن بعض زملائه كانوا يتصلون به بدعوى تهدئة الأمور والاطمئنان على أحواله ويسألون عن مكان عمله الجديد: "المدير أيضا عرف أن القانون لن ينفعه فأراد أن يكمل بالبلطجة ويطاردني في عملي الجديد".
يستخدم أدهم كلمة "البلطجة" ليصف معظم الأفعال التي حدثت في "المعركة". ويبدو أن هذا النمط من السلوك صار أسلوبا في التعامل وحل المشكلات والخلافات والصراعات ولم يعد فقط وصفا للبلطجة التقليدية التي تستخدم العنف البدني لإرهاب الخصوم أو إلحاق الأذى بهم. البلطجة صارت لها العديد من الأسلحة ولكنها كلها تجتمع في أنها شكل من أشكال العنف والصراع الذي يتجاوز كل أخلاق أو عرف أو قانون.
"أريد أن أرى مصر طفلا صايعا أو شابا متهورا" هكذا قال عمرو أديب، المذيع الشهير في برنامجه على قناة أوربت في إحدى تعليقاته على تداعيات "المعركة الكروية" بين مصر والجزائر، وذلك بعد أن قال أنه لا يريد أن يسمع من أحد مرة أخرى أن مصر هي الأم لأن الأم على حد تعبيره "ما تنضربش على قفاها". الحل إذن هي "الصياعة". فنانون ومثقفون ورموز مجتمع تبنوا هذا الحل وقدموا مداخلاتهم التي تفيد: "لقد أرسلنا الفرافير وكان يجب أن نحشد الصيع"، "كان يجب أن نرسل لهم جمهور إمبابة وبولاق وشبرا" - وكأن هذه المناطق هي معامل تفريخ بلطجية- وتمنى ممثل "أكشن" لو أنه كان هناك ليريهم! وأخيرا قال الممثل محمد سعد في مداخلة: "أنا لو طلقت عليهم اللمبي والله أجيلهم ملط ! ".
في الواقع أن الإعلان عن إطلاق اللمبي كنموذج وأسلوب مميز في حياة المصريين حدث في السينما في فيلم "الناظر" حين أبدى علاء ولي الدين رغبته في أن يكون "صايعا" لكي يتمكن من التعامل مع الحياة ومع البلطجية من الطلبة. وبالفعل لم يتمكن من السيطرة على الطلبة إلا بعد معركة بينه وبين طالب بلطجي انتهت بفوز الناظر الذي أعاد الانضباط غلى المدرسة وقضى على الفوضى ولكن بقوة البلطجة!
"داوني بالتي كانت هي الداء!"
في دراستها عن مضمون "أفلام العشوائيات" بعد عام 2000 من خلال نموذجي "حين ميسرة" و"اللمبي"، والتي نالت بها درجة الماجستير في علم الاجتماع من الجامعة الأمريكية، تركز الباحثة فيروز كراوية على "الفوضى" كصورة تحاول هذه الأفلام أن تؤكد عليها كحالة مجتمعية. ورغم أنها ترى أن هذه الصورة تتضمن نوعا من العنصرية الطبقية ضد "الأحياء العشوائية" لأنها مصدر وسبب هذه الفوضى، إلا أنها تقول أن هذه الصورة عندما تبرز استحالة السيطرة على هذه الأحياء وهذه الفوضى فإنها تبرر استخدام بعض عناصر هذه الفوضى مثل البلطجية.
في "حين ميسرة" تلجأ الشرطة دائما لبلطجي ومسجل خطر تجتذبه ليكون عينها وذراعها داخل الحي العشوائي، وهي التهمة التي يوجهها كثيرون للشرطة. وتقول فيروز كراوية:"أيضا بفعل الاحتكاك بين الطبقات، تستعير الطبقة الوسطى من الطبقات الأدنى ما تلومها بشأنه، بل وتستخدم أفراد هذه الطبقات في ذلك، إذا كان سلوك البلطجة يقضي المصلحة لأن القانون لن يحققها فأهلا بالبلطجة". وهكذا تكون البلطجة والفوضى مبرران للمزيد منهما.
ولكن مهما كانت درجة الفوضى وغياب المرجعيات والأعراف أو تفكك السلطات التقليدية كالآباء و"الكبار" وضعف السلطات الحديثة كالدولة وقوة القانون، فإن بعض المهتمين بحالة العنف المتنامي وأشكاله المختلفة في المجتمع المصري يرونه جزءا من حالة إنسانية عامة. فرغم أنه يرى أن "مصر دخلت عصر الجريمة الأكثر عنفا" إلا أن د.خليل فاضل، الطبيب النفسي، يعتبر الميل للعنف والعدوان حل سهل غريزي وتلقائي في مواجهة المشاكل، تحاول الحضارة التحكم فيه إلا أن هذه الغريزة تظل طاقة عند الإنسان تظهر لو لم يتمكن من تفريفها في إنجاز أو إبداع.
في عيادة د.خليل الأسابيع الماضية كان المرضى يتحدثون منفعلين وغاضبين عن تفاصيل "المعركة المصرية الجزائرية"، وبعضهم كان ممكن ذهبوا وحاولوا التظاهر أمام السفارة الجزائرية، ولكن د.خليل فاضل رأي في ذلك تنفيسا وإزاحة لعنف مكبوت وإحباط في ساحات أخرى. ويضيف: "واحد من هؤلاء طبيب ولأنه كان واعيا أن لديه طاقة عنف يخشى أن تتفجر في مواجهة آخرين أو في جريمة طلب مني أن أعطيه أدوية لكي يتجنب ذلك". في رأي د.خليل فاضل المهتم بتطور العنف وأنماط الجريمة أن بعض خصائص التطور والحضارة الحديثة تدفع الأفراد للعنف مثل كثافة السكان وتزاحمهم وكثافة الاتصال بسبب تقدم الإعلام وتطور الاتصالات، فكل هذه العوامل تؤدي إلى احتكاك كبير ونقل سريع وواضح لأشكال العنف والصراعات من كل مكان عبر الأخبار أو عبر الدراما.
الزحام والاحتشاد والكثافة العالية يمثلون تهديدا وجوديا لكل كائن يدفعه إلى أن يكون أكثر عنفا وميلا للعدوان في حل المشكلات وفي مواجهة الآخرين، هكذا يرى إريك فروم، عالم النفس والفيلسوف الشهير، في كتابه "تشريح النزعة التدميرية". فهو يناقش الفكرة القائلة أن العنف والعدوان والنزوع للتدمير غريزة إنسانية فطرية ويحاول أن يصنف درجات هذه النزعات ويردها إلى الأنماط الاجتماعية المختلفة. فيرى أن الأنماط الاجتماعية التي يسودها التحقق الفردي مع التضامن الاجتماعي والثقة المتبادلة تكون أبعد عن العنف بينما تلك الأخرى التي تقل فيها الثقة والتحقق ويكثر فيها النزاعات تكون أقرب للعنف.
"إنت ما تعرفش أنا مين؟"
بعد تصادم لسيارتين تصاب فيه إحداهما أو كلتاهما بإصابات ليست طفيفة أو في أثناء مشاجرة محتدمة عادة ما يبدأ الطرفان في استعراض إمكانانت البلطجة :" إنت ما تعرفش أنا مين؟" وعادة يقصد بهذا السؤال: "ماذا يمكن أن أفعل بك؟" وبالطبع الفعل سيكون خارج نطاق القانون والأخلاق. إن لم يكن مباشرة سيكون عبر وسيط أو معرفة أو قريب.
لا تنكر مروة زين أنها قالت تلك الجملة مرات عديدة، ولا تنكر أن معناها فعلا فيه إيجاء بالبلطجة: "لكن أعمل إيه؟ كيف أواجه أشخاص لا أخلاق لديهم في شارع بلا أخلاق أصلا. الشرطة غير معنية بالتدخل في التفاصيل والنزاعات الصغيرة وبدلا من أن أجد نفسي وحيدة في مواجهة شاب بلطجي أرفع سماعة التليفون وأتصل بقريبي وكيل النيابة. وهكذا تسير الأمور في البلد".
في إحدى المرات التي استعانت بقريبها بسبب شجار مع جيرانها، الذين تصف مستواهم الاجتماعي والثقافي بالمتدني، كانت وصيته فعالة وبدأ ضابط الشرطة في معاملة جيرانها بشكل مهين وفظ، إلى الدرجة التي جعلتها تتصل به وتطلب منه ألا يصل الأمر لدرجة إهانتهم وأنها فقط كانت تطلب اهتمام الشرطة بالأمر. تذمر قريبها وأخبرها أن ضابط الشرطة جامله ولكنه لا يعمل عنده ولا يمكنه أن يعلمه كيف يتعامل مع الناس ثم قال لها بصراحة:" القانون مش هايجيب حقك، سبيبه يشوف شغله علشان يخافوا". ولكنها في هذه اللحظة أخبرته أنها أيضا خائفة أن يمارسوا إرهابهم المضاد بطريقتهم خارج القسم الذي لن يلجأوا إليه كل يوم.
لكل طبقة ومستوى اجتماعي طريقة في الإرهاب والبلطجة وقول "إنت ما تعرفش أنا مين؟". والكل يتعلل بحالة الفوضى التي تدفعه لانتزاع حقه بهذا الأسلوب أو مجرد المحاولة والتعبير اليائس عن عدم القدرة على انتزاعه. في كتاب إريك فروم وأثناء مناقشته للعنف والعدوان يحاول أن يقترب من فهم ما يميز الإنسان لكي يضع الحدود بين غريزة العدوان عنده وعند غيره من الكائنات ومن ضمن التعريفات التي يتناولها أن "الذكاء الأعلى للإنسان يجعله أكثر مرونة وأقل اعتمادا على السلوك الانعكاسي الغريزي".
هذه المرونة هي ما تجعل الإنسان يفكر في أن يضع حلا للمشكلات حتى لو تضمنت عنفا يهدده، بينما يسارع الحيوان بمحاولة تنفيذ هجوم عدواني مضاد. والإنسان في مسيرة بناءه للحضارة مبتعدا عن الحيوان يطور الأنساق الأخلاقية والأعراف والتقاليد والقوانين المحلية والدولية لكي يضع صراعاته ومشكلاته في ساحات أخرى. لكن يبدو أنه في بعض الأحيان يتورط ويحتاج إلى عودة غريزية تتحايل على كل ذلك أو تتجاهله وتفكر في العنف والعدوان. قد تكون تلك العودة حربا بين الشعوب، أو قد تكون حروبا بين الشعب الواحد عبر "البلطجة"، التي تبرر وجودها بالفوضى أو ببلطجة أخرى أو شغب ملاعب أو مشكلة عمل أو حتى شجار عابر.
تم تعديل أسماء بعض المصادر بناء على طلبهم
نشر في "الشروق" 6 ديسمبر 2009
PDF
توترت الأمور بين أدهم عبد الراضي ومديره في العمل. وذات مساء كان أدهم سهرانا وحده مع ساع في المكتب الهندسي الصغير ينهي مشروعا ما، تطورت الخلافات في مشادة على الهاتف وقال له مديره أنه لا مكان له في المكتب بعد الآن وأن عليه إما أن يعتذر صاغرا أو أن يبحث عن عمل آخر. أغلق أدهم سماعة التليفون ولم يكن أمامه الكثير من الوقت، طلب من الساعي أن يشتري له شيئا من سوبر ماركت، فتح جهاز الكمبيوتر ودخل على الشبكة ومسح كل ما طالته يده من ملفات المكتب. وعندما انتهي وقف ورفع شاشة جهاز الكمبيوتر من فوق المكتب وهشمها وكذلك فعل مع عدد من الأجهزة، ثم خرج وترك باب الشقة مفتوحا.
يحكي أدهم هذه الحكاية دائما ضاحكا وفخورا هو يتذكر كيف حكى له بعض زملائه كيف تضرر المكتب من فعلته وكيف فقد المدير صوابه : "اشتغلت في هذا المكتب سنتين وأعرف كيف يتعاملون مع من يطردونهم. لا عقود لنا أصلا ولا أي حقوق، وعندما ستطالب ببقية أجرك سيقول لك خصمنا منه بسبب كذا وكذا. هي بلطجة، ومالهاش حل إلا البلطجة".
لم يكن هناك مجال للقانون في هذا الأمر، وعندما تقدم مدير المكتب ببلاغ إلى الشرطة تم حفظه لأن لا شيء رسميا يثبت أنه يعمل في المكتب. يحكي أدهم أن بعض زملائه كانوا يتصلون به بدعوى تهدئة الأمور والاطمئنان على أحواله ويسألون عن مكان عمله الجديد: "المدير أيضا عرف أن القانون لن ينفعه فأراد أن يكمل بالبلطجة ويطاردني في عملي الجديد".
يستخدم أدهم كلمة "البلطجة" ليصف معظم الأفعال التي حدثت في "المعركة". ويبدو أن هذا النمط من السلوك صار أسلوبا في التعامل وحل المشكلات والخلافات والصراعات ولم يعد فقط وصفا للبلطجة التقليدية التي تستخدم العنف البدني لإرهاب الخصوم أو إلحاق الأذى بهم. البلطجة صارت لها العديد من الأسلحة ولكنها كلها تجتمع في أنها شكل من أشكال العنف والصراع الذي يتجاوز كل أخلاق أو عرف أو قانون.
"أريد أن أرى مصر طفلا صايعا أو شابا متهورا" هكذا قال عمرو أديب، المذيع الشهير في برنامجه على قناة أوربت في إحدى تعليقاته على تداعيات "المعركة الكروية" بين مصر والجزائر، وذلك بعد أن قال أنه لا يريد أن يسمع من أحد مرة أخرى أن مصر هي الأم لأن الأم على حد تعبيره "ما تنضربش على قفاها". الحل إذن هي "الصياعة". فنانون ومثقفون ورموز مجتمع تبنوا هذا الحل وقدموا مداخلاتهم التي تفيد: "لقد أرسلنا الفرافير وكان يجب أن نحشد الصيع"، "كان يجب أن نرسل لهم جمهور إمبابة وبولاق وشبرا" - وكأن هذه المناطق هي معامل تفريخ بلطجية- وتمنى ممثل "أكشن" لو أنه كان هناك ليريهم! وأخيرا قال الممثل محمد سعد في مداخلة: "أنا لو طلقت عليهم اللمبي والله أجيلهم ملط ! ".
في الواقع أن الإعلان عن إطلاق اللمبي كنموذج وأسلوب مميز في حياة المصريين حدث في السينما في فيلم "الناظر" حين أبدى علاء ولي الدين رغبته في أن يكون "صايعا" لكي يتمكن من التعامل مع الحياة ومع البلطجية من الطلبة. وبالفعل لم يتمكن من السيطرة على الطلبة إلا بعد معركة بينه وبين طالب بلطجي انتهت بفوز الناظر الذي أعاد الانضباط غلى المدرسة وقضى على الفوضى ولكن بقوة البلطجة!
"داوني بالتي كانت هي الداء!"
في دراستها عن مضمون "أفلام العشوائيات" بعد عام 2000 من خلال نموذجي "حين ميسرة" و"اللمبي"، والتي نالت بها درجة الماجستير في علم الاجتماع من الجامعة الأمريكية، تركز الباحثة فيروز كراوية على "الفوضى" كصورة تحاول هذه الأفلام أن تؤكد عليها كحالة مجتمعية. ورغم أنها ترى أن هذه الصورة تتضمن نوعا من العنصرية الطبقية ضد "الأحياء العشوائية" لأنها مصدر وسبب هذه الفوضى، إلا أنها تقول أن هذه الصورة عندما تبرز استحالة السيطرة على هذه الأحياء وهذه الفوضى فإنها تبرر استخدام بعض عناصر هذه الفوضى مثل البلطجية.
في "حين ميسرة" تلجأ الشرطة دائما لبلطجي ومسجل خطر تجتذبه ليكون عينها وذراعها داخل الحي العشوائي، وهي التهمة التي يوجهها كثيرون للشرطة. وتقول فيروز كراوية:"أيضا بفعل الاحتكاك بين الطبقات، تستعير الطبقة الوسطى من الطبقات الأدنى ما تلومها بشأنه، بل وتستخدم أفراد هذه الطبقات في ذلك، إذا كان سلوك البلطجة يقضي المصلحة لأن القانون لن يحققها فأهلا بالبلطجة". وهكذا تكون البلطجة والفوضى مبرران للمزيد منهما.
ولكن مهما كانت درجة الفوضى وغياب المرجعيات والأعراف أو تفكك السلطات التقليدية كالآباء و"الكبار" وضعف السلطات الحديثة كالدولة وقوة القانون، فإن بعض المهتمين بحالة العنف المتنامي وأشكاله المختلفة في المجتمع المصري يرونه جزءا من حالة إنسانية عامة. فرغم أنه يرى أن "مصر دخلت عصر الجريمة الأكثر عنفا" إلا أن د.خليل فاضل، الطبيب النفسي، يعتبر الميل للعنف والعدوان حل سهل غريزي وتلقائي في مواجهة المشاكل، تحاول الحضارة التحكم فيه إلا أن هذه الغريزة تظل طاقة عند الإنسان تظهر لو لم يتمكن من تفريفها في إنجاز أو إبداع.
في عيادة د.خليل الأسابيع الماضية كان المرضى يتحدثون منفعلين وغاضبين عن تفاصيل "المعركة المصرية الجزائرية"، وبعضهم كان ممكن ذهبوا وحاولوا التظاهر أمام السفارة الجزائرية، ولكن د.خليل فاضل رأي في ذلك تنفيسا وإزاحة لعنف مكبوت وإحباط في ساحات أخرى. ويضيف: "واحد من هؤلاء طبيب ولأنه كان واعيا أن لديه طاقة عنف يخشى أن تتفجر في مواجهة آخرين أو في جريمة طلب مني أن أعطيه أدوية لكي يتجنب ذلك". في رأي د.خليل فاضل المهتم بتطور العنف وأنماط الجريمة أن بعض خصائص التطور والحضارة الحديثة تدفع الأفراد للعنف مثل كثافة السكان وتزاحمهم وكثافة الاتصال بسبب تقدم الإعلام وتطور الاتصالات، فكل هذه العوامل تؤدي إلى احتكاك كبير ونقل سريع وواضح لأشكال العنف والصراعات من كل مكان عبر الأخبار أو عبر الدراما.
الزحام والاحتشاد والكثافة العالية يمثلون تهديدا وجوديا لكل كائن يدفعه إلى أن يكون أكثر عنفا وميلا للعدوان في حل المشكلات وفي مواجهة الآخرين، هكذا يرى إريك فروم، عالم النفس والفيلسوف الشهير، في كتابه "تشريح النزعة التدميرية". فهو يناقش الفكرة القائلة أن العنف والعدوان والنزوع للتدمير غريزة إنسانية فطرية ويحاول أن يصنف درجات هذه النزعات ويردها إلى الأنماط الاجتماعية المختلفة. فيرى أن الأنماط الاجتماعية التي يسودها التحقق الفردي مع التضامن الاجتماعي والثقة المتبادلة تكون أبعد عن العنف بينما تلك الأخرى التي تقل فيها الثقة والتحقق ويكثر فيها النزاعات تكون أقرب للعنف.
"إنت ما تعرفش أنا مين؟"
بعد تصادم لسيارتين تصاب فيه إحداهما أو كلتاهما بإصابات ليست طفيفة أو في أثناء مشاجرة محتدمة عادة ما يبدأ الطرفان في استعراض إمكانانت البلطجة :" إنت ما تعرفش أنا مين؟" وعادة يقصد بهذا السؤال: "ماذا يمكن أن أفعل بك؟" وبالطبع الفعل سيكون خارج نطاق القانون والأخلاق. إن لم يكن مباشرة سيكون عبر وسيط أو معرفة أو قريب.
لا تنكر مروة زين أنها قالت تلك الجملة مرات عديدة، ولا تنكر أن معناها فعلا فيه إيجاء بالبلطجة: "لكن أعمل إيه؟ كيف أواجه أشخاص لا أخلاق لديهم في شارع بلا أخلاق أصلا. الشرطة غير معنية بالتدخل في التفاصيل والنزاعات الصغيرة وبدلا من أن أجد نفسي وحيدة في مواجهة شاب بلطجي أرفع سماعة التليفون وأتصل بقريبي وكيل النيابة. وهكذا تسير الأمور في البلد".
في إحدى المرات التي استعانت بقريبها بسبب شجار مع جيرانها، الذين تصف مستواهم الاجتماعي والثقافي بالمتدني، كانت وصيته فعالة وبدأ ضابط الشرطة في معاملة جيرانها بشكل مهين وفظ، إلى الدرجة التي جعلتها تتصل به وتطلب منه ألا يصل الأمر لدرجة إهانتهم وأنها فقط كانت تطلب اهتمام الشرطة بالأمر. تذمر قريبها وأخبرها أن ضابط الشرطة جامله ولكنه لا يعمل عنده ولا يمكنه أن يعلمه كيف يتعامل مع الناس ثم قال لها بصراحة:" القانون مش هايجيب حقك، سبيبه يشوف شغله علشان يخافوا". ولكنها في هذه اللحظة أخبرته أنها أيضا خائفة أن يمارسوا إرهابهم المضاد بطريقتهم خارج القسم الذي لن يلجأوا إليه كل يوم.
لكل طبقة ومستوى اجتماعي طريقة في الإرهاب والبلطجة وقول "إنت ما تعرفش أنا مين؟". والكل يتعلل بحالة الفوضى التي تدفعه لانتزاع حقه بهذا الأسلوب أو مجرد المحاولة والتعبير اليائس عن عدم القدرة على انتزاعه. في كتاب إريك فروم وأثناء مناقشته للعنف والعدوان يحاول أن يقترب من فهم ما يميز الإنسان لكي يضع الحدود بين غريزة العدوان عنده وعند غيره من الكائنات ومن ضمن التعريفات التي يتناولها أن "الذكاء الأعلى للإنسان يجعله أكثر مرونة وأقل اعتمادا على السلوك الانعكاسي الغريزي".
هذه المرونة هي ما تجعل الإنسان يفكر في أن يضع حلا للمشكلات حتى لو تضمنت عنفا يهدده، بينما يسارع الحيوان بمحاولة تنفيذ هجوم عدواني مضاد. والإنسان في مسيرة بناءه للحضارة مبتعدا عن الحيوان يطور الأنساق الأخلاقية والأعراف والتقاليد والقوانين المحلية والدولية لكي يضع صراعاته ومشكلاته في ساحات أخرى. لكن يبدو أنه في بعض الأحيان يتورط ويحتاج إلى عودة غريزية تتحايل على كل ذلك أو تتجاهله وتفكر في العنف والعدوان. قد تكون تلك العودة حربا بين الشعوب، أو قد تكون حروبا بين الشعب الواحد عبر "البلطجة"، التي تبرر وجودها بالفوضى أو ببلطجة أخرى أو شغب ملاعب أو مشكلة عمل أو حتى شجار عابر.
تم تعديل أسماء بعض المصادر بناء على طلبهم
نشر في "الشروق" 6 ديسمبر 2009
أهو ده اللي يتسمى جميل جدا وقيم
ردحذففى ظل نظام الغاب و وجود قانون ضعيف ملئ بالتغرات اصبحت البلطجة فى اغلب الاحيان هى الخيار الوحيد للحصول على الحقوق . وممارسة البلطجة غير قاصرة على طبقة او اشخاص لهم ثقافة و مستوى اجتماعى متدنى . قرأت للدكتور جلال امين فى كتاب رحيق العمر انه اضطر اجر شقته لسفير افريقى مقيم فى مصر و رفض المستأجر الخروج من الشقة رغم انتهاء مدة العقد القانونية بحجة ان الدكتور جلال لم يرسل خطاب رسمى للمستأجر يخبره بضرورة اخلاء الشقة و لجأ الدكتور جلال لكل الاساليب الودية لاستعادة شقته طوال شهور طويلة قضاها و اسرته فى شقة اخرى استأجرها لعدم تمكنه من العودة لبيته و فى النهاية اضطر للجوء لاسلوب البلطجة و ذهب بنفسه لطرد المستأجر و مزق عقد الايجار فى حركة مفاجئة منه
ردحذفتخيلوا الدكتور جلال امين استاذ الاقتصاد السياسى يلجأ لهذا الاسلوب . طبعا انا لا الومه و لو كنت مكانه لتصرفت بالمثل بل التمس العذر لمن يلجأ للبلطجة للحصول على حقه فقط بدون ايذاء اى انسان
مقال رائع جدا و كنت اتمنى التعليق عليه وقت نشره
مروة