الأحد، ١٤ نوفمبر ٢٠١٠

فك سحر التكنولوجيا الفائقة


هشام عبد العزيز، من خبراء الصيانة في شارع عبد العزيز- تصوير: لبنى طارق

هناك عالم وسيط من التجار والخبراء الشعبيين يتشكل في منتصف المسافة بين قطاع واسع من الجمهور المستهلك للتكنولوجيا من جهة وبين منتجيها ومسوقيها وخبراء صيانتها من جهة أخرى. ذلك العالم ليس مجرد تقليد أو مستوى أقل من الجودة والخدمة بل يمثل صورة أخرى للحياة مع التكنولوجيا.

لمسة شعبية
هناك سبب ما يدفع البعض إلى شراء موبايل من فاترينة في شارع عبد العزيز بدلا من شراءه من الفرع الأنيق للشركة الكبيرة لتسويق الأجهزة على بعد خطوات، وأيضا الذهاب إلى أسطى الصيانة في الدكان المجاور بدلا من مركز الصيانة المعتمد.
التكنولوجيا بالأساس أدوات للحياة ونمط استهلاكها أسلوب يعكس أمزجة واحتياجات مختلفة. البعض يفضل أن يشتري ويتلقى الخدمة هو يشعر ببعض الغموض والرهبة والتواضع أمام الكيان الكبير وأمام البائع الخبير الذي يستخدم الإنجليزية كلما أمكن ذلك والبعض يفضل أن يشتري من بائع أقرب إليه ينطق مثله أسماء الماركات والتقنيات مع بعض التحريف الشعبي المتفق عليه بينهما.
إنتاج واستهلاك المعرفة والتكنولوجيا ليس إلا نمطا من التواصل في رأي الفيلسوف الألماني هابرماس، يقوم على مشاركة طريقة التفكير والحياة.
من يشتري سماعات الموبايل الرخيصة من شارع عبد العزيز ليس مهتما بالنقاء البالغ الذي سيمكنه من الانتباه الدقيق إلى نبضات الكونترباص في مقطوعة كلاسيكية أو صوت البيز جيتار في أغنية روك. يرى جاك أيلول في "خدعة التكنولوجيا" أن المنافسة تدفع صناع التقنية إلى مستويات من الجودة قد لا نحتاجها جميعا. ولذلك كانت "النسخة هي مفتاح لغز الصين" كما يرى الناقد والتر بنيامين. عبر صناعة النسخة المقلدة يقف صانع آخر مبدع أيضا يمتلك معرفة أعمق بالأداة وهو ينسخها وفي الوقت نفسه يلبي مستوى آخر من الاحتياجات يعرفه جيدا، وفي النهاية كل إبداع فيه بعض المحاكاة مع لمسة من التغيير.
اللمسة السحرية للتكنولوجيا تغير من طريقة حياتنا بأشكال مختلفة. البعض يذهب إلى ما هو أبعد ويدخل في علاقة أكثر حميمية معها. نحن لا ننتبه إلى الآلة ونحن نستخدمها، هي تقفز بنا من احتياجنا إلى الإشباع. وأنا أمسك الموبايل لا أفكر فيه بل أفكر أني أتكلم مع فلان، ولكني أنتبه وأفكر في الموبايل إن حدث خلل في الصوت أو تعطل. يتحدث الفيلسوف الألماني هايدجر عن الوعي بالأداة الذي يحدث عندما تصبح عائقا بين الاحتياج والإشباع. هذا نفسه ما يتحدث عنه هشام إسماعيل نجم الصيانة في شارع عبد العزيز عندما يقول أنه يتعلم بالأساس من الأجهزة التالفة. الانتباه إلى حضورالأداة نفسها وليس فقط ما تفعله لنا هو ما يتحدث عنه هايدجر كوعي حقيقي وأصيل بالتكنولوجيا وهو ما يقول طارق أحمد، صاحب السايبر في الوراق، أنه ما غير حياته.
الإحساس بالأجهزة الذي يتحدث عنه محمد جمعه في محله الصغير في إمبابة هو "الخبرة الأولية" التي يتحدث عنها فلاسفة معاصرون يرون أن التقنية وليدة التفاعل الحي بالحواس ومحاولة حل المشكلات وأنها مصدر المعرفة النظرية لا العكس كما كان يعتقد فلاسفة اليونان. التقنية وخاصة عالمها الخلفي يثبت على الدوام كما يقول فيلسوف التكنوولجيا جون إد أن "البشر صناع مبدعون”. والعلاقة بينهم وبين الأدوات تعكس طبيعة مجتمعهم أو تدفعه للتغيير، فكما يقول ماركس: “أعطتنا طاحونة اليد مجتمعا إقطاعيا وأعطتنا ماكينة البخار مجتمعا رأسماليا صناعيا".

تجربة وأسطى وكشكول ملاحظات

مخاطرة وإحساس وإقناع

اقرأ بعناية ما يظهر أمامك .. تتغير حياتك

عن القطار الذي لن يمر في شارع عبد العزيز



نشر في "الشروق" الخميس 11 نوفمبر 2010
PDF

المزيد

الأربعاء، ٢٧ أكتوبر ٢٠١٠

أيام الحصاد والصلح والسياحة عند جبل الدكرور

العزلة وتأثيرات العابرين في أعياد سيوة

تصوير: إيمان هلال

الليالي القمرية الثلاث في شهر أكتوبر هم موعد عيد الحصاد أو الصلح أو السياحة، لكل اسم معناه أو أسطورته. يخرج معظم أهالي سيوة إلى حيث جبل الدكرور للاحتفال، يشاركهم زوار مصريون وأجانب. عند سفح الجبل ترسم مظاهر العيد ملامح من عزلة سيوة وتأثرها بموجات العابرين.

لم يثمر محصول الزيتون هذه السنة في نصف الفدان الذي يملكه بكرين عمر في منطقة الظافرية في واحة سيوة. هذه هي عادة الزيتون الذي يثمر سنة ويغيب سنة، وقد يتأخر سنتين في حقل بكرين كما يقول. ولكن هذا لم يمنع أن يترك أرضه وبيته ويتجه إلى جبل الدكرور شرق الواحة منذ صباح الاثنين الماضي ويكاد أن يكون الوجه الأكثر بشرا وبهجة من بين المشاركين في استعدادات استقبال زوار عيد السياحة هذا العام، الذي استمر لثلاثة أيام من الثلاثاء إلى الخميس.
عيد السياحة يسمى أيضا عيد الحصاد لموافقته موسم حصاد البلح والزيتون اللذين يغلبان على زراعة سيوة، أو عيد سيوة، لأنه أصبح بمثابة عيد قومي مميز لأهل الواحة وحدهم. موعده الليالي القمرية في شهر أكتوبر من كل عام. ورغم أن هذه الفترة تحتذب أعدادا أكبر من السياح الراغبين في رؤية مظاهر الاحتفال بجانب الاستمتاع بطبيعة سيوة المميزة، إلا أن عيد "السياحة" لا يسمى كذلك بسبب هذه السياحة، ولكن نسبة إلى منطقة "السياحة" - بمعنى الخروج الصوفي إلى الخلاء - عند سفح التلال الثلاثة المكونة لما يطلق عليه أهالي سيوة "جبل الدكرور"، وهي المنطقة التي كان ولا يزال المتصوفة يخرجون إليها يسيحون في الأرض بعيدا عن العمران رغبة في التأمل والذكر.
بكرين عمر واحد من خدام الطريقة المدنية الشاذلية، كبرى الطرق الصوفية في سيوة. ورغم كونه مزارعا مثل معظم أهالي سيوة إلا إنه كان أيضا موظفا في مصلحة الكهرباء قبل أن يخرج إلى المعاش. الحياة البسيطة والرخيصة نسبيا في سيوة يكفيها المعاش ودخل الملكية الصغيرة من الأرض. نمط الملكية المحدودة من الأرض، أقل من الفدان أو فدادين قليلة، منتشر هنا.
يوم الاثنين خرج بكرين عمر من بيته في الظافرية متوجها إلى جبل الدكرور الذي يبتعد 3 كيلومترات من قلب الواحة، انضم إلى باقي الخدام في المساكن المبنية عند سفح الجبل بلون موحد مثل لون صخر الجبل. فلا يختلف إلا علم الطريقة الأخضر المرفوع فوق مئذنة بين المساكن.
ينهمك الطباخون في الذبح والطبخ على وقع الأناشيد الصوفية والأذكار، بينما ينصب الباعة وأصحاب الألعاب خيامهم على طريق الدكرور الممتد من الجبل إلى أول الطريق المفضية إلى قلب الواحة.
يستريح بكرين عمر أحيانا ويراجع مع بعض الصبية الأشعار التي ستغنى في اليوم التالي: "طاب شرب المدام في الخلوات/ اسقني يا نديم بالآنيات .. آه يا ذا الفقيه لو ذقت منها/ وسمعت الألحان في الخلوات/ لتركت الدنيا وما أنت فيه/ وتعش هائما ليوم الممات". يستفسر شاب فرنسي يرتدي الثوب السيوي ويشاركهم مراجعة الأشعار عن بعض المعاني، ولكن لا يخفى عليه المجاز الشعري الصوفي الذي يصور تاثير الحب الإلهي ومتعة الذكر بالخمر المسكرة.
يقول بكرين أن ستيفن، الشاب الفرنسي، معهم منذ 12 سنة يحب الطريقة وأهلها ويخدم معهم كل سنة في العيد. أتاهم أول مرة سائحا بينما كان طالبا ومن ساعتها وهو يقضي نصف السنة في فرنسا ونصفها معهم في سيوة. في حلقة واحدة لمراجعة الأذكار ترى ملامح الشاب الأشقر المحب للصوفية ولسيوة، وملامح أخرى متنوعة: ملامح بكرين السمراء التي تعود إلى أصول إفريقية أو بربرية أمازيغية وملامح آخرين أقرب للبدو العرب.

عزلة وعابرون
دائما ما كانت سيوة بوتقة لتلاقي تأثيرات متنوعة. فهي تتأرجح بين نمط فريد من العزلة بحكم الموقع في عمق الصحراء: على بعد 800 كليومتر غرب وادي النيل و 120 كيلو متر شرق الحدود الليبية، وحوالي 300 كيلومتر جنوب ساحل البحر المتوسط. ولكن أهلها الذين يبلغون الآن حوالي 25 ألف نسمة تمتعوا على الدوام بتسامح ووداعة مع الزوار الأجانب، وبحكم حجم الواحة لم تتمكن غالبا من صد الغزاة وتأثيراتهم.
يروى المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت أن بعض قبائل سيوة تعود إلى تزاوج بين المصريين القدماء و الأثيوبيين. ولكن المعروف الآن هو الأصل الأمازيغي لعشر قبائل بجانب قبيلة واحدة ذات أصل عربي. اللغة اليومية المستخدمة في سيوة هي اللغة الأمازيغية المطعمة ببعض الكلمات العربية، ويسميها الأهالي اللغة السيوية، وهي مجرد لغة شفهية لا يكتبونها.
اللغة العربية لغة ثانية، ومن نالوا قسطا من التعليم مثل بكرين عمر يظهر ذلك في نطقهم للعربية الفصحى أو العامية، بينما يتعثر الأميون أحيانا أو يتحدثون ببطء نوعا ما باستثناء ممن يعملون في مجالات السياحة فيتحدثون عدة لغات ولهجات بطلاقة بحكم الاحتكاك بالزوار.
واحد من هؤلاء هو الشاب يوسف سرحان، طالب الحقوق في جامعة الإسكندرية، الذي يتحرك دائما بصحبة زوار أجانب. كان مع بعضهم يوم الاثنين يشرح لهم مظاهر الاستعداد للاحتفال. يسلم على بكرين عمر ويجلس بجانبه وينشد معه ومع ستيفن الشاب الفرنسي قصيدة "قلوب العارفين لها عيون/ ترى ما لا يراه الناظرين". يتناقشون حول الطرق المختلفة لإنشاد القصيدة. يقول يوسف أنه أضاف تسجيلات فيديو لطرق مختلفة لإنشاد القصيدة على حسابه على يوتيوب youtube. ليوسف أيضا موقع شخصي على الإنترنت، فيه معلومات عن سيوة جمعها في بحث تقدم به لمسابقة نظمتها مكتبة الإسكندرية. النشاط الكثيف ليوسف وراءه طموح كبير يعلن عنه قائلا أنه سيكون له شان كبير في السياحة والبيزنس والسياسة أيضا، يوسف ابن أخ كبير قبيلة الوحيدات وهو أمين شباب الوطني في سيوة. ولكنه يقول أن طموحاته تفوق ذلك بكثير منتقدا الأجيال الأكبر التي تفضل العيش من ريع الزراعة والاسترخاء في الأمسيات وشرب الشاي مع الأصحاب بدلا من صداع البيزنس وتطوير الأعمال. يهز رأسه أسفا ويؤكد أن السياحة والصناعة القائمة على موارد سيوة الغنية يتيحان فرصا لا يستغلها أحد حقا.
ويبدو أن يوسف لا يترك أي فرصة ولا يضيع وقتا. قبيل ظهر الثلاثاء مع بداية مراسم احتفالات العيد، كان يوسف يتردي الصدرية المميزة فوق الثوب السيوي الأبيض، وهو زي رسمي نوعا ما ولا يحافظ عليه غالبا إلا المشايخ وكبار العلائلات وكبار موظفي ومسئولي الواحة. يقف يوسف أما الخيام الرسمية الفخمة النظيفة بجوار سفح الجبل مباشرة في مقابل الخيام الشعبية التي نصبها الأهالي من زوار العيد في الجانب الآخر من الطريق في مواجهة جبل الدكرور.
يصافح يوسف الجميع ويتحدث معهم. الكل في انتظار محافظ مطروح اللواء أحمد حسين ليفتتح الاحتفال. من النادر أن ترى جنديا أو عربة شرطة في سيوة ولكن يوم العيد وعند جبل الدكرور هناك حضور أمني لتأمين الاحتفالات وحماية المحافظ والمسئولين المرافقين. وعلى مقربة منهم أنشطة رسمية. لافتات تعلن عن قافلة وزارة الشباب والرياضة للقرى المحرومة، التي تنظم مسابقات للأطفال وتوزع عليهم هدايا. وخيام مخصصة لوزارة البيئة ومسئولي محمية سيوة وخيمة لبيع سلع الأسر المنتجة.

شعبي وليبي
بين سفح الجيل وحتى أول الطريق المفضي إلى سيوة بين النخيل ترى مظاهر الاحتفال الأكثر صخبا وعفوية. الميكروباصات والتروسيكلات والعربات التي تجرها الحمير تصل محملة بالشباب والأطفال ومجموعات البنات اللاتي يحمل معظمهن شمسيات ملونة مميزة، لا وجود للنساء والشابات تقريبا، اللهم إلا أعداد قليلة تقبع في خيام بعيدة نسبيا أوتمر وهي تغطي وجهها وترتدي الزي السيوي السابغ لكل الجسد. على الجانبين باعة لحوم وعصائر وحلوى وملاهي وألعاب، تنشب هنا أو هناك مشاجرة تنفض سريعا. من كاسيت العربات تنطلق أغاني شعبية لمنار محمود سعد مطربة الدلتا أو أغاني الراب الشعبي للشابين فيجو وعمرو حاحا أبناء حي عين شمس القاهري. هنا وهناك يظهر صوت خافت لهالة شعبان المطربة المغربية أو الزنتاني الليبي. لا يعرف بائع الكاسيت الذي ترجع أصوله إلى ميت غمر أسماء مطربين من سيوة ولكنه يخرج على الفورشرائط الأغاني الليبية باعتبارها بديلا عن الأغاني السيوية.
يبدو أن نمط العزلة الفريد للواحة الصغيرة يمنعها من تفاعل يطور فنونها ويطرحها في شكل منتج متداول بدلا من التراث الشفاهي. ولكنها تظل دائما مكانا لتلاقي التأثيرات المختلفة.
في الواحة آثار فرعونية وإغريقية مع آثار زيارة للإسكندر الأكبر. غزوات البدو الصحراويين أجبرت أهالي الواحة لقرون على الاختباء فوق جبل يتوسط المدينة يسمى الآن جبل شالي. كانت كل بيوت سيوة فوق الجبل ذات نوافذ ضيقة يحميها حصن ترابي ضخم ذو فتحات ضيقة أيضا يمكن سدها بسهولة أو فتحها لتسمح بالكاد بإطلاق السهام على الغزاة. الآن توجد أطلال المدينة القديمة التي نزلت كلها الآن بينما ظلت بعض البيوت المبنية بالطين السيوي "الكارشيف" بجوار سفح شالي شاهدة على طراز البناء القديم وظل مسجد السنوسية ومئذنته المميزة شاهدا على تاثير الجوار الليبي. الحركة السنوسية كان لها تأثير تاريخي تضاءل الآن. فمريدي وأبناء الحركة التي نشأت في ليبيا وتجمع بين أساليب الصوفية في التنظيم وبين أفكار سنية وروح جهادية مقاومة، كانت تتحرك من ليبيا إلى الشرق بغرض الحج أو التجارة واستوطن بعضهم الواحة. ولكن تأثيرا أكبر للشيخ المدني الشاذلي يطغى على تأثير الحركة السنوسية.
يروى أنه قبل حوالي 150 عاما وصلت الخلافات بين قسمي سيوة، الشرقي والغربي إلى درجة خطيرة ووقع بينهم قتال وسقط قتلى وجرحي واستمر ذلك فترة. حتى أتى الشيخ أحمد المدني الشاذلي واجتمع بكبار القبائل في منطقة السياحة عند جبل الدكرور ونجح في عقد صلح بينهم وتناولوا معا الطعام وذكروا الله وأمروا الناس جميعا بالخروج إلى السياحة والاحتفال والفرح فصار تقليدا ولذلك يسمى أيضا عيد الصلح. ومن ساعتها تتبع معظم سيوة الطريقة المدنية الشاذلية التي ينظم أبناؤها الاحتفال ويخدمون زواره.

بركة أم بدعة؟
مع توافد زوار اليوم الأول من العيد، يواصل أبناء الطريقة المدنية الطبخ بهمة وينقلون أواني الطعام من مكان إلى مكان في مشهد استعراضي على خلفية صوتية من أذكار وأناشيد. ينتهي الطبخ وتوزيع أواني الفتة المكونة من خبز وسمن ومرقة اللحم. يجلس الجميع أمام الساحة الواسعة عند سفح الجبل على الأرض في حلقات، يصل المحافظ وينضم إلى مشايخ القبائل ويصعدون إلى مقصورة خاصة ضمن مساكن الطريقة المدنية. يعطي رئيس الطباخين إشارة البدء: بسم الله. يمد الجميع أياديهم إلى الفتة التي يسمونها "البركية" لأنها تجلب البركة والألفة عند أكلها جماعة. يأكل الجميع في نفس اللحظة نفس الطعام الذي شارك فيه كل أهل سيوة بتبرعات تجمعها مساجد سيوة المختلفة.
عبد الرحمن الدميري، شيخ قبيلة الظناين كبرى قبائل سيوة، يتحدث إلى وسائل الإعلام المختلفة مؤكدا أن هذ التقليد يجدد كل عام الوئام والأخوة بين أهالي الواحة ولكنه يرفض بشدة أسطورة المعركة بين قسميها مؤكدا أن الشيخ مر واجتمع بكبار الواحة لقاء وديا عند جبل الدكرور وأوصاهم أن يحافظوا على التقليد ليدوم سلامهم وأمنهم.
تخفت الضجة عند جبل الدكرور وتقل حركة البيع والشراء في الممر الطويل. يستريح أبناء الطريقة استعدادا للحضرة بعد صلاة العشاء. في الحضرة يبدو واضحا الحضور الكبير للشيوخ والكهول والصبية والأطفال وغياب ملحوظ للشباب. يؤكد كهل من شيوخ الطريقة على ذلك وهو يهز رأسه أسفا:” لم يعد شيء كما كان، الاحتفال هذه السنة أكبر وأكثر زحاما لأنه ألغي العام الماضي بسبب الإنفلونزا ولكن الإقبال على الأكل والشرب وليس على الذكر للأسف”.

يقف معاذ الشاب سائق التروسيكل قريبا من حلقة الحضرة يشاهد التمايل والإنشاد ويسخر. يقول معاذ أن ما يفعلونه كلام فارغ وليس من الدين في شيء. يساعد معاذ ابن عمه في مطعمه الموجود في سوق سيوة. يضع ابن عمه في المطعم مطبوعات الجمعية الشرعية وأنصار السنة المحمدية، الجمعيتين الأكثر سلفية، مع كتب إسلامية أخرى باللغة الإنجليزية يهديها للسياح الأجانب.
هناك تأثر سلفي لا تخطئه العين يزاحم الانتماء الصوفي التقليدي. اللافتة عند المتجر الكبير تعلن التردد الجديد لقناة "الرحمة" الفضائية السلفية. العامل الملتحي في المتجر الآخر يناقش زميله الذاهب إلى الدكرور ويحاول أن يقنعه أن عيد السياحة بدعة وكل بدعة ضلالة.
يبتسم زميله ويرد عليه "أنت البدعة يا أخي!”. يضحكان معا في أريحية. يصر الأول على رأيه بينما يقبض الثاني بيديه على كف ابنه و ابنته، اللذين يرتديان ملابس زاهية الألوان، ويتجه بهما إلى العربات الذاهبة إلى العيد.



نشر في "الشروق" الثلاثاء 26 أكتوبر 2010
PDF
المزيد

الجمعة، ٢٢ أكتوبر ٢٠١٠

شد وجذب مع ميكيافيللي



هناك طريقة لممارسة السياسة من داخل السلطة تراعي بعض مصالح الشعب لكن مع ضمان دوام سلطة الحاكم. هذه هي خلاصة فكر نيقولا ميكيافيللي في كتابه الشهير "الأمير". البعض يراه شيطانا رجيما والبعض يراه مفكرا واقعيا. الصورة النمطية للشباب الذي يختار الانضمام إلى الحزب الوطني تضعهم كأتباع لميكيافيللي، الشيطان تارة و الواقعي تارة. ولكنهم في صورة أخرى يرسمونها هم يخوضون جدلا مع طيف أفكاره، ويتحركون بين القناعة التامة بالحزب وسياساته ورجاله والمستقبل المشرق معهم، وبين الاعتراف بسلبيات الحزب الحاكم مع أمل في إصلاح ممكن من الداخل لأنه المنفذ الوحيد للسياسة.

شباب الحزب الحاكم :
السياسة على أرض الممكن والمصلحة والطموح الواقعي

"هذه الواجهة جديدة" يشير يوسف ورداني مبتسما إلى الواجهة اللامعة للمقر الرئيسي للحزب الوطني المطل على كورنيش النيل بالتحرير. يخطو داخله متحمسا متوجها إلى مقر إدارة الموقع الإلكتروني للحزب الذي تولى مسئولية تحريره مؤخرا. تبدو الإجراءات لأول وهلة مشددة، ولكن إلى حين حضور شخصيات هامة يتراخى رجال الأمن قليلا ولا ينتبهون إلا لتصاريح دخول الكاميرات. لا تبدو الحركة كثيفة ذلك الوقت رغم ما يقوله يوسف في المصعد من أن معظم الأمانات المركزية هنا إلا أمانات قليلة منها أمانة الشباب التي توجد في مقر الحزب في عابدين، مؤكدا أن التردد على هذه الأمانة تحديدا يتم بكثافة غير عادية.
“تضم أمانة الشباب ما يزيد عن 100 ألف شاب. يشتركون في أنشطة مختلفة. الأعضاء من سن 18 عاما إلى 40 عاما يمثلون 60% من عضوية الحزب التي تجاوزت الآن الملايين الثلاثة" يؤكد يوسف على أن ذلك انعكس على اهتمام الحزب مؤخرا بالإنترنت، الساحة الشبابية النشطة التي يبدو أن المعارضة والحركات الاحتجاجية تجتذب فيها الاهتمام الأكبر.
"في أول اهتمامي بالسياسة لم تكن ساحة الإنترنت نشطة كما هي الآن وكان عليّ أن أبحث بطرق تقليدية عن برامج الأحزاب المختلفة التي فكرت في الانضمام لها. كان يجب أن أذهب إلى المقرات لأطلب البرامج وشعرت أحيانا أني أطلب وثيقة سرية" يحكي يوسف ورداني، الذي تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 2002، أنه بدأ الاهتمام بالسياسة قبل دخوله الكلية وكانت الخيارات التي فكر فيها هي "الناصري" و"التجمع" و"الوفد”: "لم أكن منجذبا للناصرية، وبدت لي الأفكار الاشتراكية لحزب التجمع ساعتها غامضة وصعبة، كنت أكثر ميلا لليبرالية وفكرة الوحدة الوطنية كما جسدها حزب الوفد. توجهت إلى مقره بالغربية حيث كنت مقيما لفترة هناك" يحكي يوسف ضاحكا أنه خرج محبطا من التجربة لأن أحدهم سأله بروح استنكارية عما أتى به إلى هنا ولماذا، وآخر قال له أن كل الأحزاب مجرد صحف وعليه أن يوفر وقته وجهده. في الجامعة تاثر بكتاب "تطور النظام السياسي في مصر" لأستاذه القيادي في الحزب الوطني د.علي الدين هلال وبما عرف من معلومات عن الحزب :"وجدت المباديء بسيطة بالنسبة لي كشاب في مقتبل دراسته الجامعية. ووجدت جماعة سياسية كبيرة وهيكل مؤسسي تنظيمي قوي. وطرق منظمة للترقي داخله وتشجيع كبير للشباب".

بعيدا عن صخب المظاهرات والروح النضالية لتجمعات الطلبة المعارضين والسياسة ذات الشعارات الساخنة أو الآمال البعيدة، ينضم مئات الطلبة في الجامعة للحزب الوطني لأسباب يرونها عملية وأكثر بساطة كما يذكر يوسف ورداني، لا تبدو السياسة فيها كصراع أو معركة بقدر ما هي مجال للإنجاز الشخصي والجماعي فيتم البحث عن كيانات ملموسة مؤهلة لذلك وليس الاشتراك في خلق أخرى أو الانحياز برومانسية إلى كيانات صغيرة جديدة لا تملك غير الأمل والحماس.

جيل المستقبل
بعد انتهاء مرحلة الجامعة يبدو أن خدمات التدريب والتأهيل تمثل مسارا مميزا آخر لعضوية الشباب، من هذا المسار انضمت أمل عبد العزيز، أمينة الوحدة الحزبية لـ"فتيان وفتيات مصر" بمنطقة مصر الجديدة وعضو المجلس المحلي هناك. تحكي أمل أنها تعرفت على الحزب الوطني أثناء تلقيها دورات الإدارة في جمعية "جيل المستقبل" التي يرأسها جمال مبارك، رئيس لجنة السياسات بالحزب. رغم أنها خريجة كلية الزراعة إلا انها بعد التدريب توجهت لاستكمال لدراسة إدارة الأعمال وتعد الآن للحصول على درجة الماجستير فيها من الجامعة الأمريكية.
بعيدا أيضا عن الجدل السياسي، تمثل الأنشطة الخدمية التي تقدمها أمانات الوطني في مجال التدريب والتوظيف بابا لنسبة من عضوية الشباب، ولكن تقارير أمانة العضوية بالحزب تشير إلى زيادة الإقبال على طلب العضوية بشكل ملحوظ بعد المؤتمرات العامة للحزب، ربما بفعل التناول الإعلامي للمؤتمر.
توجهت أمل إلى مقر الحزب الوطني في مصر الجديدة وتقدمت بطلب عضوية مباشرة عقب المؤتمر العام للحزب عام 2002. تقول أن أجواء المؤتمر التي نقلها الإعلام شجعتها على الاقتراب من العمل السياسي وذلك بعد أن استفادت من خدمات جمعية "جيل المستقبل" ورأتها تطبيقا واقعيا للشعارات التي يرفعها الحزب عن الفكر الجديد.
تؤكد أمل عبد العزيز أنها كانت على الدوام نشطة سواء في المدرسة أو الجامعة في اتحاد الطلاب، ولكن كانت نظرتها للمعارضة أنها إما "حركات هدامة" على حد تعبيرها أوتصرخ وتحتج ولكنها تفتقر لبرامج وآليات حل المشاكل.
ترقت أمل من عضو بالحزب إلى أمينة مرأة بوحدة حزبية إلى أمينة لوحدة حزبية. لم يكن المشوار سهلا كما تقول: “أنا اتبهدلت علشان أوصل. المرأة تجد صعوبة كبيرة مع المستويات القاعدية في الحزب ولا توجيهات المستويات العليا. الرجل المصري رجل شرقي في الحزب وفي البيت. والمرأة النشيطة في الحزب إما أن تكون غير متزوجة أو تكون زوجة عضو نشيط. لو كان غير ذلك فإما أن تستقطبه وإما أن تنفصل أو تنسحب!”.
نشاطها في أمانة المرأة ثم أمانة مهتمة بشكل أساسي بالشباب جعلها تركز على الأنشطة الاجتماعية والخيرية، التي تقول أنها تجتذب المزيد من الراغبين في أن يكونوا إيجابيين ولكنها تعود وتؤكد أن العمل بالشعارات السياسية ضروري في لحظات بعينها مثل الانتخابات.
لحظات الرواج السياسي قد تقترن مع أبواب أخرى للعضوية مثل الترشيح الشخصي من المعارف وعبر تزكية شخصية وهو ما حدث مع يوسف بشاي، خريج الجامعة الأمريكية والمحلل المالي بإحدى المجموعات الاقتصادية.
كانت بدايته مع الحزب بفضل معرفته الشخصية بأحد مرشحي انتخابات مجلس الشعب في دائرة المنيل حيث يسكن. كان لا يزال طالبا يدرس الاقتصاد والسياسة، وفكر في أنه يريد أن يقترب ويشارك لا أن يكون مجرد متابع. الاتجاه للمعارضة لم يكن خيارا لديه فهو يراها مجرد "مكاتب وصحف" ولا وجود لها حقا في الشارع. بينما كان يريد أن يبدأ فورا في خدمة مجتمعه الصغير وأن يدفعهم للإيجابية بإقناعهم باستخراج بطاقات انتخابية.
يقول يوسف بشاي: "خلال سنتين نشطت خلالهما في الحزب في منطقة المنيل لمست أن دوافع الشباب القريبين مني للانضمام تتخلص في دافعين: الرغبة في التأثير في المجتمع الصغير أو الحي. والرغبة في التشبيك وتنمية شبكة العلاقات ودائرة الاتصال والتأثير. أعتقد أنهم دافعين غير متعارضين. لأن السعي للمصلحة الشخصية لا يتعارض مع المصلحة العامة، ولكن في بعض الأحيان قد يغلب الدافع الثاني على الأول ولكن التنظيم الجيد يحول دون ذلك".
من خلال نشاطه في أمانة التثقيف والتدريب بالحزب، لمس يوسف ورداني أيضا أن دافع العديد من الشباب هو الاستفادة من الخدمات التي يقدمها الحزب، بدءا من الرحلات والأنشطة الترويحية وصولا إلى تسهيل القروض الميسرة وفرص العمل. يؤكد أيضا أن الرغبة في الترقي الشخصي ونسج العلاقات داخل الحزب ليست عيبا: "شعور الأفراد بالرضا الذاتي ضروري لأي مؤسسة أو جماعة لكي يمكن أن تكون كيانا ناجحا، بشرط ألا يطغى ذلك على المصلحة العامة للكيان".

خدمات غير سياسية
تنتقد المعارضة اجتذاب الحزب الحاكم للشباب عبر الخدمات والتدريب والتوظيف والعمل الاجتماعي، وهي مجالات بعضها قد يكون مسئولية الدولة لا الأحزاب وبعضها مجال للمجتمع المدني. تتهم المعارضة الحزب الحاكم باستغلال سلطات وإمكانات الدولة أو التداخل معها أثناء تقديم هذه الخدمات. بالإضافة إلى أن هذه الطبيعة تراها بعض الاتجاهات طبيعة "غير سياسية" تتناقض مع فكرة الحزب السياسي، الذي تصفه معظم الأدبيات السياسية بأنه كيان معبر عن مصالح فئات بعينها ويخوض صراعا سياسيا من أجل الدفاع عنها في مواجهة مصالح أخرى.

"السياسة كما أراها ليست أفكارا وأيديولوجيات. السياسة إدارة وتنظيم وحلول للمشكلات" هكذا يرى يوسف بشاي، مضيفا أن صراع المصالح "كلام كبير" وأن التوازن بين المصالح المختلفة هي مهمة المسئولين التنفيذيين.
يقول أنه من موقعه كفرد من الطبقة الوسطى ويعمل في مؤسسة حديثة يرى أن سياسات تحرير الاقتصاد تسير بخطوات بطيئة، بينما قد يراها موظف في الدولة أوعامل خطوات سريعة تضغط عليه:"لا أعتقد أن مشكلة بلدنا تكمن في صراع سياسي بين حكومة ومعارضة بقدر ما هي مشكلة إدارة وموائمة تحقق التوازن".

ولكن سواء فيما يخص إدارة الصراع السياسي أو الإدارة التي تحقق التوازن، لا يبدو أن صورة الحزب الحاكم جيدة في الإعلام الجماهيري الخاص، بعيدا عن إعلام الدولة وصحف الأحزاب المعارضة. وهو مؤشر على أن المزاج العام للمجتمع المصري يميل لعدم الرضا عن أداء الحكومة ووصم الحزب الوطني بأنه مجتمع للمنتفعين والفاسدين والراغبين في الصعود الاجتماعي والمنافقين للسلطة.
يعتقد يوسف ورداني أن هذه الصورة السلبية في رأيه سببها رغبة الإعلام في الإثارة وجذب الجماهير ولكنه يؤكد أنها كانت موجودة بين الناس بشكل أقوي قبل خمس سنوات، ويشير إلى أن بعض أعضاء الحزب بالفعل كان يخجل من إعلان عضويته للناس، ولكنه يعتقد أن الحزب الوطني قطع أشواطا في التحول إلى مؤسسة منظمة تعمل بكفاءة أكثر وتبعد عنها الفاسدين والراغبين في مجرد مصالح شخصية. مثله يعتقد يوسف بشاي أن الصورة السلبية موجودة لأنها انعكاس لوضع عام للمجتمع العام ولا يجب أن يتحمله الحزب الحاكم وحده :"هناك مشكلة اجتماعية تتعلق بعدم احترام سيادة القانون واحترام افكار حقوق الإنسان. والحزب الوطني يخالف القانون مثل غيره لأن طرفا مثل الإخوان على سبيل المثال يستخدم الدين بالمخالفة للقانون والدستور. لا يمكن أن نتوقع أن يتم الصراع السياسي بشكل مثالي في ظل وضع مصر الحالي".

عند الحديث عن انتقادات للحكومة في مجال انتهاك حقوق الإنسان أو الحقوق السياسية، يبدى يوسف ورداني حساسية كبيرة قائلا أن التقدم في هذا المجال كبير وأن الحكومة تبدي مرونة كبيرة حتى في مواجهة "المعارضين غير الشرعيين" – على حد تعبيره - مثل الإخوان المسلمين.
كذلك ترى أمل عبد العزيز :"دمي بيتحرق كل يوم من الجرايد وبرامج التوك شو. هناك هجوم شرس على الحكومة والحزب. حتى أسرة الرئيس لا تسلم منهم. كل هذه الحرية ويتحدثون عن انتهاك حقوق سياسية وقمع؟".
تبدي أمل عبد العزيز دفاعا حارا عن الحزب والرئيس رغم أنها لا تنكر معدلات الفساد العالية التي لا ترى الحكومة وحدها مسئولة عنها أو مسئولة عن القضاء عليها فورا:"في الحزب الوطني مثلما في غيره. من منا لا يمتلك علاقات ولا يستفيد منها"، ثم تؤكد على أن العمل السياسي علمها خبرة ما يفتقر إليها الكثير من الشباب في رأيها: "أن تكون صبورا. ترى الغلط وتصبر عليه قليلا. ليس موافقة عليه ولكن لأنك تعرف جيدا طبيعة الأشياء وأن الأمور لن تتغير سريعا".


وسطاء بين الناس والدولة

أثناء دراسته في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في أواخر التسعينات يحكي عمرو عبد الرحمن أن تجمعا للطلبة المعارضين نجحوا في اجتذاب كتلة كبيرة من الطلبة القادمين من خارج القاهرة والمقيمين في المدينة الجامعية، وأقنعوهم بالترشح في انتخابات اتحاد الطلبة على قائمتهم. لم يكن لمعظم هؤلاء الطلبة علاقة بالسياسة بقدر ما كان يجمعهم رغبة في دخول اتحاد الطلبة ونفور عام من الحزب الوطني. وكان أن نجحت هذه القائمة ليس بسبب ميلها السياسي ولكن بسبب "العصبية" التي دفعت أبناء المحافظات المختلفة للتصويت لبلدياتهم وبسبب مناقشة هؤلاء لمشكلات الطلبة التفصيلية وليس القضايا السياسية. والذي حدث بعد ذلك هو أن معظم هذه الكتلة من الطلبة التحقت فيما بعد بالحزب الوطني.
يقول عمرو عبد الرحمن، الباحث والمحلل السياسي ومدرس العلوم السياسية بجامعة إسكس في بريطانيا: "ما حدث هو ديناميكية معروفة في العمل العام في مصر. المستويات القاعدية التي تتعامل مع جماهير غير مسيسة، والملمح الخدمي والعصبي هو السائد. وإذا كنت تريد أن تلعب لعبة الانتخابات من أجل تمثيل أهلك وعصبيتك ومن أجل خدمتهم يجب أن تتوسط للناس عند الدولة، ساعتها تكتشف أن الحزب الوطني هو نفسه الدولة أو مدخلها. عند الاحتكاك الحقيقي بالحزب يرى الشباب أناسا عاديين وليسوا شياطين ينفخون النار كما تصورهم أحيانا صحف المعارضة، ساعتها تهدأ حماستهم ويفكرون بشكل عملي".
الطلبة القادمون من الأقاليم نموذج لنمط موجود في الريف وأحياء شعبية فيما يرى عمرو عبد الرحمن، يلتحق بالحزب لكونه ممثلا لجهاز الدولة في المنطقة أو القرية، وهو ما لا يعكس أي تحول على مستوى الأفكار على الإطلاق: "يمكن أن تجدد بينهم من يكرهون النظام أو متعاطفين مع الخطاب الإسلامي في طبعته السلفية العامة. لكن تحركهم قناعة راسخة بعدم جدوى المعارضة والخروج على جهاز الدولة، وضرورة الحفاظ على صلة دائمة مع هذه الدولة عبر حزبها، الحزب الوطني".
ولكن هناك نمط آخر يمثله أبناء الطبقة الوسطى الحضرية الذين يصفهم عمرو عبد الرحمن بأنهم يشكلون "الطبقة السياسية" بلغة الصحافة: “هم شباب يشعرون بالرغبة في لعب دور عام، يرون أنفسهم محبوبين ولديهم قدرات تنظيمية وسياسية، لديهم حظ من الاهتمام بالشأن العام، يجمهم تقدير غامض للوضع القائم رغم نقدهم له أحيانا، التحاقهم بالحزب هو أيضا التحاق بالدولة ولكن هنا من أجل الاستفادة من إمكانياتها في لعب هذا الدور الذين يطمحون إليه، وليس من أجل الخدمات المحددة مثل النمط السابق".
يشير عمرو عبد الرحمن إلى شريحة أضيق داخل هذا النمط، تمثلها الشباب ذوي التعليم المتميز والكفاءات والمواهب و يرغب بشكل واضح في احتلال موقع مميز داخل الدولة ولا يطمح للعب دور على المستوى المحلي مثل باقي الشباب ولكن عينه على تمثيل الدولة في مستويات عليا مباشرة وهؤلاء يتمتعون بكفاءات ومواهب يلاحظها أساتذة وقيادات فيقربونهم منهم سريعا ويدخلون الحزب الوطني للعمل في مهمات بحثية أو تحليلية أو استشارية.
يختلف عمرو عبد الرحمن مع الرؤية المشيطنة لهؤلاء الشباب، ويتفق مع كونها نتاج مزيج من تشوش الرؤية عند قطاعات إعلامية وسياسية معارضة، مع تعمد شيطنة يخفي خلفه معرفة أن الأمر ليس بهذا السوء. ولكنه في النهاية يرى أن الشباب الذين يلتحقون بالوطني يساهمون بوعي أو دون وعي، رغم نوايا بعضهم الطيبة، فيما يقوم به الحزب الوطني من إغلاق لمنافذ الحياة السياسية بشكل ما وهو ما يحول دون تحول الحزب الوطني نفسه لحزب تنافسي بدلا من كونه مرتبطا بالدولة.


أغلبية الأقلية

كشف آخر استطلاع رأي أجراه مجلس معلومات مجلس الوزراء على عينة من الشباب في إبريل 2008، أن 1 % منهم فقط يعرفون عدد الأحزاب السياسية في مصر ولو على وجه التقريب. بينما نسبة 7% منهم منضمون لأحزاب سياسية، غالبيتهم العظمى انضموا للحزب الوطني. عوامل تفضيلهم للحزب كانت كالتالي: 20% لأنه الحزب الأقوى والأكثر شعبية، 22 % لأن الانضمام إليه يتيح فرصة لتحسين أحوال البلد و23% لأنهم لهم أقارب وأصدقاء داخل الحزب.
تقرير التنمية البشرية الصادر هذا العام عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ، ومعهد التخطيط القومي يقسم الشباب المشاركين في العملية السياسية إلى فئات، أكبرها الفئات التي تم دفعها نحو الاستبعاد خارج العملية السياسية لعدم اقتناعهم بجدوى السياسة، ثم الفئة التي تم جذبها بالاستقطاب من قبل الحزب الوطني أو الإخوان، ثم فئة أقل يصنفها التقرير أنها "فئة معتدلة" مهتمة بالمشاركة بالأساس من خلال المجتمع المدني أو الإنترنت.
يشير التقرير إلى أن جماعة الإخوان تستقطب الشباب بمزيج من الخدمات والدعم المعنوي المتمثل في الدعوة الدينية، أما الحزب الوطني فيستخدم "إستراتيجية تشبه إستراتيجية جماعة الإخوان المسلمين من حيث تقديم الخدمات، وتنظيم الرحلات، وتقديم المنح الدراسية لتعلم اللغات، والكمبيوتر والحصول على الرخصة الدولية لقيادة الكمبيوتر ICDL ، إلى جانب رعاية الأحداث الرياضية. ومع هذا تقدم خدمات الحزب الوطني الديمقراطي في إطار نشر فكره، وفكر قادته، وإنجازاته، ولكنه لا يشجع الفكر النقدي، على خلاف جماعة الإخوان المسلمين التي تشجع النقد السياسي" وفق ما جاء في التقرير.


فقه الدفاع عن "الوطني" على الإنترنت

وسط غابة من الرسائل ذات النفس المعارض تتبادلها شبكة الناشطين والمدونين البارزين، على خدمة تويتر Twitter.com لتبادل الرسائل القصيرة، ستندهش إن قرأت تعليقا لمحمود إبراهيم (M_ibr) أو حوارا بينه وبين وائل عباس المدون المشاغب البارز. محمود يدافع عن الحزب الوطني ويسخر من المعارضة سخرية لاذعة، ولا يخفي أنه عضو في الحزب الوطني رغم ما يترتب على ذلك من متاعب وسط غابة المعارضين على الإنترنت وحتى في الحزب الوطني على أرض الواقع.
“أظنني أنني وعبد الله كمال رئيس تحرير روزاليوسف من نعلن أننا أعضاء في الحزب الوطني على تويتر" يرى محمود ذلك طبيعيا بشكل ما:” خدمات الإنترنت أدوات اجتماعية تتداولها أوساط بعينها، وبعض الأدوات شائعة فقط في أوساط الناشطين المعارضين. من ناحية أخرى لو أعلنت أنك عضو في الوطني أثناء أي نقاش تفقد مصداقيتك لدى الآخر، ويترك موضوع النقاش أيا كان ليتحول إلى انتمائك للحزب والحكومة وتواجه هجوما عنيفا. أعتقد أن معظمم شباب الوطني يتجنبون هذه الاحتكاكات".
تبدو ساحة الإنترنت كوسط معارض، وحضور الحزب الوطني ومؤيدي النظام باهتا وضعيفا. حتى داخل مجموعات الحزب الوطني على فيس بوك تجد من يدخلون خصيصا لتوجيه انتقادات هادئة أو سبابا عنيفا. ورغم بعض التطوير والتوجه لاحتلال مساحة على الشبكات الاجتماعية الأكثر شعبية مثل فيس بوك وتويتر وفليكر ويوتيوب، إلا أن الحضور لا يزال ضعيفا. ولا تزال اللجنة الإلكترونية المسئولة عن ذلك انطوائية ولا تفضل الحديث مع الصحافة رغم طبيعتها الإعلامية!
يبتسم محمود إبراهيم متجاوزا التعليق على رفض اللجنة الإلكترونية التحدث مع الصحافة قائلا:”أعتقد أن خوف شباب الوطني من الاحتكاك على الإنترنت شيء سلبي عموما. ولكن أنا قوي وواثق من نفسي ولا أخشى ذلك”.
يخوض محمود مناقشات حامية مع منتقديه ويرد السخرية بمثلها أو أكثر، ويعترف أنه قد يكون حادا بعض الشيء أمام بعض تجاوزات البعض بحقه أو أمام جهلهم بحقائق بسيطة في رأيه:”أعتقد أنا أكتر واحد اتعمل له بلوك Block في تاريخ تويتر. وأحيانا أجد من يرسل إليّ ويشتمني بعنف بدون سابق أو حوار أو معرفة لمجرد أني عضو في الحزب الوطني".
تحت عنوان "فقه الدفاع عن الحزب الوطني" يكتب محمود في مدونته "مصر اللي بحبها" بنبرة هادئة عن شعوره "كدخيل" على الإنترنت التي تتنفس معارضة: "الكل ضد النظام، يختلفون مع بعضهم الي درجة الكراهية بل وأحيانا الاعتداء علي بعضهم باليد حينما يلتقون، الا انهم في النهاية حينما يصل اتوبيس معارضة النظام يركبون جميعا. ليس هذا بالامر السئ فأكيد ان كل سلطة و أي سلطة في العالم لها معارضيها زاد أو قل العدد. القضية بالتأكيد ليست هنا في مجال الكثرة العددية لانهم يمكن حصرهم جميعا في 500 شخص علي اقصي تقدير وهو ما يستطيع الحزب الوطني و بدون أي اموال (كما يدعون دائما) حشد عدد كبير من الاعضاء يفوق هذا العدد بمئات الالاف. و لكن القوة هنا بقوة التأثيروكل شخص فيهم له تأثير في عدد واسع من المؤيدين (عن علم اوجهل) و هذه حقيقة لا يمكن اغفالها". ويضيف أنه يعترف بكثير من السلبيات التي يشير إليها الكثيرون ولكنه يؤكد أن هناك فارقا أن تكون مؤيدا للنظام وبين أن تكون جزءا منه. وأنه كما يقف ويصفق لما يتفق معه من سياسات فإنه يعلن علانية انتقاده لما يراه سلبيا.
تحت عنوان "حديث هاتفي مع ميكيافيللي" كتب محمود في مايو 2008 متخيلا أن نيقولا ميكيافيللي صاحب كتاب "الأمير"- الذي قدم منهجا وفلسفة في كيفية حفاظ صاحب السلطة على سلطته – قد اتصل به فجرا مستاء من ترتيب ماحدث آنذاك، من زيادة العلاوة الاجتماعية ثم رفع أسعار سلع حيوية بعدها مباشرة، مذكرا محمود أنه نصح "الأمير" بعكس ذلك. يدور حوار طويل حول بعض السياسات الاقتصادية يختمه ميكافيللي بقوله: "عايز اقول لكم يلعن ابو اللي علمكم السياسة انا متبري منكم"، وذلك بعد أن أوصاه وصية: "ابقي ابعت نسخة من كتابي لأعضاء الحكومة والحزب بتاعها ". يضحك محمود معلقا:”كان قصدي أنه حتى ميكيافيللي لا يرضى بهذا الأسلوب!”.
تسببت انتقادات محمود لبعض سياسات الحكومة في مشاكل له داخل الحزب. يحكي أن بعض الشباب أخبروا لبعض القيادات الوسيطة أنه مدون ويكتب عن بعض فاعليات الحزب وينتقد أحيانا. وتسبب ذلك في توتر بينه وبين الأمين السابق لأمانة شباب القاهرة، حتى أن محمود ترشح في انتخابات المحليات مستقلا ضد مرشح الحزب، وأعلن في مدونته أنه شهد تزويرا مارسه الحزب الذي ينتمي إليه لصالح منافسيه
يدافع محمود عن الحزب والحكومة رغم اعترافه بوجود التزوير والكثير من السلبيات الأخرى: “ التزوير يحدث مجاملة أو كجزء من ثقافة عامة للمصريين. والصراع غالبا بين الوطني ونفسه. بين من ترشحوا من داخل الحزب والذين ترشحوا مستقلين. حسنا، هناك مشاكل وسلبيات كثيرة، ولكن ما الذي يمكن عمله؟ لنكن واقعيين. السياسي الشاطر هو من يسأل نفسه ما هي الخطوات إلى التغيير. أنا لا أرى تغييرا ممكنا إلا من داخل النظام. تغيير تدريجي وبخطوات بطيئة. ومع الوقت يزداد الطلب على السياسة والديمقراطية، حسب تعبير عبد المنعم سعيد، ولكن الآن لا بديل حقيقي غير الحزب الوطني".
في رأي محمود أن المعارضة تقدم للناس في خطابها ما يريدون أن يسمعوه لا ما يحتاجوه ولذلك يجد كلامها رواجا في الإعلام وعلى الإنترنت:”كلما ازددت قربا من المعارضة احترمت الحكومة أكثر. كثير من أصدقائي المعارضين قالوا أني غيرت نظرتهم للحزب الوطني. الأسهل أن تعارض، ولكن الأصعب أن تكون إصلاحيا من داخل النظام".


من الوطني إلى المعارضة:
"كنا مجرد أذرع لمراكز اتخاذ قرار .. والإصلاح من الداخل مستحيل"

رغم الجذور الوفدية في عائلته، وجده الذي كان عضو الهيئة العليا للوفد وقتما أسسه سعد زغلول، وأبيه الذي نشط فترة مع الحزب في شبابه، إلا أن عبد المنعم إمام اختار عام 2000 أن ينضم إلى الحزب الوطني في المحلة حيث يسكن بينما كان لا يزال في الثالثة عشرة من عمره.
يقول عبد المنعم أن ذلك جاء بعد شعوره بالرغبة في النشاط في المجال العام، وبعد أن شجعه أصدقاء له في الحزب بينما كانت صورة المعارضة في وعيه باهتة آنذاك. لم يعترض والده بل على العكس شجعه في نقاش بينهما إن كان ذلك قرارا صائبا وإن كان من الأفضل أن ينضم لحزب معارض. يذكر عبد المنعم جيدا ما قاله له والده: “لو دخلت حزب معارض ستموت بالداخل بلا جدوى ولن تتعلم شيئا. في الحزب الوطني على الأقل ستتعلم السياسة ويمكن بعدها أن تختار طريقك".
ترقى عبد المنعم سريعا حتى وصل إلى الأمانة العامة للحزب، تراكمت بعض السلبيات التي كان يقاوم تأثيرها بدعوى جدوى الإصلاح من الداخل حتى جاءت لحظة فارقة. عندما طلب منه في انتخابات عام 2005 أن يشترك ويساعد في تزوير فرفض وتسبب ذلك في توتر كبير. يقول أن تلك كانت تجربة موجعة بالنسبة له وساعتها اتخذ قراره وترك الحزب.
يقول أنه في ذلك الوقت بدأت المعارضة تنتعش وترفع صوتها وظهرت حركات التغيير، حتى أن والده سأله مستنكرا:” إنت لسه قاعد في الحزب الوطني بتعمل إيه؟".
بعد تركه الحزب ظل سنة بلا نشاط سياسي، حتى وجد ضالته في حزب الجبهة الديمقراطية الذي أسسه عام 2006 أسامة الغزالي حرب، الذي خرج من الوطني أيضا. انضم عبد المنعم مع عدد من الشباب وأسسوا معا منظمة الشباب بالحزب التي يحتل عبد المنعم فيها منصب الأمين العام.
نسبة ليست قليلة من شباب الجبهة كانوا من الشباب المتحمس للتغيير من داخل الحزب الوطني، لكن صبره نفد ووجد في استقالة الغزالي حرب وتأسيسه حزبا جديدا شابا الطريق الأمثل. من هؤلاء أيضا شهاب عبد المجيد، رئيس نفس المنظمة في حزب الجبهة.
يحكي شهاب أن ميولا ليبرالية تشكلت لديه منذ صغره. وانضمامه للوطني جاء بسبب رغبته في التغيير وقناعته أن تغيير المؤسسة يجب أن يكون من داخلها، والحزب الوطني ليس كأي حزب آخر فهو بشكل ما جزء من الدولة. بالإضافة أن الأحزاب الأخرى لم تكن مقنعة له.
توجه لأمانة المعادي وملأ طلب عضوية مع عدد من أصدقائه. راحوا وجاءوا يسألون عن مصير الطلب. استخرجوا الكارنيه. ثم ماذا بعد؟ راحوا وجاءوا أيضا يسألون عما يمكن أن يقدموه. يقول شهاب أن هناك نسبة من العضوية هي مجرد أوراق وكارنيهات، ولكنهم أحسوا أننا نريد أن نعمل فعلا. بدأ شهاب وأصدقاءه يمارسون العمل السياسي، يجدون ما لا يعجبهم ولكنهم يعزون أنفسهم أنهم على الأقل يؤثرون في بعض الشباب داخل الحزب . ولكن شيئا فشيئا تراكم لديهم شعور أنهم أدوات وأذرع لمراكز اتخاذ قرار مغلقة وبعيدة، لا وجود للأفكار أو المباديء ولكن هناك حضور كبير لتبادل المصالح، هناك انتقادات عنيفة للحزب والحكومة داخل الحزب ولكن ذلك لا يقال في العلن ولو حاولت أن تتحرك لإصلاح ما يتم انتقاده فأنت مثير للشغب. ولكن يبدو أن الأمر الأقسى كان إحساس شهاب وأصدقائه أنهم أصبحوا محاطين بجيش من "المأجورين" على حد تعبيره.
يحكي أن أمرا جاء له ولخمسة من أصدقاءه مع آخرين عام 2005 بتشكيل مظاهرة في الحسين في مقابل مظاهرة للإخوان المسلمين. ذهب شهاب وزملائه يحركهم انتماءهم وحماستهم ولكنهم فوجئوا أنهم محاطين بالكثيرين ممن أتوا من أحل مبلغ مالي زهيد وساندوتش! يضحك شهاب :”وبصراحة، كنا قد رأينا ما يكفي. وعرفنا جيدا أنني وسط أطراف وأدوات تنفذ فقط. وأن الطرف المنفذ علاقته بالحزب هي الساندوتش. ولسنا في حاجة إلى الساندوتش".
مصير الأصدقاء الستة كان كالأتي، هو واحد آخر انضموا للجبهة فور تأسيسه، وواحد انضم للإخوان وثلاثة يأسوا تماما وابتعدوا عن السياسة.
خروج شهاب وعبد المنعم كان يأسا من فكرة الإصلاح من الداخل وكلاهما يردد بنفس اللفظ:”الإصلاح من الداخل مستحيل. تضييع وقت". ولكن لأنهما في لحظة ما داخل الحزب فهما يعرفان جيدا أن الصورة النمطية المشيطنة عن "عضو الوطني" ليست صحيحة تماما ولا تنطبق على الجميع. لكنهما يردنا على حجج الباقين على أمل الإصلاح من الداخل من أن بعض المشكلات هي ثقافة مجتمعية لا تخص الحزب، وأن الحزب واقعي يركز على حلول المشكلات لا الأفكار والأيديولوجيات.
ففي رأي عبد المنعم أن بعض مظاهر الفساد ومنها التزوير كان الحزب الوطني مؤسسة معنية بنشرها وتثبيتها والحفاظ عليها كأداة. أما عدم وضوح مباديء الحزب وأفكاره جعلت هناك خليط من ذوي الميول الاشتراكية والإسلامية يتلقون داخله مع آخرين ليبراليين، والنتيجة أن ما يجمع أفراده هو تبادل المصالح الخاصة وخدمة السلطة.
أما شهاب فيعلق على دعاوى واقعية الحزب ووسطيته واهتمامه بالسياسات التفصيلية لا بالأفكار الكبرى والأيديولوجيات بأن تلك الطريقة تعني غياب الرؤية السياسية، ويعتبر الأحوال المتردية نتيجة طبيعية لهذه الطريقة في النظر للسياسة: "أن تبحث عن حل لكل مشكلة بلا رؤية واسعة. فهذه طريقة إدارة كشك أو مقهى وليست برنامج حزب”. يتندر كلا من شهاب وعبد المنعم من أن الحزب الوطني الذي يتجه الآن لتطبيق سياسات ليبرالية لا يزال عضوا في الاشتراكية الدولية ولم ينضم بعد لتجمعات دولية ليبرالية انضمت إليها باقي الأحزاب الليبرالية المصرية ولكنه يضيف : "ولكن ذلك طبيعي ومنطقي إذا كان الكل في الحزب ينتظر الأوامر من فوق. واشتراكي الأمس أصبح ليبرالي اليوم وغدا ينتظر الأوامر الجديدة".


هذا الحزب من ذاك البلد

هناك دفاع شهير وشائع ضد أي انتقادات تشير إلى مشكلات وعيوب مؤسسة أو جماعة: “إنها ثقافة المجتمع الذي يحيط بهذه المؤسسة أو الجماعة ويؤثر فيها".

يستخدم هذا الدفاع من جانب شباب الحزب الوطني بكثافة عالية ضد الانتقادات الأكثر حدة التي توجه إليهم. مثلا: التعايش مع استغلال النفوذ والفساد، القبول بخلل الميزان الديمقراطي وزيادة ثقل اختيارات القيادات العليا عن اختيارات" شعب الحزب" من أسفل، قلة الاهتمام بالأفكار السياسية في مقابل التوجه نحو العناية الكثيفة بالإدارة عبر تقديم الخدمات ومحاولة حل المشكلات التي تظهر هنا وهناك.

هناك زاوية نظر ترى أن بعض ملامح الثقافة الاجتماعية السائدة تدعم دفاعهم: المقاومة الضعيفة للفساد في مستوياته الصغيرة، استبداد صغير في الأسرة وأماكن العمل واستغلال نفوذ صارخ عبر أسلوب "الواسطة" وتجاهل عادي ويومي للقانون، التذمر من أجل الحصول على خدمات أفضل وحل المشكلات مع غياب التفكير على مستوى سياسي في مجتمع مختلف يتجاوز مشكلاته بشكل جذري.

وفق وجهة النظر هذه يمثل الحزب الوطني "جماعة طبيعية" من المجتمع المصري تحمل عيوبه، ويكون اختياره من قبل الشباب الراغب في الدخول إلى ساحة السياسية اختيارا وجيها. فهو من جهة ساحة عملية لممارسة السياسة ومواجهة هذه المشكلات على أرضها بدلا من الإشارة إليها من بعيد عبر شعارات وأحلام سياسية لا يفهمها الجمهور. وهم في الوقت نفسه يعترفون بكل الخطايا والآثام التي يحملها المجتمع ومعه مجتمع أعضاء حزبه الحاكم، مع بعض الاعتذاريات والتبريرات والتخفيفات هنا وهناك.

ولكن الجانب الآخر لهذه الصورة ليس في صالح دفاع شباب الحزب الوطني عن اختيارهم. فالحزب الذي تتجلى فيه جوانب هذه الثقافة لا يبدو في نظر الكثيرين أنه ساحة للفعل السياسي الواقعي الذي يحاول تجاوز مشكلات هذه الثقافة. فزاوية النظر الأخرى ترى أن ساحات الحزب قد تكون محضنا لانتعاش هذه الثقافة وازدهارها وإعادة تصديرها للمجتمع، بحكم كونه في موقع السلطة وكونه قارب الراغبين في عسلها. وعن طريق اشتراك أعضاء الحزب أو سكوتهم عما يحدث وعن قمع أقرب الخيارات البديلة فهم شركاء أيضا في سيادة طريقة واحدة في التفكير في أي تغيير: التغيير من داخل السلطة نفسها، وبالإيقاع الذي يفضله القابضون عليها، إن كانوا يفضلون، وبدون الطموح إلى أي أفكار ومقترحات بديلة أو خيال سياسي مختلف.

بين المجتمع والحزب، الذي يحتل منذ نشأته موقع السلطة، علاقة جدلية معقدة، ولا يمكن تحديد ضربة البداية، فهي بعيدة الغور في تاريخ المجتمعات ووعيها السياسي والاجتماعي. والنتيجة حتى هذه اللحظة من المباراة وليدة الشد والجذب المتبادل بين السلطة والمجتمع، وقد يكون تأمل بعض التفاصيل والوجوه مفيدا من أجل رؤية الصورة المتداخلة والجدلية بين صورتين سائدتين مستخدمتان في الهجوم والدفاع: المجتمع المجني عليه في مقابل الحزب الجاني، أوالمجتمع المهتريء في مقابل الحزب الذي يحاول ستر عورته والسهر على نهضته.


نشر في "الشروق" الخميس 21 أكتوبر 2919
PDF
في الصورة: محمود إبراهيم، المدون الناشط في الحزب الوطني

المزيد

الخميس، ٧ أكتوبر ٢٠١٠

مقارنة الأديان فنا شعبيا


أبو إسلام أحمد عبد الله، الأب الروحي للعديد من الشباب الناشطين في ساحات الجدل الديني

الجدل الديني المصاحب لحالات التحول من المسيحية إلى الإسلام أو العكس ليس وليد لحظات كونها قضية رأي عام لبضعة أسابيع، ولكن البعض يتخذه مجالا أساسيا لنشاطه متطوعا، فردا أو عبر مراكز وأكاديميات، تهدف لتخريج أجيال يواصلون خوض مواجهات "التنصير" و"الأسلمة" الساخنة على الدوام، في دائرة الضوة أو تحت السطح.

في التاكسي الذي استقله الشاب عبد الكريم عمار كان بانتظاره سائق مسيحي، فيما يبدو ضليع في مجال مقارنة الأديان، أو بدا كذلك بالنسبة لعبد الكريم الذي سمع كلاما جديدا تماما عليه. فقد بدأ السائق يحدثه عن الإسلام مشككا وعن المسيحية مرغبا. عبد الكريم الشاب السلفي الملتزم الذي يتلقى دروسا في العلوم الشرعية التقليدية من قرآن وحديث وفقه لم يتمكن من الرد عليه.
"قلت يا نهار أسود!” يعبر عبد الكريم عن صدمته آنذاك، لقد واجه لأول مرة شيئا من "التنصير" الذي يقول أنه طالما سمع عنه. ولكنه عن طريق معارفه سمع أيضا عن "الأكاديمية الإسلامية لدراسات الأديان والمذاهب" التابعة لـ"مركز التنوير الإسلامي" الذي أسسه ويديره الكاتب والداعية أبو إسلام أحمد عبد الله. تقدم الأكاديمية دورات تثقيفية يدرس فيها الطلاب مواد تتعلق بمقارنة الأديان وبالتحديد "نقد المسيحية والرد عليها" بغرض "مواجهة التنصير".
تلقى عبد الكريم الدورة التي تستغرق 50 ساعة على مدار شهرين تقريبا وظل على صلة بالمركز لفترة قبل أن يصبح أحد المحاضرين في هذه الدورات وأحد النشطين المتطوعين في خدمة المركز، حتى أنه لا يجد غضاضة في تقديم الشاي أحيانا لأبي إسلام في المركز.
يتلقى أبو إسلام أحمد عبد الله كوب الشاي من يد عبد الكريم ممتنا. يلتفت مبتسما: "والله لو خيرت أن أفقد إسلام أبني أو أفقد واحد من أبناء المركز، أختار أن أفقد ابني. لقد تخرج من دورات المركز إلى الآن 600 دارس ودارسة، على الأقل 100 منهم الآن نجوم في مواجهة التنصير على الإنترنت وغيره. أسُود !".
أسس أبو إسلام مركز التنوير الإسلامي عام 1997، لكي تكون منطلقا لمشروع دعا إليه تحت اسم "حتمية العودة والمواجهة". وكان مشروعه ردا على حملة شنتها الدولة في التسعينات لمواجهة "الإرهاب والفكر المتطرف" وأصدرت سلسلة كتب رخيصة تحت عنوان "المواجهة" و "التنوير" وأسس فرج فودة "جمعية التنوير". يقول أبو إسلام أنه حاول إقناع عدد من الدعاة المسلمين وقتها بالاشتراك في سلسلة مضادة تحت عنوان "حتمية العودة" ولكنهم تخاذلوا على حد تعبيره.
يقول أبو إسلام أن تركيز نشاط المركز فيما بعد على "مواجهة التنصير" كان بهدف التميز ﻷن هناك كثيرون كتبوا وتكلموا في مواجهة العلمانية والماسونية واليهودية، والكتابة في مواجهتهم نشاط قديم لأبي إسلام، بينما يرى أن "التنصير" يحدث على قدم وساق وهويكاد يصرخ في مؤلفاته محذرا منه.
يحكي أبو إسلام و تلاميذه قصصا متعددة عن سائقي التاكسي الذين يبشرون بالمسيحية وينتقدون الإسلام وعن المطويات التنصيرية التي يتم توزيعها في شوارع بعض الأحياء. قد يبدو هذا للبعض ممن لم يصادفوا مثل هذه المواقف من قبيل "اللي يخاف من العفريت يطلع له". ولكن الأكثر ظهورا هي الحوارات الكثيرة الهادئة أو العنيفة على منتديات الإنترنت بين شباب مسلمين ومسيحيين، بعضهم نذر نفسه وجعل هدفا لحياته الدفاع عن دينه والتشكيك في الدين الآخر.
في بعض مطبوعات الأكاديمية، التي تشبه ملخصات المناهج الدراسية ومراجعات ليلة الامتحان، اهتمام خاص بأسلوب الجدل والمناظرة وهناك نصائح وتعليمات خاصة بأسلوب الردود على منتديات الإنترنت أو المناظرة الصوتية في غرف البالتوك. أما المضمون الدراسي فيركز على الإلمام بالعقيدة المسيحية والتركيز على "نقاط الضعف" والمواضع المثيرة للجدل في الإنجيل التي ينبغي أن تثار، وفي المقابل هناك مناقشة لـ"الشبهات" المتوقعة التي يثيرها "الخصوم" بشأن الإسلام والقرآن والنبي محمد ويجب على تلاميذ الأكاديمية معرفة كيفية الرد المفحم عليها.

متخصصون ومتطوعون
يتنوع محاضرو الأكاديمية بين أساتذة متخصصين من الأزهر ومن شباب في العشرينات والثلاثينات من خريجي الأكاديمية النابهين الذين رأي فيهم أبو إسلام حضورا وحماسة. يتدخل عبد الرحمن سالم، الطبيب الشاب خريج الأكاديمية والمحاضر فيها الآن، ويقول أن علماء الأزهر الذين درسوا له يفتقدون للروح، وعندما كان يسألهم أثناء الدراسة عن استخدام المادة العلمية التي يدرسونها في الرد على المسيحيين كان بعضهم يقول له: تعلم المادة العلمية فقط للمعرفة ولا تجادل أحدا. بينما وجد عبد الرحمن في المحاضرين الذين يدرسون ويعملون بمجالات أخرى حماسة واهتمام أكثر، فهم أصبحوا محاضرين بعدما درسوا في الأكاديمية أو اهتموا بمجال "الدفاع عن الإسلام" بدافع شخصي وليس بغرض الحصول على "شهادة دراسية" أو لقمة عيش.
يهز أبو إسلام رأسه أسفا من أن معظم علماء الأزهر المتخصصين كانوا يصرون على تقاضي أجرا مقابل التدريس بينما يتطوع كل المحاضرين غير المتخصصين، ويضيف: ”ولكن هذا مرتبط بتخاذل المؤسسة الدينية الرسمية من الأساس ولابد أن نتاجها سيكون متخاذلا وضعيفا. ولكن بحمد الله هناك معيدين بجامعة الأزهر جاءوا ودرسوا في الأكاديمية لحاجتهم إلى نوع العلوم الذي نقدمه".
الانتقاد الذي يوجه لهؤلاء الشباب من علماء الأزهر أن الجدل بين الأديان يجب ألا يترك لعوام الناس لأنه مثير للمشاعر ويندر أن ينضبط الحوار في مسائل العقيدة المعقدة والدقيقة. يعلق أبو إسلام أن ذلك ربما يكون صحيحا في المطلق، ولكن عندما يكون هناك "صراع" بين الأديان وهجوم على الإسلام يجب على كل مسلم أن يدافع. ويضيف: "ما نفعله على العكس يعصم الشباب العادي من الهياج والرد العنيف. فعندما تفتقر إلى المعرفة بدينك ودين الآخر ستثور مشاعرك عندما يهان دنيك فترد بيدك. لكن لو لديك المعرفة سترد بالحجة بدلا من ذلك".
ولكن ذلك لا يمنع من كثير من الشدة والعنف اللفظي، اللذين تحفل بهم مقالات أبي سلام وأحاديثه: "أنا أصطنع الشدة صناعة. هناك75 مليون مسلم يسكتون أو يتعاملون بلين مع المسيحيين. لا ضير في واحد أو اثنين يرد بغلظة. الحكمة تقتضي أحيانا أن تضرب بالجزمة من يستحق ذلك. وأن ترد بقلة أدب على قليل الأدب. أنا مثلا أقول دائما أن القس زكريا بطرس - الذي ينتقد الإسلام في برامجه على فضائية الحياة - هو كلب المسيحية. نعم، وأنا في المقابل كلب الإسلام!".

ورغم أنه يدافع عما يقوم به المركز بدافع من حرية التعبير متسائلا: ألا يدعو الشيوعيون إلى أفكارهم في حرية؟ إلا أنه يشتط غضبا عندما يقال أمامه أن من حق المسيحيين الدعوة لدينهم مثلما يدعو المسلمون فيقول: “لا، الأمر مختلف. للبيت أب، وهناك كبير وصغير، وأغلبية وأقلية. حرية المسيحيين في الدعوة لدينهم همجية وليست حرية، وليس في مصلحة المسيحيين أن يدخلوا معركة التنصير والأسلمة. الحسبة بسيطة: لو أن 5 مليون مسيحي عملوا كلهم في التنصير سينصرون 5 مليون مسلم على الأكثر، بينما لو 10 مليون مسلم فقط اشتغلوا بالأسلمة سينتهي وجود مسيحيي مصر بمن نصروهم!".
لحسن الحظ أن الملايين لم يدخلوا بعد "اللعبة البسيطة" التي يحكي عنها أبو إسلام، ولكن أعداد كبيرة من الشباب وجدت إثارة كبيرة في لعبة الشد والجذب هذه منذ السبعينات. عندما اشتهر الشيخ أحمد ديدات، الهندي الأصل، بكتبه الناقدة للمسيحية ومناظراته مع القساوسة. واًصبحت كتبه وفيديوهات مناظراته ومناظرات أخرى وشرائط كاسيت لقساوسة أسلموا تباع أمام أبواب المساجد وعلى الأرصفة.
يؤكد أبو إسلام أنه يتبنى خط الشيخ ديدات، مؤكدا أنه أول من اتخذ مواجهة التنصير مجالا أساسيا في مصر : "وعندما وصلت للأربعين فكرت في بداية دورات الأكاديمية لتخريج جيل يكمل المسير. الهدف أن نستنسخ العديد من أبي إسلام في هذا المجال".
ويبدو إن إيقاع المواجهة يتسارع، ولذلك بدأت الأكاديمية من فترة في الإعلان عن دورات اليوم الواحد، 8 ساعات من المحاضرات التي تزود المسلم بالحد الأدنى الذي يحتاجه لكي يخوض جدلا عقائديا دفاعا عن دينه ومهاجما محاولات التنصير.
ينتشي أبو إسلام عندما يسمع التساؤل إن كان الشباب الذين يقودون حملة "تحرير كاميليا" ويدعون للتظاهر من أبناء المركز. ولكنه يبتسم ويقول:”وهل تظن أن سيل (المسلمات الجدد) وحملات الدفاع عنهن انطلقت من شباب يفتقدون لحد أدنى من التأهيل؟ ولكن أبناءنا نشطون بحرية. وعلاقتهم بالمركز تظل مجرد نصيحة، لأن المركز عمله يقتصر على التثقيف. ليس من الذكاء أن أتحمل مسئوليتهم أو يتحملوا مسئوليتي" يسكت ثم يضيف: "القبضة الأمنية الشديدة تمنعنا من أشياء عديدة. نحن أيضا لا يمكننا الإعلان عن حالات إسلام مسيحيين يكون فيها المركز سببا أو حالات تنصر مسلمين نكشفها. نتعرض لمضايقات عديدة ومتنوعة ولكن لا مجال للخوض فيها".
المركز مشهر كشركة مدنية، ويقول أبو إسلام أن ربح المطبوعات واشتراك الدورات يغطي تكاليفه بالكاد وربما يطلب من دارسي إحدى الدورات أن يساهموا في إيجار المركز الذي يحتل شقة في منطقة العباسية. ويؤكد أن المزيد من الإمكانات يحتاجه هذا المجال خاصة مجال الدفاع القانوني عن المسلمين الجدد ومتابعة احتياجاتهم المختلفة، وبعض هذه المهمات يؤديه تلاميذ وخريجي المركز تطوعا.

أبناء الأكاديمية
يأتي ذكر أحمد الجيزاوي المحامي، أحد خريجي المركز. فيحكي أبو إسلام كيف أنه كان "مرعوبا" في أول مرة ذهب مع مسيحي أشهر إسلامه ليساعده في الإجراءات، بينما الآن أصبح صاحب مركز مستقل. ولكن الشيخ أبو إسلام يبدي أسفه من أن الجيزاوي أصبح مطيعا للأمن وخرج عن خط المركز ونهجه.
مكتب المحاماة الخاص بأحمد الجيزاوي، الذي يبلغ من العمر 28 سنة، هو نفسه مقر مركز "نداء للحوار بين الأديان" الذي أشهره أيضا كشركة مدنية عام 2002 بعد تخرجه من أكاديمية مركز التنوير:"أنا ومعظم الشباب المهتمين بهذا المجال تلاميذ أبي إسلام وندين له بالفضل. هو أول من ابتدع هذا المجال في مصر، وهي بدعة حسنة". ولكنه يضيف أن أبا إسلام يصطدم بالأمن وهو ما يعوق نشاطه ويؤثر عليه، بينما يحاول هو في تجربته المستقلة الابتعاد عن ذلك.
يقول الجيزاوي:"المركز بالأساس مشروع شخصي لي وفريق المركز مجرد 3 أشخاص نعمل بالجهود الذاتية. كان اسمه (مركز نداء للمقارنة بين الأديان) ومهتم بالبحث النظري وتقديم مادة تفيد الشباب الذي يدافع عن الإسلام على الإنترنت. ولكننا فيما بعد حاولنا تجنب النشاط على الإنترنت لتجنب سلبياته. فمعظم الشباب المسلم والمسيحي يكتب ويناظر بأسماء مستعارة وتحدث مشاحنات وسوء تفاهم. ووجدنا أن المركز يجب أن يتوجه إلى العمل على الأرض".
يوضح الجيزاوي أن ذلك يعني الذهاب إلى من يسمعون بقيامه بالتبشير في منطقة ما لمناقشته ومناظرته، استقبال مسيحيين راغبين في الحوار أو الدخول في الإسلام. كما أنهم في فترة قاموا بإجراء لقاءات مستمرة مع قساوسة وشباب مسيحيين داخل كنائس قبطية وإنجيلية توجه الجيزاوي ورفاقه إليها لظنهم أنها تقوم بنشاط تبشيري.
يقول الجيزاوي:"هذه اللقاءات كانت مناظرات مغلقة واستمرت من 2004 إلى 2008 وتوقفت فجأة بعد اعتذار الكنائس عن الاستمرار في ذلك. ونحن أيضا ركزنا جهودنا على الحوار مع رجل الشارع وليس المناظرات المغلقة للخاصة".
يصدر مركز نداء أيضا بيانات ومطبوعات ومادة دورة على اسطوانة يهديها مجانا للشباب الراغب في الإلمام بالمعلومات الأساسية التي تساعده في الجدل حول الإسلام والمسيحية. إذا كانت مطبوعات مركز التنوير تشبه ملخصات دراسية مكتوبة بلغة مبسطة فإن مواد مركز نداء تشبه كراسة طالب، فهي مكتوبة بلغة بالغة الركاكة ومليئة بالأخطاء اللغوية الفادحة. وفي مدونة المركز على الإنترنت، التي يوجه الجيزاوي فيها دعوة إلى البابا شنودة لمناظرته شخصيا، هناك تعليقات من قراء تسخر من الأخطاء اللغوية العجيبة لمن يقومون بمقارنة الأديان.
يتخذ الجيزاوي نفس خط إبي إسلام الذي يمزج "مقارنة الأديان" بخطاب سياسي ضد الكنيسة المصرية وممارساتها والبابا شنودة وسياسته. يكرر بعض ما يقوله أبي إسلام من أن الحكمة تقتضي أحيانا بعض الشدة والحدة في الرد عندما تحدث إساءة. ولكن الجيزاوي يتخذ شكلا قانونيا في مناقشة بعض النقاط، فهو لا يري من حق المسيحيين الدعوة لدينهم لأن الشريعة الإسلامية تجرم الردة عن الإسلام، ولذلك فدعوة المسلمين إلى دين آخر هي دعوة تخالف القانون والدستور الذي يتخذ الشريعة الإسلامية مصدرا.
كقانوني ينشط الجيزاوي أيضا في حالات التحول إلى الإسلام فيقدم دعما قانونيا للمسلمين الجدد، وعن طريق علاقاته يحاول توفير دعم مادي أوغيره من باب الإنفاق على "المؤلفة قلوبهم" كما في بيانات المركز. يقول الجيزاوي أنه يتعرض أحيانا للاعتقال وأن ذلك حدث معه أثناء محاولته دعم وفاء قسطنطين، ويقول أنه مع زملاء من خريجي مركز التنوير كانوا آخر من رآوها في المستشفى قبل اختفاءها، ولكنه رغم ذلك يقول: "الأمن فقط يقلق من التناول الإعلامي وإثارة الضجة ولكن في الحقيقة هناك الكثير من الضباط يساندون المسلمين الجدد ويعرضون مساعدتهم إن تعرض إليهم أحد".
هناك تفاوت شديد بين الناشطين في مواجهات التنصير والأسلمة، بين تفهم موقف الأمن ثم اتهامه في مواقف أخرى بمحاباة الكنيسة ومساعدتها على خلق دولة داخل الدولة في مقابل التضييق على الإسلاميين.
يعلق أبو إسلام مبديا أسفه: "أحمد الجيزاوي ضاع منا. ولكن خريجي المركز وتلاميذي غير المعروفين والذين يتجنبون الظهور كثيرون بارك الله فيهم لهم صولات وجولات ويملأون قلب عدوهم غيظا بحمد الله".



لهجة الأب يوتا ومصيره

ميشيل ليس اسمه الحقيقي، ولا حتى اسمه المستعار الذي يخوض به الجدل في منتديات الإنترنت وغرف البالتوك التي رفض أيضا أن يظهر اسمها خوفا من التتبع الإلكتروني. الطبقات المتعددة من السرية والاسم المستعار ضروريون جدا بالنسبة لميشيل الذي يصف نفسه بأنه يرد بقوة وجرأة على افتراءات الشباب المسلم وتشكيكه في المسيحية بنقد الإسلام. يقول ميشيل: “الكل يعلم ماذا يحدث عندما ترد بالمثل وتنتقد الإسلام. عزازيل مؤلفها كاتب مرموق ومشهور رغم أنها أساءت لديننا. لكن عندما ردت رواية مماثلة على الإنترنت محدودة الانتشارهي (تيس عزازيل في مكة) وتحت اسم مستعار للمؤلف (الأب يوتا) تم اتهام هاني نظير المدون المسيحي بأنه هو الأب يوتا بناء على ظن مسلمين متشددين وتم اعتقاله 21 شهرا بدون حكم قضائي".
بعض الشباب المسيحي مثل ميشيل يرى أن لهجة الأب يوتا في الرواية، التي تضمنت في رأي البعض إهانة للنبي محمد وسخرية منه، هي مجرد رد بسيط على سيول من إهانة المسيحية وتشكيك المسيحيين في دينهم. يقول ميشيل:”مثلا أبو إسلام أحمد عبد الله ومركزه الشهير وتلاميذه يعملون في النور وأقصى أذى يتعرضون له أن يعتقل أحدهم يومين. هو يدعي أنه رد فعل وأنه يقاوم التنصير. وأنا أضحك من هذا الكلام. لقد هاجم الغزو العربي مصر وقام بأسلمتها بالقوة ونحن الذين نقاوم الأسلمة بدون أن نتمتع بحرية التبشير بديننا بينما وسائل الإعلام تصدعنا بخطاب ديني إسلامي ليل نهار".
الإنترنت أتاحت لميشيل وغيره مساحة لن يجدها في مكان آخر. بعض الكنائس ربما تعطي محاضرات تثقيف في العقيدة أو ردود على بعض الشبهات المثارة حول المسيحية أو تقارن بينها وبين الإسلام، ولكن بحسب ميشيل يتم ذلك في نطاق ضيق وتكون مشكلة كبيرة لو خرج إلى العلن ويطلب معظم القساوسة من الشباب عدم الدخول في جدل ديني مع مسلمين. يشكو ميشيل من أن معظم الشباب المسيحي يتحرك في ظل الكنيسة، والناشطين أو المدونين المسيحيين الذين يرفعون أصواتهم يواجهون مشكلات عديدة ويقعون بين سندان الكنيسة ومطرقة الأمن والمتشددين الإسلاميين على حد تعبيره.
الأصوات الأعلى والأكثر بروزا في الجانب المسيحي في مجال الجدل العقائدي تأتي من خارج مصر. الاسم الأشهر هو القس زكريا بطرس الذي يثير الجدل ببرامجه على قناة الحياة الفضائية. لدرجة أن بعض الشباب المسلم خصصوا قناة فيديو على يوتيوب فقط للرد أولا بأول على برامجه وسموها قناة "المخلص"، يحاضر فيها شباب متطوع بالصوت والصورة، يقومون بإعداد التسجيل في بيوتهم. ومعظهم يدرسون أو يعملون في تخصصات لا علاقة لها بمقارنة الأديان أو الدين عموما
بالمثل، ميشيل مهندس ولم يدرس بشكل مؤسسي علوم اللاهوت المسيحي أو مقارنة الأديان. ولكنه يقول أنه قرأ بشكل مكثف في الإسلام والمسيحية واستمع إلى عشرات المناظرات قبل أن يبدأ في خوض الجدل على الإنترنت مدافعا عن دينه. لا ينكر ميشيل أنه يتعمد أحيانا الاستفزاز في مقابل استفزاز الخصم ولهجته العنيفة: "لن نظل شهداء إلى الأبد. أو على الأقل سنقاوم قليلا قبل الاستشهاد !".
يضيف ميشيل: “عندما تكون هناك حرية حقيقة سنتمكن من إنشاء أكاديميات لمقارنة الأديان أيضا وسنكتب بأسماء حقيقة كتبا ونصور فيديوهات، عندما يتقبل المسلمون الانتقادات لدينهم مثلنا ويقبلون تحول أحدهم إلى المسيحية ويتركونه يعيش بحرية مثلما يدعوننا لتقبل إسلام المسيحيين، ساعتها يمكن أن أتحدث للصحافة باسمي الحقيقي بدون أن أخشى على حياتي".



إلجام العوام عن علم الكلام

في ديسمبر 2005، زار مجموعة من المدونين – بينهم كاتب هذه السطور- مقر مركز التنوير الإسلامي تضامنا مع أبي إسلام أحمد عبد الله بعد اعتقاله لفترة آنذاك على خلفية مقالات ساخنة كعادته كتبها ردا على القس زكريا بطرس ورأى فيها البعض إهانة لمسيحيي مصر جميعا. كتب بعض هؤلاء المدونين على مدوناتهم تضامنا معه رغم رفضه للهجته وأسلوبه ومضمون خطابه، ولكنهم أيضا أعلنوا أيضا تضامنهم مع المدون كريم عامر الذي اعتقل بسبب إساءته للإسلام – يقضي الآن عقوبة السجن خمس سنوات بسبب هذه التهمة بالإضافة لإهانة رئيس الجمهورية- رغم رفضهم لخطاب الكراهية والإهانة الذي بدر من عامر أيضا.
الجدل الديني الساخن ومقارنة الأديان التي تتضمن هجوما عنيفا وإهانات مبطنة، لا يعجب الكثيرين. وعادة ما يتم الإشارة إلى هذه الظاهرة كتنبيه لأهل الأمر، الدولة والأزهر والكنيسة، لكي يوقفوا هؤلاء عن ذلك.
ذلك ليس مطلوبا بالنسبة لكثيرين من أنصار حرية التعبير، التي قد تسمعنا أحيانا ما لا نحب. كما أن ذلك على أية حال لم يعد ممكنا ببساطة. في عصر المعلومات يد الرقابة لا تطال إلا الأشكال الرسمية في حدود، بينما الأشكال الشعبية للتعبير التي تحمل الأكثر سخونة وخطورة تظل بعيدا عن السيطرة الكاملة. والمواجهة الأمنية تزيد سخونة المواجهات وتمنح كل طرف صفة الشهيد المظلوم المقموع وتجعل الدولة تارة حليفة الإسلاميين المتشديين وتارة متخاذلة أمام تغول الكنيسة، وفق تعبيرات طرفي المعركة.
في القرن الخامس الهجري كتب أبو حامد الغزالي كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام". وعلم الكلام هو علم الجدل العقائدي بين الأديان والمذاهب، ورغم أن المقصود بالعوام هنا مختلف في تفسيره إلا أن العنوان يحمل دلالة شائعة في الفكر الديني التقليدي الذي يدعو عامة الناس للابتعاد عن الجدل الديني لأنه مجال متخصصين، وطبعا لأن كل طرف يريد أن يبقى جمهوره مطمئنا بدون شكوك.
في عصر التدوين والشبكات الاجتماعية، تقل المسافة بين "العامة" و"النخبة المتخصصة" ولا يمكن الحديث الآن عن "إلجام العوام". يمكننا الحديث عن إيجابيات وسلبيات التعبير السهل والمفتوح للجميع، ولكن الصدمات الطائفية التي قد تنشأ عن بعض مساحات الجدل لا يمكن إرجاعها لحرية التعبير التي بقمعها نقمع كل حركة وإمكانية تغيير. الصدامات الطائفية تتغذي من شيوع رؤية ترى فيها "معركة حقيقة وضرورية ومقدسة". وبديلها أن يتمكن آخرون - عوام أومتخصصين – من تغيير مسار الجدل والتعبير إلى معارك وتحديات أخرى واحتلال أرض الصراعات الدينية برؤية أخرى غير طائفية مثلما يفعل دعاة التسامح والمواطنة ومناهضة التمييز الديني. عندها سيظل محبو المعارك الدينية يتمتعون بحرية ممارسة معاركهم المفضلة في نطاقها المحدود حتى تهدأ سخونتها تدريجيا بدلا من أن تزيد دماءهم وجروحهم كشهداء جاذبية معركتهم.


عبد الرحمن سالم وعبد الكريم عمار هي أسماء مستعارة لمحاضري المركز الذين فضلوا عدم ذكر أسماءهم الحقيقية.
نشر في "الشروق" الخميس 7 أكتوبر 2010
PDF


المزيد

الأحد، ٢٦ سبتمبر ٢٠١٠

أبناء الجماعة الذين يبحثون عن "أسرة" مختلفة


تصوير: أحمد سعد
في مواجهة ميل سلفي يرونه متوغلا في جماعتهم وفي المجتمع كله، يعلن بعض الشباب داخل الإخوان اختلافهم ورغبتهم في اتجاه الجماعة إلى وجهة أخرى أكثر انفتاحا وتجددا. داخل "الأسرة" التي تعد نواة النظام التربوي للجماعة يظهر الجدل والصدام فينسحب البعض ويستمر البعض متفائلا معتبرا نفسه طليعة تغيير قادم.

لا يبدو شابا صداميا حادا، بل على العكس. الانطباع الذي يعطيه الشاب أسامة درة أنه أكثر هدوءا من باقي أبناء مدينته النشطة الحيوية دمياط. أسامة المحاسب الشاب الذي تجاوز منذ عام منتصف العشرينات كان قبل أسابيع سبب أزمة داخل شعبة الإخوان في دمياط بسبب جمعه لكتابات كان ينشرها على صفحته على الفيس بوك ونشرها في كتاب.
"أنا في قاع الجماعة، و القاع بارد راكد. أنا أتعفن حيث أنا، التلف يتراكم بي، أنا أتـيـبـّّس هنا، و أخشى أن تأتي المعركة يوما فأعجز عن القيام لها، حتى الإخوة الأعزاء في أمن الدولة خذلوني... أنتظر مداهمتهم منذ تسع سنين على الأقل، و لا يأتون. هم أيضا يعرفون أن القاع كئيب غير مهم".
هذه الكلمات التي تظهر على ظهر غلاف كتاب أسامة درة الصادر مؤخرا "من داخل الإخوان أتكلم" لم تفلح وحدها في تبديد ركود القاع الذي يتحدث عنه. ولكن حواراته مع الصحف بشأن الكتاب، والتي أبرزت آرائه الناقدة للخيارات السياسية للجماعة وخواطره كشاب إخواني حول الجنس والعلاقات، هي التي نبهت مسئولي الإخوان في دمياط فأصدروا قرارا بأنه "موقوف” العضوية. ولكن تدخل القيادي عبد المنعم أبو الفتوح ثم أحمد البيلي مسئول المكتب الإداري أسفرت عن توجيهات بتجميد هذا القرار. ولكن الأمر لم يتم حله تماما حتى الآن.
بابتسامة هادئة يقول أسامة: “أنا لا أعرف معنى الإيقاف أصلا. باستثناء أني لم أعد أحضر اجتماع (الأسرة)، فأنا وسط الإخوان لا زلت. ورغم تدخل قيادات مثل عبد المنعم أبو الفتوح والبيلي فلابد أن يتم التشاور للوصول لحل مع قيادات شعبة دمياط وفق قواعد العمل المؤسسي داخل جماعة الإخوان. وأيضا لأنهما أوصيا أن يتم البحث عن (أسرة) أخرى تستوعب أفكاري ونشاطي بسبب عدم توافقي مع نقيب أسرتي الحالية".
(الأسرة) هي تجمع لعدد من الإخوة يلتقون أسبوعيا تحت إشراف مسئول يطلق عليه (نقيب) يتابع أحوالهم الشخصية والدينية ونشاطهم مع الجماعة، يتشاركون الذكر والدعاء والعبادة، ومناقشة الشئون العامة والقضايا الملحة. تشكل الأسرة النواة التنظيمية الأولى لـ"مجتمع" الإخوان وتهدف لتحقيق "التعارف والتفاهم والتكافل" كما قال حسن البنا مؤسس الجماعة في "رسالة التعاليم”. يستخدم أسامة في حديثه كثيرا كلمة "المجتمع"، يقصد المجتمع الإخواني، للإشارة إلى شيء أكبر ربما من الهيكل التنظيمي للجماعة لا يزال أسامة يشعر أنه وسطه رغم توقفه عن حضور (الأسرة).
"نعم، الإخوان مجتمع وليس فقط تنظيم سياسي أو توجه ديني" هكذا يرى أسامة درة ناتج التركيبة المختلفة لجماعة الإخوان التي أراد مؤسسها أن تكون جماعة شاملة لتناسب "شمول الإسلام" كما يراه. فهي "دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية" على حد تعبير حسن البنا في "رسالة المؤتمر الخامس".
وسط هذا المجتمع لا يرى أسامة درة نفسه مهمشا أو شاذا بل يعتبر كونه "إخوانيا" هي "صفة لازمة" ولذلك جعل عنوان كتابه "من داخل الإخوان أتكلم" فهو يرى أن معظم كلامه تعبير عما يجول بخاطر أغلبية شباب الجماعة وربما يرددونه في جلساتهم الخاصة، ولكنهم ربما لا يملكون نفس الجرأة للتعبير عن ذلك.
يعبر أسامة من زاوية شخصية عن نفس ما عبر عنه عدد من مدوني الإخوان وأثاروا الجدل. مناقشة جمع الجماعة بين الجانب الدعوي الديني والجانب السياسي والدعوة إلى فك الارتباط بين الكيان الديني وبين جانب سياسي يجب أن يتخذ شكل حزب، إبراز الانفتاح على الأدب والفن والفكر "غير الإسلاميين" بالضرورة، التعبير عن بعض الخواطر العاطفية أو الجنسية والتلميح إلى انتقاد الفصل الصارم بين الجنسين ومنع أي تواصل بينهما.
يكتب أسامة على صفحته في الفيس بوك ولم يتعامل مع عالم المدونات الذي خبا بريقه بعض الشيء. ولكنه بشكل ما يمثل امتدادا لموجة التعبير التي أطلقها شباب من الإخوان قبل خمس سنوات في مدوناتهم الشخصية. ويبدو أن بعض المشكلات متشابهة أيضا.

"تمرد يا مجدي ؟!"
في مدونته "يلا مش مهم" كتب مجدي سعد تدوينة بعنوان "علموا أنفسكم التمرد والدهشة ورمي الأحجار"، دعا فيها شباب الإخوان إلى التمرد على الأفكار القديمة والقوالب النمطية في التفكير وانتقد "المغالاة في تطبيق السمع والطاعة" في العلاقة بين المربي والشباب ودعاهم إلى القراءة والاستماع إلى المختلفين ورمي الأحجار في البرك الراكدة.
"تمرد يا مجدي؟!” كان هذا هو رد نقيب أسرة مجدي سعد. بالرغم من أنه أبدى تفهما لما كتبه إلا أن مصطلح التمرد كان صادما بالنسبة له. ولأن مجدي سعد كان ناشطا في قسم الطلبة في الجماعة، فإن بعض المسئولين نبهوه إلى أن بعض كلامه قد يساء تفسيره وتطبيقه من بعض الشباب المتحمسين.
يحكي مجدي سعد أن إساءة التفسير حدثت من جهتين. الأولى هي الصحافة التي أحبت أن تصور دعوات "التمرد" كأنها دعوة إلى انشقاق تنظيمي في حين أنه كان يدعو إليها في سياق فكري، بل وأكد بوضوح أن الدعوة إلى تغيير الأفكار والاجراءات التنظيمية ليس مدعاة للتخلي عن مسئوليات العمل والحركة داخل الجماعة حتى يحدث التغيير. الجهة الأخرى التي تسيء تفسير الدعوة إلى الأفكار المختلفة هم نقباء الأسر، يعلن مجدي سعد شكواه من أن بعض نقباء الأسر المسئولين عن التربية لا يجيدون استيعاب الشباب وعالمهم الجديد. ولكنه لا يعتبر ذلك صداما يوجب الانسحاب والابتعاد، فهو طلب مرتين تغيير الأسرة لخلافه مع نقباء اعتبروا أفكاره انحرافا وليست اختلافا. وحدث ذلك بالفعل و نجح مجدي في إقناع المستويات الأعلى بإلحاقه بأسرة مختلفة واستمر مجدي مع نقباء آخرين متفهمين.

يبدو أن "الأسرة" تمثل احتكاكا مباشرا بين جيلين تختلف خبرة كل منهما ومزاجه. في دراسته عن شباب الإخوان التي نشرها مركز دراسات الإسلام والديمقراطية التابع لمعهد هدسون في أكتوبر من العام الماضي، قسم الباحث خليل العناني الجماعة إلى أربعة أجيال. جيل الحرس القديم الذي يتسم بالمحافظة نظرا لمعايشته الصدام بين الجماعة والنظام الناصري في الخمسينات والستينات، ولا يزال هذا الجيل على رأس تشكيلات الجماعة، الجيل الثاني هو جيل أكثر عملية وانفتاحا شهد علاقة أحسن نسبيا مع نظام السادات في السبعينات ومنه عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح. الجيل الثالث يسميهم العناني "التقليديين الجدد" الذين شهدوا عودة الصدام العنيف مع النظام والمحاكمات العسكرية منذ التسعينات ويميلون للانغلاق والمحافظة على تماسك التنظيم، وأخيرا جيل الشباب في العشرينات والثلاثينات الذين يميلون أكثر للانفتاح على الآخرين ولديهم مشكلات مع البنية التنظيمية للجماعة ويضغطون من أجل الاستماع إلى أصواتهم.
بين الجيلين الأخيرين في الغالب يحدث الاحتكاك في الأسر. التدوين أو النشر يختصر الطريق ويقيم حوارا علنيا ينقله الإعلام بين الشباب الأكثر اختلافا وتطلعا وبين مستويات عليا في الجماعة. ولكن تحت السطح تظل تفاصيل العلاقة داخل الأسرة هي المجال الأهم للمواجهة واختبار الأمل في التغيير.
يحكي هشام عبد الله، الطبيب الشاب، أنه كان مسافرا إلى الدنمارك عقب الجدل الذي أثارته "الرسوم المسيئة" ضمن برنامج للحوار بين الشباب المسلم والشباب الدنماركي. وعندما أثار ذلك في لقاء الأسرة واجه انتقادا عنيفا من نقيب الأسرة وبعض زملائه. كانت حجتهم هي ضرورة المقاطعة التامة لهؤلاء القوم الذين أساءوا لنبينا بينما كان يحدثهم عن التنوع داخل كل مجتمع وعن اختلاف الثقافات وعن ضرورة إقامة جسور للتفاهم والحوار.
المفارقة أنه لم يكن بين هشام وبين نقيب أسرته جسر للتفاهم والحوار رغم أن هذا هو أحد أغراض تقليد "الأسرة". ولكن يبدو أن الطابع الأبوي العائلي الذي يحمله لفظ "الأسرة" يطغى أحيانا على فكرة التفاهم لصالح فكرة التربية من أعلى، وهو ما يختلف عن أجواء الحرية النسبية التي يتسم بها النشاط في الجامعة وسط الأقران من الشباب وهو ما اجتذب هشام إلى الإخوان وشجعه على الاقتراب.
يعرف هشام أنه لم يصل إلى مرحلة أخ عامل. المراحل التي يترقى فيها الفرد داخل الجماعة هي أخ محب ثم أخ مؤيد ثم أخ منتسب ثم أخ منتظم ثم أخ عامل. وفي الغالب يبدأ المنضم إلى الجماعة في حضور أسرة خاصة بإخوة مؤيدين ثم يرتقي ويتنقل في المستويات حتى يصل إلى مرتبة الأخ العامل.
لم يكمل هشام الطريق وفضل الابتعاد، بعد انتهاء مرحلة الجامعة كان انتقاله للنشاط في المنطقة عبر "الأسرة" محبطا. كما أنه يقول أن تطوره الفكري استمر مبتعدا تماما عن المشروع السياسي الإسلامي. يعتبر نفسه الآن ليبراليا بالمعنى العام للكلمة وإن كان يميل لبعض المحافظة فيما يخص الخيارات الأخلاقية.

مفترق طرق
يعترف مجدي سعد بأنه يلاحظ ، بحكم موقعه في قسم الطلبة بالجماعة، الفاقد الذي يحدث بين مرحلة الجامعة التي تمثل مرحلة خصبة للنشاط وتشهد إقبالا كبيرا من الشباب الذين يقتربون من الإخوان ويرغبون في الانضمام، وبين ابتعاد بعضهم في مرحلة ما بعد الجامعة التي يعد الانتظام في "أسرة" أهم معالمها لكي ينضم إلى إخوان الحي أو المنطقة التي يسكن فيها.
يرد مجدي سعد السبب في ذلك إلى اختلاف طبيعة الحياة الشخصية والالتزامات بين المرحلتين، ولكنه لا ينكر أيضا أن هناك مشاكل تتعلق بالناحية السلطوية في نظام "الأسرة".
ولكن من جهة اخرى قد يمثل بعض الجانب السلطوي عنصرا جاذبا يدعو بعض الشباب للتريث قبل رفض لقاءات الأسرة والابتعاد عن الجماعة. يقول هشام عبد الله أن هناك الكثير من الشباب داخل الإخوان يتبنون آراء مختلفة ويضيقون ذرعا ببعض توجهات قيادات الجماعة وخطابها السياسي ولكنهم يؤثرون البقاء داخل الجماعة من أجل البقاء داخل جماعة مؤمنة تعين على الطاعة وتجمع أبناءها بانتظام في أجواء إيمانية وروحانية بل وتحاسبهم بشأن ذلك وهو ركن أساسي من لقاءات الأسرة. يقول أن ذلك بالأساس هو دافع الكثير من الشباب للانضمام إلى الجماعة وليس الدافع السياسي، ويضيف أنه نفسه ظل لفترة مؤثرا البقاء على لقاءات الأسرة لأنه كان يحب وقتها أن يجد من يسأله ويحاسبه إن كان صلى صلاة الصبح في جماعة أم لا.
ولكن في جماعة تتبنى العمل السياسي من منظور ديني يتقاطع مستوى الأفكار السياسية والاجتماعية مع المستوى الديني، ويكون المناخ خانقا بالنسبة للشباب الذين يتوقون إلى بعض التحرر بينما يجدون في طريقهم مزاجا سلفيا صاعدا. يتفق أسامة درة ومجدي سعد وهشام عبد الله أن المزاج الديني السلفي الذي يؤثر على المجتمع ككل يؤثر على الإخوان أيضا لأنهم جزء من المجتمع. يوضح مجدي أن البنا عندما تحدث عن البعد السلفي عند الإخوان كان يقصد العودة إلى المنابع والأصول الأولى للدين، وليس المقصود هو الاتجاه السلفي الذي تشكل مع ابن تيمية وفقهاء الحنابلة وأهل الحديث ثم محمد بن عبد الوهاب وينتمي إليه مشايخ السلفية الحاليون ويتبنون خيارات أكثر تشددا وتضييقا.
يعتقد هشام عبد الله أن الإخوان مرنون ويتأثرون بميول المجتمع، وعندما يكون المجتمع منفحتا يميلون للاجتهادات الأكثر يسرا وعندما يكون المتدينون في المجتمع أكثر ميلا للآراء المتشددة فإن ذلك ينعكس داخلهم.
على عكس خيار هشام بالابتعاد، يعتقد أسامة درة ومجدي سعد أن الجدل بين هذا الميل السلفي والميل المقابل نحو الانفتاح والتجديد لا يدعو لليأس بل على العكس يبدو أنهما متفائلان بل ويعتقدان أن اعتبارهما “مختلفان” داخل الجماعة يستند في جزء كبير منه إلى اختلافهما، مثل كثير من الشباب داخل الإخوان، عن الصورة النمطية التي يكرسها الإعلام للشاب الإخواني أو المنتمي لتيار إسلامي بشكل عام.
يحكي درة أنه اعتاد كسر حالة التلقي داخل لقاءات الأسرة بفتح نقاشات حول قضايا اجتماعية أو فكرية، ويرى أن شباب الأسرة ينقسمون عادة إلى 30% من الموافقين له و30 % من المعارضين و40 % يبدون حيادا أو قلة اهتمام بالجدل.
يعتقد درة أن نظام التربية في الجماعة خلق جوا من التوجس من الأفكار الجديدة تجعل الأخ يشم رائحة الفكرة المختلفة ويحذر منها ولكنه يعتقد أن ما يقوم به هو وغيره من تعبير بحرية وجرأة سيدفع المزيد من الشباب لفعل ذلك وسيجعلهم ينخرطون أكثر في الجدل والحوار وسيفتح كل ذلك أبوب التغيير الذي يأمله. وحتى ذلك الحين لا يبدو أبدا أنه قلق بشأن تأخر إلحاقة بأسرة أخرى، يعتقد أن تلك مشكلة بسيطة في طريقها للحل. قد لا تكون كذلك بالنسبة لآخرين ولكن ما يظهر يقول أن "الاسرة" وهي الساحة التربوية والتنظيمية الأساسية تشهد جدلا كبيرا وأن المختلفين الذين يرفعون أصواتهم كل فترة ليسوا قلة أو هامش متمرد بل هم تعبير عن ميل صاعد متفائل بالمزيد من الصعود.



هكذا تحدث سمسم

أسامة درة

صعد أسامة درة المنبر أكثر من مرة خطيبا للجمعة في مساجد الحي الذي يسكن فيه في دمياط. في كل مرة كان التحضير للخطبة يتطلب وقتا طويلا لكي تخرج الخطبة جيدة ومضبوطة. ولكن في النهاية الخطبة تتخذ شكلها التقليدي ولم يكن المنبر مكانا مناسبا لكي يعبر أسامة عن نفسه بأريحية وانطلاف مثلما يعبر في صفحة المعجبين الخاصة به على الفيس بوك التي أنشأها تحت اسم "سمسم" بعد القبول والشعبية التي يقول أن كتاباته لاقتها وسط جمهور معارفه فجمعها فيما بعد في كتاب "من داخل الإخوان أتكلم".

يبتسم أسامة معلقا على الاندهاش المتوقع من الاسم: “ما كنتش عارف إني هابقى مشهور!” ثم يضيف جادا:”الحقيقة أني أعتبر هذا جزء من إجادة العرض. هذا الاسم أقرب لقلوب الشباب. أي داعية أو سياسي يقدم نفسه ويعرض ما عنده بشكل ما. وأعتقد أن الأفضل أن تمتع الناس وتجذبهم إليك ثم توجه إليهم رسالتك".
يستخدم أسامة عرضه لفيلم "باتمان" أو الرجل الوطواط عندما يريد أن ينتقد الاستقطاب الحاد بين الإخوان والنظام. فهو يرى أن الإخوان يتحملون جزءا من المسئولية لأنهم أنشاوا كيانا عقائديا يدين أفراده بالولاء والسمع والطاعة لقيادة وهو ما لا يتماشي مع لعبة السياسة العصرية كما يقول. يعتقد إن الإخوان ارتكبوا خطأ الرجل الوطواط الذي عبر عن قوة خارقة مفرطة في مدينة جوثام استدعت وجود قوة مقاومة لها فكان الجوكر. يكتب : "ولو كان باتمان ترك الآليات المجتمعية الطبيعية تعمل لحوصرت الجريمة في جوثام. لكنه كان كلما خطا، أشعل النار من خلفه، وكلما اشتعلت النار، أصرّ أكثر على إطفائها والسؤال: هل نفعل-نحن الإخوان- مثلما فعل باتمان و نحن لا ندري؟".
ينتقد ارتكاز تجربة أربكان في تركيا على الجانب الديني بشكل فج، بينما يمدح تعبير أردوغان عن نفسه بأنه "علماني محافظ".

يتحدث أسامة بهدوء وتأن وبعد تفكير مثل ديبلوماسي، بينما في كتاباته يظهر الشاب الأكثر جموحا ومرحا. يجري حوارا متخيلا مع فرويد عن رغباته الجنسية، يتحدث عن "سمسم العاطفي" والبنت التي كانت تحبه وبكت عندما انضم إلى الإخوان، ويتحدث أيضا عن البنت التي ظنت أنه يتجاهلها لأنه متدين بينما يعبر بأسف – مازحا أو جادا- أنه فقط لم يلاحظ عندما كلمته وإلا فكيف يتجاهل البنت التي كانت "ًصاروخ" على حد تعبيره.
يكتب: "أنا عطشان، أفتقد الأنثى في حياتي، وكلما اقتربَت مني واحدة و بدأت تتعلق بي..أنسحب. أقول لنفسي: أنا مـحـتـرم..و طالما مش جاهز للجواز، يبقى أبعد. لكنّ حالة الاحترام هذه مؤلمة..مؤلمة فعلا".
بعض أصدقاؤه يندهشون كيف يكتب أسامة ذلك، ويجدون أنه من غير اللائق على من يتصدى للدعوة أو السياسة أن يفصح عن مثل هذه الأفكار. يرد أسامة: "لا أؤمن بالتكلف في رسم صورة الجيل المتوضيء المثالي لكي يتسق ذلك مع مهمة الشباب الإخواني في الدعوة. لماذا لا يروننا كشباب كما نحن، بأفكارنا الجادة وهواجسنا العادية".

يعبر أسامة في مقال آخر من الكتاب عن عدد من أمنياته بشكل عفوي:” ِنفسي أكتب في صحيفة مهمة بانتظام.. نفسي أشوف فيلم حلو أندمج فيه، و يكون جنبي حد بحبه.. نفسي أظهر في (العاشرة مساء) بس لوحدي، مش ومعايا ضيوف تانيين .. نفسي كل الستات تحبني، وأنا أحب واحدة بس.. نفسي لو اعتقلت-ربنا يستر يعني-أكون في المعتقل مع أكابر الإخوان ..نفسي ربنا مايكونش زعلان مني، أنا ماكانش قصدي.. نفسي أوظف داخل الإخوان بشكل يرضيني.. نفسي ماتعرّضش للتعذيب في حياتي أو في الآخرة.. نفسي أضرب صاحبي اللي اتأخر عليا وسايبني قاعد أكتب الكلام ده!”.



نشر في "الشروق" الأحد 26 سبتمبر 2010
PDF
المزيد

الجمعة، ١٧ سبتمبر ٢٠١٠

لقاء الوادي والصحراء

الراي بصوت مصري


بخلاف العديد من الفرق الموسيقية الشابة اختار مؤسسو فرقة "صحرا" اتجاها موسيقيا نشأ بالأساس في دولة عربية مجاورة ثم أصبح له جمهور في كل العالم.


في تلك الليلة من نوفمبر الماضي، كان حي الزمالك الهاديء في القاهرة يضج على غير العادة. مظاهرات صاخبة وعنيفة بالقرب من السفارة الجزائرية، على خلفية "المعركة" التي بدا أنها اشتعلت إعلاميا بين البلدين بسبب أحداث الشغب الكروي التي صاحبت مبارياتهما في تصفيات التأهل لكأس العالم. ولكن أيضا كان مركز شباب الجزيرة يشهد حفلا موسيقيا من سلسلة حفلات SOS التي تقدم فرقا شابة مستقلة، ومن بينها فرقة "صحرا" لموسيقى "الراي" ذات الأصول الجزائرية.
لم يكن حشد الشباب المحب للموسيقى ولا أعضاء فرقة "صحرا" بعيدين تماما عن "المعركة". فقد ظهرت قبل الحفل بعض التعليقات العدائية على ساحات الإنترنت لا تتقبل غناء "الراي" في هذه الظروف، مع بضعة تعليقات مهاجمة لمغني الفرقة أحمد عز ذي الأصول المغربية الذي ظنه البعض جزائريا!
وقبل أن تبدأ الفرقة عرضها أصر أفرادها في مزيج من الجد والمزاح على التأكيد أنهم جميعا مصريون وأنهم سينظرون في أمر استمرارهم في غناء موسيقى "الراي" بعد ما حدث!
حتى هذه اللحظة لا تزال فرقة "صحرا" تقدم أغانيها الخاصة مع أغاني "الراي" الشهيرة في اثنين من أشهر النوادي الليلة في وسط القاهرة، وخصص أحدهم للفرقة فقرة ثابتة منتصف ليل الخميس، أكثر الليالي إقبالا.
تبخرت آثار "المعركة الكروية" إلا قليلا، واستمرت مسيرة "صحرا" في تقديم موسيقى "الراي" على مسارح المراكز الثقافية وبعض النوادي الليلية ولقى ألبومها الأول الذي أطلق في إبريل 2009 وحمل أيضا اسم "صحرا" نجاحا معقولا.

أكثر من تسع سنوات مرت على بداية مسيرة "صحرا" سنة 2000 وهو ما يعني أن مغامرة اختيار موسيقى "الراي" تحديدا لتمثل خط الفرقة الأساسي كانت مغامرة ناجحة. بخلاف العديد من الفرق المستقلة الشابة التي تختار اتجاهات موسيقية واسعة وغربية بالأساس مثل الجاز والروك والراب، اختار مؤسسو "صحرا" اتجاها موسيقيا نشأ بالأساس في دولة عربية مجاورة ثم أصبح له جمهور في كل العالم.
يقول أحمد عز، مغني الفرقة، أن فكرة تأسيس "صحرا" كانت فكرة مشتركة لسعيد عبد الرحمن المغني السابق للفرقة وأحمد الوحش، عازف الكيبورد. وأطلقوا على الفرقة اسم "صحرا" وهو اسم أغنية للشاب خالد.
اشتهر سعيد عبد الرحمن، مغني الفرقة، بلقب "سعيد راي" لشغفه بغناء "الراي" الذي تعلق به وتعلمه أثناء إقامته لفترة في ليبيا وسط مجتمع من الجزائريين.
يؤرخ لبدايات ظهور موسيقى "الراي" في ثلاثينيات القرن الماضي في غرب الجزائر، وتحديدا في ميناء أوران، الذي تعرض تاريخيا لموجات من التأثير الأسباني والفرنسي والإفريقي. وكان "الراي" في البداية أسلوب أداء البدو لما يعرف عندهم بـ "الملحون" أي الشعر الملحن.
عرف في البداية على يد مغنيات أطلق عليهن "الشيخات" وكانت معظم كلماته تدور حول المديح الديني والشكوى من مصاعب الحياة ومشكلات المجتمع. ولكنه فيما بعد تطور في مدينتي بلعباس ووهران وابتعد عن "الملحون" ليمزج تأثيرات موسيقية عديدة أوروبية وأفريقية بفضل الآلات الحديثة. وأصبح الأسلوب الغنائي المفضل لتعبير الشباب عن مشاكلهم وهمومهم وأيضا عن تمردهم وجموحهم وارتبط لقب "الشاب" أو "الشابة" بمغني "الراي".

من الجزائر إلى فرنسا
"ولكن الميلاد الحقيقي للراي المعاصر الذي شد أنظار العالم كان في فرنسا وبمشاركة فرنسيين" يقول أحمد عز أن "الراي" في بداياته ربما كان أسلوبا تراثيا محببا لكن الغناء كان طابعه بدويا والموسيقى كانت فقيرة: "كانوا يعتمدون بالأساس على نغمات الـ" رتم بوكس" Rythem Box التي يقدمها جهاز الكي بورد فكانت الموسيقى فقيرة وغير جذابة. هناك أغاني جميلة قدمت على هذه النغمات ولكن التحول الحقيقي كان مع الشاب خالد في فرنسا عندما امتزج صوته المميز مع أغاني تراث "الراي" وألحانه التي يحفظها مع التكنولوجيا الحديثة والإنتاج الموسيقي الفرنسي الذي وظف ذلك في قالب جذاب أبهر العالم".
انتقل الشاب خالد للحياة في فرنسا عام 1986، وتعد مسيرته هناك من المنعطفات الرئيسية لتاريخ موسيقى "الراي". فكان صدور ألبومه "خالد" عام 1992 هو الحدث الأكثر لفتا للانتباه إليها. ونجاحه هو الذي مهد الطريق لآخرين مثل الشاب فاضل والشاب مامي ورشيد طه لكي يصبحوا نجوما عالميين ولكي تصبح موسيقى "الراي" مسموعة في معظم أنحاء العالم.
وقد تعرف أحمد عز، الذي يدرس في كلية التربية الموسيقية قسم غناء أوبرالي، على موسيقى "الراي" مع أغاني الشاب خالد، الذي يعتبره "ملك الراي". ولكنه كان قبلها يميل لأساليب غنائية يراها مقاربة مهدت لاهتمامه بغناء "الراي": " انجذبت للأسلوب التراثي المطرز والغني بالتفاصيل مثل الذي يقدمه صباح فخري وناظم الغزالي ونور مهنا، وغناء "الراي" يميل لكثرة العُرب أوالتلوينات الصوتية، كما انجذبت للأسلوب التونسي مثل الذي يقدمه لطفي بوشناق، وهو يتميز بالتسلسل النغمي الأسرع من الأسلوب الشرقي التقليدي، بالإضافة للاهتمام بالموسيقى التركية التي تمزج الأسلوب الشرقي بالموسيقى الغربية التي تطورت تكنولوجيا".
بالإضافة إلى ذلك هناك أسلوب مميز في استخدام الحلق والأنف يحبه عز عند مشايخ الطرب التراثيين ووجد أسلوب "الراي" قريبا منه. كل هذه الملامح وجدها عز في موسيقى "الراي" الحديثة ممتزجة بتأثيرات موسيقية حديثة وجذابة تستفيد من كل الاتجاهات الموسيقية مثل الجاز والبلوز والروك، فجعلته مهتما بغناء "الراي". لا يعتقد عز أن أصوله المغربية سبب لاهتمام ب"الراي"، فوالده ووالدته عاشا كل حياتهما في مصر وكذلك هو. يضيف:” إلا لو كان ذلك بسبب الجينات، ربما كان لذلك تأثير!”.
وفي الفترة من 1997 إلى 2004 غنى عز مع فرقة "شرقيات" التي يقودها الموسيقي فتحي سلامة، وهي واحدة من أقدم وأشهر الفرق المصرية التي تقدم الجاز وتمزجه بتيمات تراثية من ثقافات مختلفة. مع "شرقيات" غنى عز بعض الموشحات والمواويل الطربية بالإضافة لأغاني "الراي"، كما غنى مع فرق مستقلة أخرى منها "فلامنكا".
بعدما رحل سعيد عبد الرحمن أو سعيد راي مغني فرقة "صحرا" إلى خارج مصر، انضم عز إلى الفرقة وأصبح مغنيهم الأساسي وسجل معهم أغاني ألبومهم الأول.
“لا يزال جمهورنا هو جمهور الشباب الذي يتابع الفرق المستقلة وليس الجمهور الواسع الذي يتابع الموسيقى التجارية" لا ينكر عز أن التسعينات شهدت رواجا لأغاني "الراي" وسط الشباب، إلا أنه يعتقد أنها كانت لحظة خاصة وهناك أسباب تحول دون المزيد من الانتشار التجاري لها.
“رغم ثراء وجاذبية أسلوب "الراي" وتقاطعه مع التراث الشرقي إلا أنه يسير في اتجاه معاكس للموسيقى التجارية أو البوب التي تميل للبساطة في الأداء الغنائي والاعتماد على الكلمات" كما أن البعض تعامل مع "الراي" كتقليعة جديدة وغريبة مثلما فعل أحمد آدم في فيلمه "فيلم هندي" الذي ظهر فيه البطل حلاقا يحب غناء "الراي" في الأفراح ويواجه دهشة وسخرية الجمهور أحيانا. يعتقد عز أن الهدف الرئيسي كان منح بطل الفيلم لقب"شاب" التي تميز مغني "الراي" ليصبح الشاب "سيد" أو "بطل" مثل الشاب خالد والشاب مامي.
أما النجوم الجماهيريون، فقد استغلوا لحظة بروز "الراي" أيضا وقدموا أغاني مشتركة معهم. فكانت تجارب عمرو دياب وخالد في "قلبي" في ألبوم قمرين وسميرة سعيد مع مامي في "يوم ورا يوم".
يضيف عز أن أسلوب موسيقى "الراي" تم الاستفادة منه حتى قبل ظهوره كموضة :”في أغنية "روحي تروح" لعلي الحجار في الثمانينات تم استلهام لحن زويت رويت من الفلوكلور الجزائري لكن تم إبطاء التمبو قليلا. كما استلهم عمرو دياب أسلوب "الراي" في لحن وتوزيع أغاني "حنيت" و"لو عشقاني" وغيرهما".

ما يقوله "الراي"
يعتقد أحمد عز أن مدى ألفة كلمات أغاني "الراي" لها دور أيضا في انتشارها:”أغاني "الراي" التي انتشرت إما كانت ذات إيقاع جذاب راقص مثل "ديدي" لخالد أو كانت ذات كلمات مفهومة وقريبة مثل "عيشة" و"عبد القادر" و"انسي انسي" ولكن اللهجة الجزائرية تقف أحيانا عائقا من التفاعل مع روح الأغنية".
يروى عز أنه اهتم أكثر بأغاني "الراي"، قبل أن يبدأ غنائها، عندما تعرف على معاني كلماتها. كان ذلك بسبب صدفة عرفته بصديق درس في مدارس فرنسية مع جزائريين، وعندما لاحظ اهتمام عز بموسيقى "الراي" شرح له معاني كلمات الأغاني ونطقها الصحيح. ساعتها لاحظ عز مدى جرأة وتميز كلمات "الراي" بالإضافة لموسيقاها.
كلمات "الراي" شهدت تحولا مهما في السبعينات وسببت معركة اجتماعية وثقافية في الجزائر استمرت حتى التسعينات. فقد شهد كورنيش وهران وملاهيه وأعراس منطقة غرب الجزائر تحول موسيقى "الراي" إلى كلمات غاية في الجرأة والجموح والتعبيرعن التجارب الجنسية والتغني بالخمر والمخدرات مما جعلها محط جدل اجتماعي وانتقاد الأسر المحافظة.
ومع نمو الاتجاهات الإسلامية واجه بعض مغنيي "الراي" تهديدات بالقتل فهرب كثير منهم إلى فرنسا، والذين ظلوا في الجزائر عاشوا مهددين حتى شهدت التسعينات مقتل الشاب حسني في أوج شهرته.
يعتقد عز أن اسم "الراي" يعني "الرأي" لأن ذلك الأسلوب الموسيقي كان مرتبطا بالتعبير الحر والجريء عن الموقف: "في أغاني الراي تعبير حسي عن الحب و ذكر لتفاصيل حياة الشباب المليئة بالمتع والتجارب مثل (الليلة تيلي كحول وتيجي) أي هاتي الخمر وتعالي. بعض الأغاني تروي تجربة السجن بعد الاعتقال بسبب جريمة. وبعض الأغاني فيها بعض العنف، فقد يهدد حبيب حبيبته التي هجرته بالقتل (تستاهلي مني الرقبة تقطع)”.
هناك تفسير آخر لمسمى "الراي"أنه بسبب انتهاء أغاني الراي القديمة بالمقطع الصوتي" يا رايي، و"الراي" في العامية الجزائرية معناها أقرب للقرار والاختيار، وبالتالي يعبر المقطع الصوتي عن الحيرة أو الندم والتحسر.
غنى أحمد عز مع فرقة "صحرا" خمسة من الأغاني الجديدة الخاصة بهم. في بعضها حاولوا التوفيق بين موسيقى "الراي" بشكلها المميز مع كلمات نمطية نوعا ما باللهجة العامية المصرية مثلما في "سهران وياكي"، وفي أغاني أخرى مثل "حلي الباب" كان هناك مزج بين "الراي" والروك على كلمات باللهجة الجزائرية ذات طابع غير نمطي، يطرد فيها حبيب حبيبته قائلا أنها لو كانت نسيت ما فعلته فهو لم ينس.
يؤكد عز على أن أهم عوامل نجاح فرقة صحرا المستمر لأكثر من 9 سنوات هو أن الفرقة تستلهم تراث "الراي" وأسلوبه الثري وفي نفس الوقت يمكن للتجربة أن تنفتح على كل الاتجاهات الموسيقية وتمزج بينها ويمكنها أن تتنقل بحرية بين كل أنواع الكلمات، تماما كما كان "الراي" دائما مزيجا مبدعا ومدهشا من تيمات تنتمي لثقافات مختلفة.


نشر في "باب المتوسط" سبتمبر 2010

المزيد

الخميس، ١٦ سبتمبر ٢٠١٠

الأفراح النوبية لم تعد سبع ليال


يحاول أبناء النوبة الحفاظ على تقاليد الزواج القديمة الخاصة بهم والتي نشأت في قراهم الأصلية، ولكن ضرورات المكان والزمان الجديدين يدفعان بعض التقاليد للتكيف وأحيانا للتراجع أوالاختفاء تماما.

قرر تامر علي، المحاسب النوبي الشاب، وخطيبته ألا يقيما حفل زفاف. القرار لا يزال يثير اعتراض الأسرتين اللتين تحاولان الضغط عليهما، فالفرح عند أهل النوبة أكبر من مجرد احتفال، بل هو تقليد تتجمع فيه الكثير من ملامح الثقافة النوبية.
لا يعرف تامر حتى الآن إن كان سيتمكن من الاكتفاء بعقد القران في مسجد أم سيضطر إلى إقامته تحت ضغط رغبة الأجيال النوبية الأكبر في التمسك بتقاليدها المميزة.
يعتبر تامر نفسه معتدلا في التعامل مع التقاليد النوبية، فهو لا يحب النزوع إلى العزلة والتقوقع والتمسك الشديد بكل التقاليد الموروثة لأبناء النوبة بغض النظر عن الظروف الاجتماعية الجديدة وفي الوقت نفسه يرى وجاهة الكثير من هذه التقاليد ويلتزم بها.

"طقوس الزواج واحتفالاته تعد من أبرز التقاليد النوبية التي لا تزال تحمل ملامح الارتباط ببيئة القرى النوبية ثم بعض ملامح القرى التي تم تهجيرهم إليها أثناء مراحل تطوير خزان أسوان ثم إنشاء السد العالي" هكذا يرى مصطفى عبد القادر، الباحث في التراث النوبي، مؤكدا أن التقاليد تحاول الصمود في المدن التي يتجمع النوبيون فيها بالقرب من بعضهم البعض، ينشئون جمعيات للحفاظ على رابطتهم القديمة وتراثهم الذي يعتزون به.

حصل مصطفى عبد القادر نهاية إبريل الماضي على درجة الماجستير من المعهد العالي للفنون الشعبية عن دراسة ميدانية مقارنة ترصد طقوس وعادات الزواج عند الفاديجا والكنوز، وهما السلالتين اللتين تنحدر إليهما أصول معظم النوبيين.
في الدراسة يرصد مصطفى عبد القادر تطورات الفرح الذي كانت عاداته تحتل مساحة زمنية أطول ويشترك فيها عدد أكبر بشكل تعاوني وطوعي. فمنذ بداية القرن الماضي كان الإعداد للفرح النوبي يتم قبل أسبوعين من الزفاف، وقد تستمر الاحتفالات أسبوعا ينتهي بالحنة ثم الفرح. يقول مصطفى عبد القادر:”قبل أسبوعين كان يحدث إعلان أو (سما) نسبة لتسمية ميعاد الفرح لكي تتفرغ كل القرية لمساعدة العروسين. كان الناس يلجأون لفقيه القرية أو العارفين بالنجوم لكي يحددوا موعدا يتجنب أيام النحس بحسب معتقدهم. الفرح كان مناسبة جماعية تعاونية. وكانت الأدوار تقسم على الجميع بحسب السن والخبرة والتخصص. والجميع يقدم مساعدات عينية مثل الشاي والخبيز والفيشار. لم تكن هناك أي تكاليف. وكان الاحتفال يقام في مساحة واسعة عادة ما تكون في مدخل القرية".

أراجيد في الوسعاية
في الفرح النوبي التقليدي تعزف الموسيقى الإيقاعية بالدف أو الطار، على ألحان السلم الموسيقي الخماسي يؤدي الجميع "الأراجيد" (وهو ما يطلق على الرقصات النوبية المميزة بينما تعني الكلمة مجرد الرقص باللغة النوبية). هناك قائد للفرح ينظم الصفوف ويختار الإيقاع المناسب للوقت بحسب النشاط أو الفتور. يرقص الجميع في صفين متقابلين بينما يرقص أهل الفرح والمقربين وسط الصفوف.
يشرح مصطفى عبد القادر أن بعض الاختلافات في طقوس الاحتفال ترجع إلي الأصول السلالية. ففي أفراح الكنوز الذين ترجع أصولهم لقبائل عربية هاجرت من شبه الجزيرة هناك رقص بالسيف وهناك بعض الشدة وأحيانا فصل بين الرجال والنساء. ولكن الفاديجا الذين ترجع أصولهم لسكان وادي النيل فالرقص هاديء ويستوحي الموج الرتيب المتهادي للنيل ويختلط فيه الرجال والنساء ويتنافس أهل العريس مع أهل العروس في ابتكار الرقصات وأدائها.
بعد انتهاء الفرح كان من المعتاد أن يقيم العروسين لمدة أسبوع في بيت أهل العروس، ليتفرغ أهلها لخدمتها وتتفرغ هي لزوجها. بيوت القرى النوبية كان بها مكان مخصص لمبيت الضيوف ومضيفة لاستقبالهم. ولكن الآن في المدينة تحاول العائلات التي تعيش في بيت به أكثر من شقة استعادة الطقس بدعوة العروسين للمبيت في إحدى الشقق التي يتركها سكانها مؤقتا.
يوضح مصطفى عبد القادر أن طبيعة المساكن والبيئة اختلفت والكثير من التقاليد لم يعد متاح الالتزام بها. لم تعد المساهمات العينية ممكنة فلكل شيء تكلفة. الوسعاية اختلفت وحل محلها الشارع أو المسرح الذي أصبح موعد حجزه يحدد موعد الفرح. اندثرت معظم الإيقاعات والرقصات إلا إيقاع واحد هو "الكومباك" وهو الإيقاع الأشهر. الفرق النوبية التي تحيي الأفراح تنوّع بين الأغاني النوبية والأغاني السودانية باللغة العربية. لم تعد الأفراح سبع ليال ولكن غالبا ما تستمر حتى صباح اليوم التالي.
يوضح مصطفى عبد القادر أن التقاليد تحاول التكيف أو مجرد التواجد بشكل صوري قبل أن تختفي تماما: "كان هناك طقس أثناء زفاف العروسين. أن يهتف هذا معلنا أنه يهديهم نخلة أو طرحها هذا الموسم، وذاك يهديه قيراط من الأرض أو جزءا من المحصول. كان تلك هدايا حقيقية ولكن بعد التهجير أو الانتقال للمدينة لم يعد لدى الكثيرين أرض ولا نخل، فاستمر الطقس يؤدي. فيهتف هذا ويهتف ذاك والجميع يعرفون أن تلك ليست هدايا حقيقية بل مجرد تحية".
في رأي تامر علي أن المجتمع النوبي أحيانا ما يتمسك بتقاليد فيها بعض التمسك بالمظاهر، يركز اللوم على الكنوز المولعين على وجه الخصوص بالذهب ويبرزونه في أفراحهم. ولكن بشكل عام يعتبر أن استمرار تقاليد الفرح النوبي الحاشد لم تعد مناسبة: "الكثير من الأسرتعتقد أن الفرح يعبر عن قيمتهم وقدرهم. ولكن التكاليف تتجاوز قدرة معظم الشباب والأسر الآن. ولذلك انتشر نوعا ما الاكتفاء بعقد القران في مسجد أو إقامة احتفال صغير أمام البيت قد يتضمن موسيقى ورقصات نوبية مميزة".
رغم انتقاداته تلك إلا أن تامر التزم بشكل كبير بالتقاليد النوبية الخاصة بالزواج، فهو لم يفكر في الزواج من غير نوبية ولا حتى نوبية من الكنوز بينما هو من الفايجا، بل تقدم لخطبة بنت خالته. يقول تامر أن زواجه من بنت خالته يرجع بالإضافة للألفة بينهما إلى التقاليد النوبية التي يعتز بها والتي تجعل أبناء القرية النوبية الواحدة كأنهم إخوة، فما بالك بالعائلة الواحدة، وبالتالي يشعر هو أن الزواج داخل نفس العائلة مريح ولن يضطر للتعامل مع آخرين مختلفين.
لا ينفي تامر أن الخيار الآخر صعب جدا، فالعائلات النوبية لا تتقبل حتى الآن الزواج من غير النوبيين، وبعضهم لا يفضل الزواج من السلاسة النوبية الأخرى. ونظرا للترابط الكبير والدور الكبير للعائلة في حياة النوبي أو النوبية فإن صعوبات كثيرة تكون في مواجهته ومواجهتها لو اختارا الزواج من شريك غير نوبي.
ينفي مصطفى عبد القادر أي دور للعنصرية أوالتعصب العرقي في هذا الأمر، ولكنه يرجعه إلى تميز التقاليد النوبية التي تملأ كل جوانب وتفاصيل الحياة وتعد التزامات واجبة على كل فرد نوبي، ولذلك يكون من الصعب على من لا يعرف هذه الثقافة ولم يعش تفاصيلها أن يلتزم بها.
يقول مصطفى عبد القادر أن التقاليد تغيرت من أوائل القرن الماضي إلى الآن، بسبب اختلاف الزمان والمكان والبئية، والتقاليد والعادات تتكيف مع البيئة الجديدة. فتقليد الزواج من نوبية أو نوبي كان بالأساس تقليد يؤثر الزواج داخل العائلة الواحدة، بسبب الملكية الزراعية المحدودة والتي تخشى العائلة من تفتتها بالميراث.

من جلسة المشورة إلى شريط الفيديو
يشرح مصطفى عبد القادر: "أوائل القرن كانت البنت لابن عمها بشكل صارم، وبعده ابن الخال ثم ابن العمة ثم ابن الخالة. وكانوا إذا تخلف قريبها عن التقدم لها وتقدم لخطبتها واحد آخر يضطر الأب لدعوة العم إلى جلسة (مشورة) يشاروه فيها بشأن خطبة ابنته ليتأكد من أنه لا يريد التقدم لها ويتحلل من هذا الالتزام".

تغير الأمر مع تطور المجتمع، ومع هجرة بعض الكنوز الذي غرقت أراضيهم أولا مع التطوير الأول لخزان أسوان إلى بعض قرى الفاديجا حصل تزواج بينهم.
حسن عبد المجيد، خريج معهد التعاون الذي ينتمي إلى الكنوز، يقول أن بعض الحساسيات موجودة الآن بين الكنوز والفاديجا حالت بينه وبين الزواج من فتاة من الفاديجا: "أهلي رفضوا وقالوا لي: كل أولاء البنات من عائلاتنا لا يعجبونك؟ .. سافرت فترة للعمل في الكويت، فكانت أمي ترسل لي شرائط فيديو لأفراح نوبية لأشاهد البنات أثناء الرقص وأختار إحداهن. وفعلت ذلك".
الفرح النوبي يمثل موعدا هاما للتواصل بين أبناء القرية الواحدة الذين يتم دعوتهم كلهم لأي فرح لواحد منهم ، وبحسب حسن عبد المجيد فإن الذين لا يحرصون على حضور الأفراح تقل فرصتهم في الزواج، خاصة الفتيات. يشير تامر علي إلى أن الأسرة النوبية التي تتشكل في كل جامعة ومعهد بها عدد معقول من النوبيين أصبحت أيضا وسيطا للتعارف والتلاقي وتحدث بين أفرادها الكثير من الزيجات.
ذهبت والدة حسن وحادثت والدة الفتاة التي اختارها وعندما وجدت قبولا ذهبت أسرة حسن كلها لزيارة أسرة الفتاة. في الزيارة الأولى لا يتحدث أي منهم عن الزواج والخطوبة. يقضون فترة الزياة في كلام عام ويتركون الشاب والفتاة في جانب يتحدثان معا في أي شيء. يتذكر حسن:"أعتقد تحدثنا عن أحب الأغاني إلينا". بعد هذه الجلسة ينتظر الأهل رأي الشاب والفتاة فإن كانا منسجمين تبدأ اجراءات الخطوبة.
سيناريو مشابه تكرر مع تامر، الذي كان في السعودية عندما ذهبت والدته وفاتحت أختها في رغبته بالزواج من ابنتها: “لم نكن نحتاج إلى تلك الزيارة الأولى لأني كنت أعرف بنت خالتي جيدا. حتى وأنا مسافر كنت أتواصل معها على الإنترنت، كما أني كنت تقريبا اتفقت مع أبيها عبر التليفون على كل شيء قبل عودتي. لكن خالي أصر عندما عدت على أن نقوم بهذه الزيارة كأنها طقس. ولأنه يجب أن يأتي معي (كبير) ويجب أن يشعر الجيران بطقوس الخطوبة وفقا للتقاليد".
يقول مصطفى عبد القادر أن التقاليد القديمة في القرى النوبية كانت تمنع الخاطب من رؤية خطبتها أول ما يتقدم إليها، وكان عليه أن يتحايل لرؤيتها من بعيد. الآن يخرج المخطوبان معا ويحضران الأفراح معا، وهناك طبعا اختلافات تخص كل فئة اجتماعية.
أوائل القرن الماضي كانت التقاليد تحتم على الزوج أن يتحمل كل نفقات الزواج بينما تضطر معظم الأسر الآن إلى تقاسم الأعباء المادية. يوضح مصطفى عبد القادر أن التكاليف أوائل القرن الماضي في القرى النوبية كانت يسيرة جدا: "كان المهر رمزيا والرجل يبني بيته من الطين على قطعة أرض تملكها عائلته ولم يكن هناك جهاز للعروس بالمعنى الموجود الآن ولكن كانت تساعدها العائلة بأشياء تبدأ بها حياتها. أطباق الخوص التي تعلق في بيت أسرتها للزينة تأخذها وتستعملها. وهناك عادة أخرى وهي أن يزور العروسين بعد الزواج مجموعة من أقرب أقربائهم والأطباق والأدوات التي تقدم لهم أثناء ضيافتهم تهدى إليهم".
يقول حسن عبد المجيد: "الآن تقاليد الجهاز أصبحت مثل تقاليد أي أسرة مصرية عادية. ولكن المشكلة الحقيقية هي في الفرح النوبي الذي يعد تقليدا هاما جدا تتمسك به العائلات بينما هو مكلف جدا وفوق طاقة معظم الشباب الآن. أسرتي تكلفت كثيرا من إقامة فرح في مسرح ناد يسع ما يزيد عن 1000 فرد لنتمكن من دعوة كل أهل قريتنا ومعارفنا".
يعترف تامر أن الفرح يمثل طقسا اجتماعيا هاما له دوره في التواصل بين أوسع نطاق من المجتمع النوبي ولكنه سيحاول أن يتمسك بوجهة نظره وأن يكتف بعقد القران في المسجد، بينما سيعبر عن تقديره للثقافة النوبية بشكل آخر وسيحرص على تعليم أولاده اللغة النوبية التي لا يعرف هو عنها الكثير.


نشر في "الشروق" 15 سبتمبر 2010
PDF


المزيد