السبت، ١٨ يوليو ٢٠٠٩

شعبي

من الفرح وإليه



تتغير بسرعة وخفة أحوال عالم الغناء الشعبي وأسماء نجومه ووسائط انتقال إنتاجه إلى الجمهور من الحفلات إلى الدي جيه من الكاسيت إلى مشغلات ملفات الموسيقى الإلكترونية المنتشرة على الإنترنت. ولكن تظل الأفراح الشعبية التي تجمع صناع الفن ومتلقيه في صوان واحد في لحظة احتفالية وأريحية هي صانعة الإيقاع الشعبي ومؤشر تحولاته وهي منطلق ومنتهي الراغبين في الصعود أو المتشبثين بمكانهم على المسرح.

"والآن! مع المطرب صاحب شريط كاسيت "قلب أناني"، نجم الأغنية الشعبية ونجم مسارح القاهرة. مع النجم الفنان أحمد سيف ".
يتقدم أحمد سيف ليلتقط الميكروفون من زميله الذي قدمه وهو يحييه بحركة من يده، ثم يلتفت ويحيي جمهور الفرح الذي يبدأ من أمام المسرح الصغير المحاط بصوان المناسبات ويمتد حتى نهاية الحارة الضيقة التي تقع في قلب قرية "منشية دملو" القريبة من بنها، بالإضافة لجمهور البلكونات وبعض من افترشوا الحصير في الدور الأول من بناية قريبة تحت الإنشاء لا تزال دون حوائط.
ولأن بعض الجمهور كانوا لا يزالون أصلا خلف ظهر المطرب على المسرح يلتقطون أنفاسهم من رقص الفقرة السابقة، فإن المطرب أحمد سيف طلب منهم النزول قليلا عن المسرح للحظات، حتى يتمكن من الوصول للعروسين إيهاب وسحر.
فقرة أحمد سيف هي الأخيرة في فقرات فرقة "شروق" التي تحيي الفرح، والتي يبدو علي مطربيها وعازفيها خيبة الأمل بسبب عدم تجاوب معظم الجمهور معهم. ازدحام المسرح يرجع فقط إلى ضيقه وضيق الحارة، فهو بالكاد يضم الفرقة مع عدد قليل من المجاملين بالرقص والنقوط.
لذلك حاول أحمد سيف أن يقنع العروسين بالنزول من المسرح أملا في تجاوب أكبر من الجمهور المتمسك بمقاعده. واستعان لذلك بأغاني متنوعة قديمة وجديدة.
ولكن جمهور الراقصين ظل هو نفسه، بينما معظم الجمهور المكون من أسر ريفية يغلب عليه المحافظة. هو فرح "عائلي" باستثناء بعض الشباب المتجمعين في حلقات يقومون بالرقص و"التشكيل" المميز. ويرتاحون قليلا ويغلقون دائرتهم قليلا لتدخين سجائر الحشيش. مجموعات من البنات المحجبات الخجولات المنزويات والمكتفيات بالتصفيق. واحدة منهم فقط كانت تصعد إلى المسرح لتشارك العروس الرقص. وقد يبدو غريبا أن الأكثر مشاركة في الرقص وتواجدا على المسرح هم السيدات الأكبر سنا، بحجابهم السابغ وعباءاتهم الفضفاضة أو بالجلاليب الريفية النسائية المميزة الفضفاضة أيضا. يشاركهم الرجال الأكبر سنا مع بعض الشباب. كل من يصعد على المسرح، رجالا ونساء، يلف حول وسطه إيشارب أو كوفيه ليظهر مهارته في متابعة الإيقاع.
ما يقدم في الفرح من مشروبات يختلف كثيرا عن "الممنوعات" التي تقدم الأفراح الشعبية في عشوائيات المدن فصواني الشاي التي تدور بين المعازيم قد تبدو غريبة بالنسبة لفرح، ولكن يبدو أنها تساعد أبناء الريف الذين لا زالوا يستيقظون مبكرا للعمل في كل تلك الغيطان التي تحيط منازل القرية ويبدو أنهم غير معتادين على السهر.
في الميكروباص الذي جمع أعضاء فرقة "شروق" ليعود بهم إلى بنها، أخذ المطربون والعازفون يتندرون على الفرح الريفي الغريب. وعلق أحمد سيف ضاحكا :"جو الفرح مش متعاون أبدا. المفروض إن إحنا باند كبير وقديم، من كام سنة كان في بنها أكثر من 25 باند. بعد ما الشغل قل بسبب الدي جيه مش فاضل منهم غير ثلاثة أو أربعة".
يضيف أحمد سيف :"باند "شروق"- على اسم بنت مدير الفرقة- قدرت تستمر لأنها حققت صيغة ترضي جميع الأطراف. نغني الشبابي أو الشعبي ونعزف شرقي وغربي. لو حد عاوز يسمع ويتسلطن نسمعه، ولو عاوز يرقص نرقصه" ويضحك وهو يضيف "ولو كانت الليلة خربانة مافيش مانع .. نخربها برضه!"
ويبدو أن خلطة "شروق" ناجحة، ففي بداية الفرح حافظوا على التقليد المعاصر بسماع أسماء الله الحسنى، وإن كان بصوت حمادة هلال لا بصوت هشام عباس، ثم عزفوا موسيقى احتفالية غربية مع دخول العروسين ومع شربهما العصير. وتنوعت بعد ذلك أغانيهم بين أغاني وردة وعدوية و بين أغاني نجوم اللحظة في عالم "الشعبي": عبد الباسط حمودة ومحمود الحسيني ومحمود الليثي. وفي أوقات ذروة الرقص تعلو أسهم "ثنائي العنب" عماد بعرور وسعد الصغير.
لا توجد أغاني خاصة بالفرقة، وحتى أحمد سيف لم يغن شيئا من أغاني شريطه خوفا من السرقة: "الشريط لسه ما نزلش السوق. والأغنية اللي تطلع هاتلاقيها تاني يوم في فرح تاني وعلى الإنترنت".
ولكنه يذكر بآخر أغنية غناها في الفرح، "أنا عيني منك" لعمرو السعيد، قائلا ان هذا اللون تحديدا هو ما يفضله:"أنا أحب اللون الشعبي اللي فيه طرب وشجن وفيه برضه مزيكا ترقص، ومعظم أغاني شريطي من النوع ده".
على خلاف أحمد سيف، معظم المطربين الشعبيين تشتهر أغانيهم في الأفراح أولا قبل تسجيلها ومعظمهم لا يفكر كثيرا في ملكيته لأغنية أو لحن. فالغناء الشعبي فن غير مرتبط كثيرا بصناعه وأسمائهم التي تظهر وتخبو سريعا، ولكن اتجاهاته تتحول سريعا مع اتجاهات ومزاج الجمهور. فالأغاني يعاد صياغتها ويضاف إليها ارتجالات في الأفراح التي تعتبر جزءا مهما من عملية انتاجها واختبار ملائمتها لذوق الجمهور.
ولذلك على الفرقة التي تحيي أفراح الطبقات الشعبية أن تتعلم التجاوب والتأقلم. يحكي أحمد سيف أنهم كل ليلة يعيشون جوا مختلفا، فمرة يكونون في فرح عائلة ميسورة نسبيا في فندق أو نادي في بنها أو المنصورة، ومرة في شارع ضيق وسط جمهور غير مبال بهم أو محافظ غير متجاوب. أو في صوان كبير وسط جمهور غير راغب إلا في السكر والغياب عن الوعي ويضيق بأي غناء أو موسيقى تبعده عن هذه الحالة أو وسط جمهور راغب في سماع وأداء التحيات والنقوط طوال الليل.
فرح "جمعية"
من التقاليد المعاصرة أن بعض الليالي والأفراح تقام بغرض جمع النقوط، وتسمى "فرح جمعية" وصاحبها يعطي الفرقة أجرا ثابتا ويطالبها بإعطائه كل النقوط لتساعده في الأقساط أو لتغطي تكاليف الفرح نفسه. وبعض الفرق الشعبية لا تعتم بالغناء بقدر ما تهتم بوجود "نوبتجي" ماهر وحلو اللسان يمكنه أن يحييّ بطرق مبتكرة تستحث المعازيم وأهل الواجب على النقوط. ساعتها يكون الغناء مجرد فواصل بين فقرات التحية التي تلي النقوط التي يسجلها مساعد "النوبتجي" في كراسة إعلانا أنها واجب سيرد إلى أصحابه في أقرب وقت.
ولكن "المعلمين" وكبار العائلات العريقة الشهيرة أو أصحاب المزاج ويعلنون أنهم لا يحتاجون نقوطا ويكرسون الليلة للغناء والانبساط ، وقد ينفقون الكثير في استقدام بوفيه متخصص لتقديم مأكولات وخمور وأحيانا ما يمتد الكرم إلى توفير باقة متنوعة من المخدرات لأصحاب المزاج، مستغلين الاتفاقية العرفية السارية بين أبناء المناطق الشعبية والشرطة التي تقضي باعتبار صوان الفرح "منطقة حرة"، تماما مثل كون بساط الموالد "أحمدي" والخطايا متجاوز عنها في حضرة الوليّ.
لمثل هذه الأجواء حرص أحمد سيف على وجود أغنيتين "فقر" - على حد تعبيره- في شريطه الجديد، فسجل أغنية عن "البتنجان" تمشيا مع موجة الغناء للخضروات، بالإضافة إلى أغنية يعدها مع المنتج خالد عمر عن الأتوبيس المكيف ستكون على نفس لحن أغنية "الحنطور" لأمينة.
عند هذه النقطة يرجع أحمد سيف ليحكي أن مساره كان مختلفا، فهو بدأ مع فرقة قصر الثقافة في شبين القناطر حيث يسكن، وشارك في الغناء في مسرحيات تجريبية بمسارح الدولة ومع فرقة "الأحلام" لتقديم التراث في الأوبراولكن بعد أن اختلف مع المصنع الذي يعمل به فني معامل حصل على إجازة مفتوحة بدعوى إصابة قدمه. وبدأ العمل مع فرق الأفراح المشهورة في الدلتا، في البداية كان يغني اللون الشبابي لإيهاب توفيق ومحمد فؤاد ولكن الذوق تغير وفرض على الفرق أداء اللون الشعبي.
وأثناء أدائه لهذا اللون أعجب به أحد متعهدي المطربين وقدمه إلى خالد عمر مهندس الصوت والمنتج من شركة "صوت الطرب" في إمبابة لينتج له شريطا. ورغم أنه ينفق من مدخراته على الشريط الذي لا يتوقع أن يجني من مبيعاته أرباحا كبيرة إلا أنه يأمل أن يتم توزيعه جيدا سواء في منطقة الدلتا و في القاهرة، وأن تنتشر أغنياته بين مشغلي الدي جيه وعلى الإنترنت لكي يطلبه متعهدو الأفراح و يحيي أفراحا أكثر.
قد يسلك الغناء الشعبي مسارات مختلفة مثل الكاسيت أو الدي جيه أو الإنترنت في رحلته بين منتجيه وجمهوره إلا أنه يظل دائما ينطلق من الأفراح لينتهي في الأفراح، حتى وإن كان غناء حزينا.



ماركة مسجلة:
"أنا القتيل يا حاج عمر .. يا خالد عمر يا عينيّ"

قبل سنوات، كانت شرائط الكاسيت الشعبية هي روح السوق الكبير في إمبابة. ضجيج الأصوات المتداخلة لأجهزة الكاسيت الكبيرة الموضوعة على أرفف أكشاك بيع الخضر والفاكهة كان يتداخل مع أصوات الأجهزة الأكبر في محلات بيع شرائط الكاسيت التي كنت تراها بكثافة بين كل مجموعة أكشاك. وفي منتصف شارع السوق تماما كانت الأنوار الملونة ليافطة شركة "صوت الطرب"- أكبر شركات إنتاج وتوزيع الكاسيت آنذاك- لا تنطفيء ليلا أو نهارا فوق محل المركز الرئيسي للتوزيع وكأنه مايسترو الأوركسترا الشعبي، التي لم تتحكم فقط في إيقاع السوق بل إمبابة كلها والعديد من المناطق الشعبية في كل أنحاء مصر.
الآن، لا تزال الأغاني تصدح ولكن اختفى جهاز الكاسيت تقريبا، وحل محله على أرفف الأكشاك وفوق طاولات الفرشات سماعات منفصلة وجهاز مشغل موسيقى MP3 Player لا يحتاج بالطبع لأشرطة، ولكن تكفيه ملفات الأغاني التي يأتي بها أحدهم من الإنترنت أو يشتريها على اسطوانات من الشاب جابر الواقف عند تقاطع شارع السوق مع شارع الجامع. جابر هو الوحيد تقريبا الآن الذي يبيع بعض شرائط الكاسيت بجانب الاسطوانات التي تعد عمله الرئيسي.
محلات بيع الكاسيت التي كانت تملأ السوق وإمبابة اختفت، وصار الكاسيت تجارة جانبية في فرشات بيع أشياء أخرى. وأصبح من الصعب جدا أن تعثر على يافطة شركة "صوت الطرب". اليافطة لا تزال موجودة والمحل الكبير الذي كان مركز التوزيع الرئيسي للشركة لا يزال موجودا، ولكن اليافطة توارت خلف صوان ممتد أمام المحل الذي يمتليء الآن بجلابيب وملابس داخلية نسائية، ويجلس أمامه باستمرار مالكه، ومالك "صوت الطرب" الحاج عمر يدخن الشيشة ويتابع سير العمل.
"الحاج عمر" أصبح اسما مركبا لا ينفصل بعد أن ردده هكذا مطربون شعبيون في أغانيهم في الأفراح أو في التسجيلات التي صدرت في الكاسيت تحية لمنتجهم الذي قدمهم إلى العالم ويوالي إنتاج شرائطهم.
من شعبان عبد الرحيم الذي أنتج "الحاج عمر" أولى شرائطه، فظل شعبان يحييه ويذكر اسمه دائما ضمن أسماء أهل الفرح ودافعي النقوط الذين يحييهم، وإلى المطرب الشاب محمود الليثي الذي يغني أغاني تستعير تيمات من الإنشاد والذكر، فيذكر الحاج عمر في سياق خاص عندما يضيف اسمه وسط شعر عمر بن الفارض فيقول : "أنا القتيل بلا إثم ولا حرج.. أيوه أنا القتيل... أنا القتيل يا حاج عمر .. أنا القتيل يا حاج !"
ولكن محمود الليثي في أغانية الأخيرة يضيف تحية مختلفة: "يا خالد يا عمر... يا خالد يا عمر يا عينيّ". خالد عمر هو ابن الحاج عمر الذي لا يتجاوز عمره 28 سنة، ولكنه الذي يتولي الآن هندسة الصوت وإدارة الإنتاج في شركة "صوت الطرب" ولكن بصيغة أخرى تناسب تراجع أحوال الكاسيت.
في شقة بدور أرضي بشارع جانبي في شارع القومية العربية بإمبابة يجهز خالد عمر استديو جديد خاص به ويجلس أمام الكمبيوتر يراجع أغاني الشريط الجديد للمطرب أحمد سيف ويعطيه ملاحظاته.
يتوقف خالد عمر ويلتفت عند سماع اسم محمود الليثي ويقول:"لازم يحييني طبعا، أنا اللي قدمته وطلعته وعملت له سكة وقلت له اركبها. مش مصدقني ؟"
يعود إلى الكمبيوتر ويبحث قليلا قبل أن يشغل شيئا ويقول :" ده راوي قصص اسمه سعد اليتيم يغني في ليلة من مولد الدسوقي قصة اسمها "أحلام والباشا". اسمع!". يغني سعد اليتيم موالا: "الست لما تكون عاوزة تعيش بتعيش. ما دام تحب الراجل لو نامت معاه على خيش. لا يوم تقول جابلي ولا جابليش.(ثم يدخل الإيقاع) الست لما .. لما لما لما "- وهذا المقطع هو نفسه في أغنية شهيرة لليثي يغنيها بأسلوب قريب- يواصل صوت سعد اليتيم من التسجيل "منور يا أستاذ عمر يا غالي..يا ابن القاهرة يا حلو"، فيبتسم خالد عمر ويوقف الأغنية ويقول: "أنا قلت لمحمود الليثي اشرب الأسلوب ده وخد السكة دي".

يذهب خالد عمر كمهندس صوت لليالي الذكر والإنشاد الخاصة بمشايخ الإنشاد المشاهير مثل ياسين التهامي والشيخ عيون أبو عامر ويحتفظ بتسجيلاتهم التي كانت تنتجها أحيانا "صوت الطرب". ويذكّر بأن قصيدة ابن الفارض التي يغنيها التهامي وتتضمن "ما بين معترك الأحداق والمهج.. أنا القتيل بلا إثم ولا حرج"، هو الذي عرّف الليثي عليها ليقتبس منها في أغنيته التي اشتهرت بـ"القتيل".
الاقتباس وإعادة الإنتاج سمة مميزة في عالم الغناء الشعبي. هناك أريحية في التعامل مع إنتاج الآخرين.وسواء أثناء الارتجال في الأفراح أو استنادا لمؤلفين كلمات وملحنين يتم تعديل الألحان والكلمات بالإضافة والحذف.
مثلا، أغنية "العنب" الشهيرة- التي ربما تعود أصولها لفلكلور ما- أول من غنتها هي المطربة شفيقة وكانت بإيقاع بطيء فلاحي: "جاب لي العنب يا أما.. قطف لي حبه اللي استوى. شلت العنب يا أما .. من خوفي عليه من الهوا" وهي الأغنية التي غناها عماد بعرور بعد إضافته لمقدمة تمدح الحشيش ثم يرتفع الإيقاع الراقص مع تكرار كلمة العنب. والتقطها سعد الصغير وأضاف مقدمة مختلفة "فكهاني وبحب الفاكهة". ولم يفت الليثي أن يغنيها أيضا في أحد شرائطه مضيفا "يا محلى عناقيدك وإنت حلاوتك بناتي.. يا شمعدان يا منور ومزين تكعيباتي".

يواصل خالد عمر :"لكن الليثي طلع معايا قليل الأصل لما اشتهر وغنى أغنية "فلوس" في فيلم "كباريه". طلب مني العقد علشان يخلص أمور قانونية مع السبكي وقطّع العقد. خلاص بقى. أول ما جاني كان ما يقولش إلا "يا عم خالد" وبيغني الفرح كله بـ 150 جنيه. دلوقتي بيطلع فقرة ساعة في الكونراد وياخد 15 ألف جنيه".
في البداية- كما يقول خالد عمر- الكل مستعد للبصم بالعشرة. "مش عيب إنك تبدأ صغير" ويحكي عن بدايته هو نفسه على دراجة بها حمالة يدور بها بشرائط الشركة على بائعي الكاسيت في إمبابة ثم في القاهرة كلها. وبعدها بدأ يذهب إلى الأقاليم التي يقول أنه يعرف باعة الكاسيت فيها من أسوان إلى سيناء. وهكذا بدأت خبرته في عالم الكاسيت.
ولكن بدأ خالد عمر الدخول في عالم الإنتاج بعد تعرفه على شاب اسمه أحمد الأسمر يقيم مع أهله في حجرة صغيرة في شارع الجامع. "كان غلبان وعامل في شركة قطع غيار سيارات، لكن صوته كان بيفكرني بصوت طارق الشيخ" يقول ذلك وملامح وجهه تعبر عن الانبهار عند ذكر اسم طارق الشيخ الذي يحتل مكانة مميزة في سوق الغناء الشعبي الدرامي الحزين.
يحكي خالد أنه تبنى أحمد الأسمر فنيا وأتي له بأفكار أغاني ومؤلفين وملحنين وأصدر له شريط "يا حبيبي": "أغنية يا حبيبي كسرت الدنيا وهي أصلا كانت فكرة بسيطة مني، كنت أنا وأحمد خارجين من سينما ريفولي فدندنا بلحن: تارارارا. فقلت له نعمل أغنية كلها الجملة دي فكانت: "يا حبيبي – تارارارا – يا ناسيني –تارارارا- هاتجيني – تارارارا ... وهكذا كلمة واحدة وجملة تارارارا التي يدخل الكورس فيها بآهات".
إنتاج الغناء الشعبي ربما يتميز ببساطة وعفوية وخاصة في اللون السريع المرح الراقص، أو كما يطلق عليه خالد عمر: "الهنك". ولكنه قد يتميز أيضا بجدية وتعبير صادق خاصة في الأغاني الحزينة، مثل "أنا مش عارفني" لعبد الباسط حمودة التي لفتت الانتباه وتجاوزت شهرتها جمهور "الشعبي" إلى غيره.
حظى أحمد الأسمر بفترة نجومية ثم انطفأ نجمه، ليصعد خالد عمر بمطرب آخر هو غرام المصري الذي غنى "أنا نازل يا سعاد خلي بالك من الواد" وحظى بفترة رواج وعندما انحسر رجع إلى وظيفته كسائق وقد يحيي فرحا بين شهر وآخر.
باستثناء أسماء قليلة، فإن عالم الغناء الشعبي حاليا يسيطر عليه "الإفيه" والأغنية الواحدة التي تستحوذ على اهتمام الجمهور لفترة بمرحها أو مرارتها فترفع نجم صاحبها إلى السماء لفترة قبل أن ينزل مع صعود واحد آخر بأغنية أخرى.
المطربين قد يعودون إلى مهنهم الأصلية، ولكن إنتاج الكاسيت في زمن الإم بي ثري والإنترنت لم يعد تجارة رابحة. ورغم أن التكنولوجيا أفادت الشركات أيضا فاستغنت عن كثير من الموسيقيين واستبدلتهم ببرامج التأثيرات الموسيقية وفنون هندسة الصوت، إلا أن تكلفة أجور الملحنين والمؤلفين وطباعة الكاسيت تشكل عبئا على الشركات. لذلك فخالد عمر يعتبر عمله الرئيسي هندسة الصوت، التي تعلمها من ملاحظته لتسجيل أغاني شريط أحمد الأسمر رغم أنه لم يكن قد بلغ العشرين بعد كما أنه لم يتم دراسته الابتدائية، وأصبحت تلك مهنته الأساسية بعد ما فترت وتيرة الإنتاج.
قد يقوم بين فترة وأخرى بإنتاج شريط لمطرب ولكن بشرط أن يتحمل هو التكاليف، وكل مطرب يختار أن يطبع أغانيه على شريط أو يستلمها من خالد عمر على مجموعة إسطوانات ليحاول أن يصنع شهرته على الإنترنت أو من خلال تشغيلها في الدي جيهات. وفي هذه الحالة يكون دور خالد عمر بالإضافة لهندسة الصوت هو أن يقود المطرب إلى ما قد يحقق له "الخبطة" التي تمنحه بريق الشهرة. أو بتعبير خالد عمر: "ملكتي اللي ربنا إداهاني وهي سبب أكل عيشي إني أعرف أسوق المطربين للي ينفعهم وياكل مع الناس وهو ده فن الإنتاج".



"يا أهل الله ياللي فوق .. نظرة للي تحت"

"شوف يا رحّال. الفن مرآة المجتمع، ولما المجتمع يبقى فيه تشوهات لازم تظهر في الفن" بهذا الرأي للفنان محمد نوح اختتم المخرج الشاب أحمد رحال فيلمه التسجيلي "شعبي" الذي نزلت تتراته مع صوت أحمد عدوية يغني: "يا دي الزمان الردي اللي كترت فيه المغنواتيّة!".
وبسبب ما يوحي به هذ الاختيار اضطر رحال - في كلا الندوتين اللتين ناقشتا الفيلم في مكتبة الإسكندرية ثم في جمعية النقاد - إلى توضيح أن هذه الخاتمة لا تعبر عن وجهه نظره في "الغناء الشعبي" بل إنه بالعكس يحب سماعه ويرى أنه اللون الغنائي الوحيد الذي يمكن القول أنه "خرج من هنا، ومن هنا فقط" على حد تعبيره، ويدعو المشاهدين إلى اعتبار خاتمة الفيلم تضم إلى جانب رأي نوح، ما سبقه من رأي الفنان مودي الإمام المختلف تمام والذي يذهب إلى أن دور هذا الفن مثل تأثير تزيين السائقين لسياراتهم يابانية المنشأ بالأشياء والكلمات التي تنتمي إلى عالمهم لتبدو في النهاية سيارات مصرية صميمة.
محمد نوح كان ممتعضا من الأشكال الجديدة من الغناء الشعبي يتذكر في حنين "الشعبي القديم" الفلكلوري أو كما عبر عنه سيد درويش، بينما كان مودي الإمام مرحبا ومتفهما لـ"الشعبي الجديد" الذي يعبر عن حياة "الشعب الجديد" وإيقاع شارعه الذي لم يتجمد عند الحالة التي سجلها باحثو الفلكلور أو عبر عنها درويش قبل عقود.
منذ أن تركت الطبقة الوسطى المصرية لما دونها وصف "شعبي" أصبح اصطلاحا يعبر عن كل شيء أقل جودة ومستوى وخارج نطاق الاهتمام والحفاوة. وطريقة تعامل نقاد هذه الطبقة مع " الغناء الشعبي" جماليا يتجاهل سؤال: جميل بالنسبة لمن؟
القليل فقط من النقاد هم من يحاولون النظر من زاوية جمهور هذا الفن: سكان محيطات العشوائيات التي كانت قبل قليل جيوبا ريفية، وحياتهم الخشنة الصعبة الجامحة مهنهم غير الرسمية غالبا غير المضمونة دائما "حبة فوق وحبة تحت". حياة اللحظة الفانية المقتنصة في لحظة فرح راقصة وغناء يندفع في مرح كما يفعل عماد بعرور أوحزن وألم يصرخ في مرارة كما يفعل عبد الباسط حمودة. أصوات مثل أصواتهم قوية وخشنة – لا مكان هنا مثلا لمصطفى قمر - وتنطق بطريقتهم التي تبدو للطبقة الوسطى طريقة سوقية. حتى الأصوات الأنثوية لها طابع مميز فيه دلال ولكن لا يفتقد بعض الخشونة: أمينة صاحبة الحنطور مثلا.
"شيال الحمول يا صغير" أو "من حق الكبير يتدلع"، تعبيرات لا مكان لها في شعبيات الطبقة الوسطى الغارقة وسط طوفان الأنغام المكررة مع مدائح وبكائيات العيون والجفون الرموش. تعبيرات الطبقة الغائبة التي لا مكان لها في الإعلام إلا ليتم السخرية منها أو الضحك عليها مثل "اللمبي"، وغنائها الغائب عن الإذاعات والتليفزيونات إلا في سياق التندر على الغناء الهابط أو "التهييس" قليلا معه. ربما لهذا السبب رفض المنتج خالد عمر التصوير في فيلم رحال ولكنه ساعده على التسجيل مع الليثي وعربي الصغير اللذين ضحك جمهور الندوتين عليهما بينما كانا يشرحان بكل جدية تفاصيل اعتنائهما بالغناء. يبدو أن خالد عمر كان يتوقع ذلك، وبسببه رفض حتى مجرد التصوير الفوتوغرافي قائلا في سخرية العالم ببواطن الأمور:"أتصوّر؟ هو إنت فاكرني اللمبي".


نشر في الشروق الأحد 31 مايو 2009
الصورة من فيلم "الفرح"

المزيد

الجمعة، ١٠ يوليو ٢٠٠٩

عن قبح وجماليات الشتائم الجنسية: إهانة المقهور أم تعرية المقدس؟



الشتائم الجنسية نتاج لثقافة فصامية تهين المرأة وتحتقر الجنس أم "جماليات لغوية" و"عشم" بين الناس ؟

عندما تحدث هيرودوت عن المصريين في القرن الخامس قبل الميلاد قال أن من عادتهم "المجون والألفاظ البذيئة الفاضحة"، وروى كيف كانوا يحتفلون بعيد الإخصاب فتخرج النساء تحمل تماثيل لرجال عضو الذكورة فيها بطول باقي الجسم، ويتغنون بإله الإخصاب أوزوريس، بينما يتبادل الرجال الأنخاب والنكات الجنسية.
يحق لنا أن نسأل هيرودوت، أو مترجم كلامه إلى العربية، كيف تكون ألفاظ معينة هي عادة لمعظم المصريين وتكون في نفس الوقت "بذيئة" أو "فاحشة"، والبذاءة والفحش لغة معناهما البعد، والألفاظ البذيئة أو الفاحشة بالتالي هي الألفاظ التي يبتعد الناس عن استخدامها.
كما يصح أن نسأل كيف تكون هذه الألفاظ "فاضحة"، وفاضحة لأي شيء، بينما تخرج أعداد كبيرة من الشعب في يوم عيد تظهر تفاصيل العلاقة الجنسية بهذا الوضوح، بل وتحتفل بها.
وبعيدا عن إجابة لن تأتي من التاريخ، فالتناقض لا زال يحكم حتى هذه اللحظة. الألفاظ الجنسية التي تنتشر في العامية اليومية لمختلف طبقات وفئات المصريين لا وجود لها في الإعلام أو الأدب والفن، الذين من المفترض أنهم يعكسون الحياة اليومية، إلا قليلا أو إشارات غير مباشرة.
هل لهذا التناقض علاقة بأن الاستخدام الأكثر كثافة لهذه الألفاظ في صيغة الشتيمة، وإن استخدمت في أغراض أخرى كالسخرية أو المبالغة مثلا؟ وهل لذلك علاقة بتحول معظم قاموس الشتيمة اليومية بين المصريين لاستخدام الألفاظ والمفردات الجنسية، "البذيئة" و"الفاضحة"؟ وما علاقة الجنس تحديدا بالإهانة والشتيمة؟ ولماذا يكون مجرد ذكر العضو الأنثوي مقرونا بالأم إهانة؟ ولماذا تصور معظم الشتائم الشائعة العلاقة الجنسية بأنها بين طرفين أحدهما فاعل وآخر مفعول به مهان ومحتقر؟ حتى أن بعض الشتائم الجنسية لا تهين إلا الطرف السلبي أو "المفعول به" في العلاقة المثلية.

ترى د. عزة عزت، أستاذ الإعلام بجامعة المنوفية، وصاحبة كتاب" التحولات في الشخصية المصرية" أنه بالرغم من أن المصريين من أيام الفراعنة قد اتصفوا بالبذاءة وسلاطة اللسان والسخرية اللاذعة والفحش في القول كما يقول المؤرخون، إلا أن المصري القديم كان يحترم المرأة والعلاقة الجنسية. وتعتقد أن استخدام الجنس في الإهانة عبر الشتائم الجنسية لم يبدأ إلا في عصور متأخرة تراجع فيها احترام المرأة، بدخول "ثقافة الحريم" وانتشار عادة اقتناء الجواري في مصر، وترجح أن ذلك كان في العصر العثماني.
انحسرت ثقافة الحريم ، وإن لم تختف كل مظاهرها، وتحسنت صورة المرأة نسبيا، ولكن الشتائم الجنسية لم تنحسر ،وهو ما يجعل د. وائل أبو هندي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق يعتمد في تفسيره على اللحظة الراهنة ليرى أن انتشار الشتائم عموما هو صدى لحالة من القهر والظروف الصعبة التي يعيشها المصريون، ويعتبر انتشار الشتائم الجنسية بشكل خاص تعبير عن "حرمان غير واعي" تجاه العلاقة الجنسية، ولكنه يخشى أن يتوهم البعض أن هذه الظاهرة عند المصريين وحدهم فيلفت النظر إلى إن هذه الشتائم ليست حكرا على المصريين بل هي عادة معظم الشعوب العربية الأخرى التي تعاني في رأيه" من نفس الحرمان".
ولكن هذه الشتائم لا تخص فقط الشعوب العربية، ولا تلك التي تعاني من الحرمان، فهي موجودة في مجتمعات تتسم بالتحرر الجنسي. وهو ما يؤكده د. محمد الرخاوي، أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، "استخدام الجنس في الإهانة لا يرجع لعوامل تخص هذا الشعب أو ذاك، هناك تعميمات في الثقافة الإنسانية تربط فعل الجنس بالسيادة والقوة من جهة الذكر والخضوع والتعرض للاختراق من جهة الأنثى، لذا فهي تستخدم في الإهانة".

ازدواجية النظر للجنس
يعود ذلك بنا إلى فكرة القهر مرة أخرى، التي تظهر هذه المرة في فعل الجنس، الذي يتصوره البعض على شكل علاقة فيها أعلى وأدنى، وقاهر مقهور. يؤكد د. حسنين كشك، أستاذ الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية على علاقة استخدام الجنس في الشتائم بفكرة القهر، ويربطه بثقافة التمييز وعدم المساواة التي تعاني منها المجتمعات العربية سواء على المستوى السياسي أو على مستوى العلاقة بين الجنسين. ويضيف " هذه الشتائم نتاج لثقافة فصامية، لديها ازداوجية في النظر للجنس، فهي من ناحية ثقافة تعاني من أزمة تتعلق بممارسة الجنس نتيجة لمشكلة طغيان العنوسة، فلا ترى في المرأة إلا موضوعا جنسيا، ولكنها من ناحية أخرى تفتقد لاحترام المرأة لنفس السبب وتتحرش بها عبر هذه الشتائم".

إذن، هل يمكن أن ننتهي إلى أن هذه الشتائم التي تستخدم فعل الجنس أو العضو الأنثوي في الإهانة هي إهانة وتحقير للمرأة، أم أن الأمر ليس أحادي الجانب، وتتدخل فيه الازدواجيه التي يشير إليها كشك. فعلى خلافه لا تعتقد د. عزة عزت أن انتشار الشتائم الجنسية عند المصريين مرده لاحتقار المرأة، ورغم أنها رأت أن بدء انتشار الشتائم الجنسية كان مع عصور انحطاط قيمة المرأة، إلا إنها مع ذلك ترى أن هذه الشتائم تخفي خلفها "تقديسا للمرأة" ، وتوضح "الشتيمة تعتمد على الإهانة من خلال انتهاك المقدس والمصون، مثل سب الدين".

قريبا من ذلك، يرى مسعود شومان، الشاعر والباحث في التراث الشعبي، "القداسة عند المصريين مرتبطة بشكل خاص بالأم، لذا فالشتائم معظمها يتعمد استخدام الأم للإهانة. بخلاف شعوب عربية أخرى تنسب الشتيمة للأخت، فتنسب مثلا العضو الأنثوي للأخت على سبيل الإهانة"، ويرى شومان أن سبب ذلك هو تجذر ثقافة "العار" عندهم، وهي التي ترتبط بانتهاك العذارى بشكل خاص، بينما شتائم المصريين التي يتعلق معظمها للأم، الإهانة فيها متعلقة بانتهاك للأم المقدسة عندهم منذ أوزوريس حتى الآن.
ولكن نفس الشتيمة الشهيرة التي يلمح شومان إليها، ذكر العضو الأنثوي منسوبا للأم، يستخدمها
د.محمد الرخاوي ليقول أن الإهانة غير متعلقة بالمرأة، بقدر تعلقها بالجنس نفسه، ويقول "هذه الشتيمة تكتفي بمجرد ذكر العضو الأثنوي منسوبا للأم بلا أي وصف أو إضافة" وهي تشترك مع الشتائم الجنسية الأخرى في أنها تقتحم وتخدش حرمة موضوعات حميمة ذات علاقة بالجنس، عن طريق الكشف والإعلان عن العلاقات الجنسية والأعضاء الجنسية، وهذا الاقتحام والكشف هو مكمن الإهانة.

لكل ذلك وغيره، فالشتائم الجنسية بالطبع لن تعدم الهجوم العنيف، فيعتبرها د. حسنين كشك انحطاطا قيميا وثقافيا، وتعتبر د.عزة عزت انتشارها انحطاطا في عامية كل طبقات وفئات المصريين، بعد أن كانت هذه الشتائم منتشرة فقط بين "السوقة". ولكن مسعود شومان يعترض "التعامل القيمي والأخلاقي مع الشتائم يفقدها كثيرا من الجوانب المهمة والدالة ومنها جماليات الشتيمة!".

معجم الشتائم
شومان، الذي يشغل أيضا منصب مدير أطلس المأثورات الشعبية، قضى فترة في محاولة لإعداد معجم لشتائم المصريين، وكان مصدره الأساسي هو المشاجرات التي كانت تتنازعه أثناء متابعته لها رغبتان: رغبة الباحث في استمرار المشاجرة ليسمع القدر الأكبر من الشتائم ويسجلها، والرغبة الإنسانية أن تتوقف وينصرف الناس سالمين. ويبدو أن وقت المشاجرات كان كافيا ليرضى رغبة الباحث، فقد تمكن شومان من جمع وتسجيل 20 ألف شتيمة متنوعة، ولكن مشروعه توقف لأنه لم يجد جهة تتعهد نشره، وبالطبع فإن للكم الكبير من الشتائم الجنسية دور كبير في ذلك.
ولكن يبدو أن حماسة شومان لمشروعه لم تفتر، فهو يرد على وصف الشتائم بالانحطاط بقوله أن لمفردات لشتائم ومجازاتها أبعادها الجمالية، كما يرى أن الإدانة الأخلاقية أو حتى التفسير الذي يتركز حول انطلاق الشتيمة من نظرة للمرأة أو الجنس هو تفسير يهدر الكثير من دلالات مفردات الشتيمة. فيرى شومان أن الشتائم الجنسية ربما لا تعبر بالضرورة عن معاني متعلقة بالجنس، فالألفاظ تفارق معناها اللغوي المعجمي إلى معنى آخر مجازي، ويضرب مثلا لذلك "المفردات المختلفة التي تستخدم في الشتيمة وتعني كلها "المثليّ جنسيا" تشير لدلالات أخرى تتعلق بالميوعة أو افتقاد الرجولة والجدية أو تشير إلى أن الشخص لا يعتمد عليه".
كما يضيف أن العديد من الألفاظ الجنسية أصبحت تستخدم في الوصف لبيان القوة أو الشدة أو التأثر أو للسخرية الشديدة، وتستخدم أحيانا في المدح كما تستخدم في الذم،"عندما نقول: فلان ده ابن كذا، يختلف معناها ودلالاتها وغرضها بحسب الموقف وطريقة النطق والسياق، الشتيمة تستحضر اللغة الانفعالية القادرة بدورها على نقل المشاعر والانفعال بشكل يتجاوز قدرة اللغة العادية المباشرة" ويضيف "وهنا تكمن جماليات الشتيمة، في كناياتها ومجازاتها وطريقة أدائها".
ولكن هل لجماليات اللغة الانفعالية للشتمية علاقة ما بالجنس، يجيب شومان "بالتأكيد، الجنس لحظة تحرر من القيود العادية ومن الوقار، ولحظة الجنس مرتبطة أيضا بالتحرر اللفظي وهناك من لا يستمتعون بها إلا بالفحش في القول". يرى شومان أن هذا الجانب الانفعالي يربط الجنس بالشتيمة لتستخدم المفدرات الجنسية في سياقات مختلفة تعبر أحيانا عن الهجوم والسخرية والمدح وربما المحبة وإظهار القرب الشديد.

من باب العشم
ولكن كيف تكون الشتائم الجنسية تعبيرا عن القرب الشديد ؟، يرد شومان "بعض الأصحاب والمقربين، يتبادلون مفردات الشتائم الجنسية في جلسات وحوارات ودية، وكأنهم يمارسون نوعا من التعري والانكشاف وإسقاط الحواجز والكلفة، ، وفي هذه الحالة يفارق لفظ الشتيمة جانب الإهانة". ويفسر شومان بذلك انتشار الاستخدام الكبير لمفردات الشتائم في النطاقات الحميمة بين العديد من الناس بعيدا عن ساحات المشاجرات.
لدى د.محمد الرخاوي انطباع آخر حول مدى انتشار الشتائم الجنسية ، فهو يؤكد أنه لا دراسات دقيقة عن اننشارها أو انحسارها، ولكنه يسجل ملاحظته أن استخدام الشتائم الجنسية عند المصريين شهد انحسارا، ورأيه يتقاطع نوعا ما مع رأي شومان عندما يقول أن تبادل الشتائم، سواء في الهزل أو في المشاجرات، كان تعبيرا عن التفريج عن النفس وعن مساحات متاحة من التعبير غير اللائق، التي يمكن تداركها بسهولة وبتسامح، فهو يرى أن جانبا من استخدامها تعبير عن نوع من "العشم " بين الناس. ويرى أن انحساراستخدامها، رغم بقائها في معجم حياة المصريين، يشير إلى غياب هذا "العشم" والتسامح، الذي حل محله الخوف المتبادل والتوتر الشديد بين الناس، فلا تمر مثل هذه الشتائم ببساطة كما كانت تمر سابقا بحسب ملاحظته.
تأكيد الرخاوي على أن بعض كلامه وليد ملاحظاته فحسب، نتيجة لعدم وجود دراسات وافية، وقوله أن الأكاديمين أصحاب "الكرافتات" عادة ما يبتعدون عن دراسة مثل هذه الموضوعات، وإشارة شومان لتوقف مشروعه البحثي لصعوبة الاتفاق مع ناشر، بالإضافة للصعوبات التي تواجه حتى الموضوعات الصحفية التي لا تستطيع ذكر مفردات الشتائم الجنسية صراحة وتضطر للإشارة إلى معانيها.. كل ذلك يشير إلى صعوبة دارسة هذه الظاهرة التي يتأرجح التعامل معها، رغم شيوعها، بين الاعتراف والإنكار، والاهتمام والتجاهل، والإدانة والتفهم.


نشر في الشروق الأربعاء 1 يوليو 2009

المزيد

الأربعاء، ١ يوليو ٢٠٠٩

عبد الوهاب المسيري

الناقد الموسوعي المجتهد .. في رحلته بحثا عن الإنسان ودفاعا عنه


في سيرته الذاتية الفكرية التي أسماها "رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر- سيرة غير ذاتية غير موضوعية" يسجل المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أنه في يناير 1998 انتهي من العمل في الموسوعة التي ارتبطت باسمه، موسوعة "اليهود واليهود والصهيونية: رؤية نقدية". ولكنه عندما يحاول تسجيل تاريخ بداية كتابتها يبدو له أمرا خلافيا، فربما كانت نقطة البدء يوم كتب أول دراساته عن الصهوينة، وربما كانت يوم ولادته باعتبار أن كل تجربة خاضها كانت جزءا من المنهج التحليلي والمعرفي الذي اتبعه في إنجاز الموسوعة "النقدية".
لا يمكن للقاريء الذي وصل إلى هذا الجزء في سيرته أن يعتبر هذه الكلمات من نوع إطراء الكتاب لكتبهم باعتبارها خلاصة تجربتهم، لأنه سيكون قد عرف فعلا كيف جعل المسيري من حياته كما يرويها رحلة لا تنفصل فيها التجربة الشخصية عن التجربة الفكرية، ولا الدراسة والوظائف التي عمل بها عن الهم الفلسفي والموقف الأخلاقي، ولا كل ذلك عن الالتزام الإنساني والسياسي في معناه الأرحب الذي يلخصه عنوان أحد كتبه: "دفاع عن الإنسان".

البذور
ولد المسيري عام 1938 في مدينة دمنهور لأسرة من "البرجوازية الريفية"، باعتبار أن دمنهور مدينة/قرية كما يصفها في سيرته. ويرى أن أثريائها كانوا مختلفين عن أثرياء الحضر في القاهرة والإسكندرية الذين أصابهم التغريب، كما كانوا مختلفين عن أثرياء الريف الإقطاعيين، وهو ما جعلهم محتفظين بالقيم المصرية والعربية والإسلامية، وأقل بحثا عن الأبهة والجاه ، وأكثر ارتباطا بالحركة الوطنية المصرية ممثلة آنذاك في حزب الوفد، الذي كان معظم أفراد هذه البرجوازية الريفية أعضاء فيه أو متعاطفين معه.
نشأ المسيري في هذا المجمع التقليدي الذي يحكمه إطار من القيم الدينية والأخلاقية والأعراف المعتبرة، وهو ما سيعود ويقرأه ويحتفى به عند نقده للمجتمع الحديث والحداثة المنفصلة عن القيمة كما يصفها.
لا ينكر المسيري مشكلات ومثالب المجتمع التقليدي، إلا أنه يؤكد على العديد من جوابنه الإنسانية، مثل سيادة قيم التراحم، التي تخفف من حدة التفاوت الطبقي والاجتماعي، ووجود ثقافة مشتركة تجمع بين كل أفراد وطبقات المجتمع، الذين كانوا يرتدون نفس أنماط الملابس ويأكلون نفس أنواع الطعام، يتعلم أبناء كل الطبقات في المدارس نفسها ويلعبون معا، وتجمعهم نفس طقوس الاحتفال في المناسبات. بالإضافة لرفض المجتمع، أثريائه وفقرائه، التبديد والاستهلاك المفرط ومظاهر الترف، والإعلاء من شأن الجدية والاقتصاد، بدون أن تظغى قيم الأنجاز والعمل على أهمية التواصل الاجتماعي. فإيقاع الحياة الأقل سرعة أتاح فسحة لإقامة روابط قوية داخل الأسرة الواحدة كما دعم التواصل بين أطراف العائلة أو الأسرة الممتدة.
ورغم احتفاء المسيري بقيم ومجتمع نشأته، إلا إنه يحدد بداية تشكل هويته الفكرية عند بدء ممارسته لـ"طقوس الانفصال". فباعتباره ابن واحد من كبار التجار في دمنهور، كان من المفترض أن يتوجه في الإجازة الصيفية إلى متاجر أبيه مثل أقرانه من أبناء كبار التجار ، إلا أنه يروي قصة اكتشافه لمكتبة البلدية التي غيرت حياته وكيف بدأت قراءاته في الأدب والفلسفة والتاريخ والفنون في سن مبكرة بتشجيع من مشرف المكتبة، ثم بتشجيع أساتذته خاصة أستاذ الفلسفة في المدرسة الثانوية. و يذكر كيف كان يحرر وحده مجلة حائط في مدرسته وهو بعد في الحادية عشرة. وشجعه كثيرا على الاهتمام بالكتابة والقراءة، نشر الصحف المحلية فورا لكل ما يرسله إليها من تعليقات ورسائل ، قبل أن يعرف لاحقا أن السبب في ذلك تشابه اسمه مع الأديب المعروف وقتها في دمنهور عبد المعطي المسيري !

وفي فترة صباه وبداية شبابه في الخمسينات، كانت الماركسية في أوج زهوها، وكانت أفكارها وكتبها تلقى رواجا نسبيا في المدن المصرية بين المتعلمين والمثقفين، وهو ما أثر على المسيري حتى قبل اعتناقه لها. فيروي كيف أنه أحال موضوع إنشاء عن حديقة المنزل وهو في السنة الثانية من المرحلة الثانوية إلى مقال عن الظلم الاجتماعي لأن منازل الفقراء ليست بلا حدائق فحسب، بل في حالة سيئة وينشأ الأطفال فيها بين أكوام القمامة. وهو ما دفع أستاذ اللغة العربية، بعد أن منحه صفرا، إلى تحذير أسرته من ميوله "الشيوعية".
في منتصف الخمسينات اعتنق المسيري الماركسية و انضم إلى الحزب الشيوعي وظل عضوا به حتى 1959، بعد أن قضى فترة تقلب وبحث كعادة أبناء جيله، انضم فيها لحزب مصر الفتاة لأيام ثم الإخوان المسلمين لفترة، كما انضم لهيئة التحرير التنظيم السياسي الوحيد بعد ثورة يوليو 1952 التي ألغت الأحزاب.
شكلت الماركسية رافدا مهما لفكر المسيري، باعتبارها اتجاها نقديا للحداثة والتنوير الغربي، ولنقدها الرأسمالية واغتراب الإنسان عن إنتاجه ورفضها للظلم الاجتماعي والاستعمار. وهي الأفكار التي سيطورها المسيري ضمن نسقه الفكري الخاص، مستفيدا من أفكار فلاسفة مدرسة فرانكفورت، ذوى الخلفيات الماركسية أيضا، في نقد المجتمع الحديث.
ومن قبل اعتناق الماركسية، ثارت في نفس المسيري الشكوك الدينية التي لم يجد لها إجابة عند من حوله سواء في المدرسة أو البيت، فتوقف عن أداء الشعائر التي تربى عليها. ولم يطلق المسيري على نفسه صفة "ملحد" مؤكدا أنه ظل يؤمن بمطلقات أخلاقية غير مادية. واعتبر بعد نقاش مع أقرانه أنه قد فقد الإيمان الساذج البسيط فحسب، وبدأ رحلة اكتشاف الإيمان الأكثر تركيبا.
ورغم أنه سيقوم فيما بعد بنقد الماركسية باعتبارها تقف على نفس الأرضية المادية داخل النموذج الغربي لتفشل في إدراك تركيب الإنسان المتجاوز للمادة. إلا أنه يقول أن الجانب الإنساني منها، الذي يرفض الاستغلال واعتبار الإنسان وسيلة، منع تجربة الشك الديني من أن تدفعه إلى هوة العدمية والعبثية والحياد تجاه الظلم الاجتماعي وإنكار أي معنى أو غاية.
ويحلو للمسيري في حواراته القول أنه كان "ماركسيا بشَرطَة" ، أي ماركسيا استثنائيا، بسبب حفاظه على البعد الأخلاقي المتجاوز للقيم المادية. وبعد تجربة استعادته الإيمان ، يشير إلى بقاء تأثيرات الماركسية في تفكيره بالقول أنه أصبح "ماركسيا على سنة الله ورسوله".

حصل المسيري على الشهادة الثانوية عام 1955، والتحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية. وحمل خلفيته الماركسة معه فكان ناشطا في الجامعة، كما أنه كان أثناء الدراسة ينقد النصوص الأدبية بالأدوات الماركسية ومن منظور التحليل الطبقي، ويحفظ لأساتذته إنصافه رغم اختلافهم مع توجهه الفكري والسياسي.
بعد تجربة قصيرة، كانت نقلة كبيرة في حياة المسيري القادم من مجتمع دمنهور التقليدي إلى مجتمع الإسكندرية متعدد الثقافات الذي كانت الجاليات الأجنبية فيه ذلك الوقت تكاد تفوق سكانه المصريين، تخرج المسيري وتم ترشيحه للالتحاق ببعثة إلى جامعة كامبريدج في بريطانيا للحصول على الماجستير، إلا أنه اختلف مع الأستاذ الذي كان من المفترض أن يساعده في الالتحاق بالبعثة وانتقد منهجه، فلم يزكه الأستاذ. وغير مساره ليذهب إلى جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1963.



الجذور
يعتبر المسيري تجربة الدراسة في الولايات المتحدة بمثابة جذور رحلته الفكرية. فقد شهدت ما يصفه بـ"مواجهة فكرية أولى" بينه، هو الذي ذهب مؤمنا بالنزعة الإنسانية "الهيومانية" والحداثة وقيم التنوير، وبين مجتمع النخبة الأمريكية الذي وجده يسخر من كل ذلك ويتحدث عن ما بعد الحداثة والعبثية و العدمية والعنف والمخدرات ومركزية الجنس.
شكل ذلك صدمة أول مشاهد المواجهة، التي أعقبتها مشاهد ومواقف عديدة يرويها المسيري في سيرته، شكلت أساسا لنقده للفكر والحضارة الغربيين، ليصل إلى أن ما بعد الحداثة و افتقادها للمركز وسقوطها في النسبية والعدمية كانت كامنة في نموذج الحداثة و ليست انحرافا عنه أو تجاوزا له. لأن الحداثة وضعت الإنسان في مركز الكون وجعلت من المنفعة المادية أساسا وحيدا للقيمة، وأنكرت الإله أو المركز المتجاوز للكون والمادة. ومهدت الطريق لإنكار كل قداسة، بما فيها قداسة الإنسان نفسه التي وضعته في مركز الكون، فأصبح الإنسان كائنا ماديا وجزءا من الطبيعة، ومن جهة أصبحت لذة الفرد المطلقة هي المركز إن كان الأقوى كما أنها يمكن أن تتحول إلى وسيلة لأهداف الأقوى، وهو ما ينتج صراع الأفراد في العالم الخالي من أي غاية، أو كما يقول توماس هوبز"حرب الكل ضد الكل". بعد تمركز كل فرد حول لذته الخاصة وتهربه من أي مسئولية اجتماعية أو تبعات أخلاقية.
شكل ذلك بداية نقده للنموذج المعرفي الغربي، مستحضرا في الخلفية المجتمع التقليدي في دمنهور بقيمه الأخلاقية والعرفية. وأصبح التأمل في المجتمع الأمريكي وتجريد نموذجه المعرفي والإدراكي،من خلال وضعه في سياق الأدب والفكر الغربيين الهم الأول للمسيري وشاغله الفلسفي. وفي العام 1979 سيكتب المسيري كتابا خاصا عن ذلك هو "الفردوس الأرضي: تأملات وانطباعات في الحضارة الأمريكية" ولكن قبل ذلك، استدعى المسيري شاغله الفكري ليجعل رسالته للدكتوراة في جامعة رتجرز تتحول من مجرد دراسة فنية في الشعر الرومانتيكي إلى نقد للحضارة الغربية. ويعتبر المسيري هذه الرسالة التي أتمها عام 1967 أول أعماله الفكرية.

ثمرة أولى
كان من المفترض أن يضع المسيري رسالته في دراسة مواضع تأثير الشاعر الإنجليزي وردزوورث على الشاعر الأمريكي وولت ويتمان، إلا أنه جعل ذلك فقط الجزء الأول من الرسالة، بينما ضمن باقي الرسالة رؤية نقدية تطرح الانفصال بين الشاعرين وكان العنوان الفرعي للرسالة: دراسة في الوجدان التاريخي والوجدان المعادي للتاريخ. وقال أن الشاعر الأول الذي ينتمي للمجتمع الإنجليزي ذي التاريخ الكبير الذي تتجاوز فيه التقاليد مع الحداثة، يحتفي بالإنسان ولحظات حزنه وفرحه وتميزه عن الطبيعة التي يحن للعودة إليها للحظات مثل لحظات شطح الصوفي، فهو يقر بوجود الإنسان في التاريخ والمجتمع وأنه لن يتحد بالطبيعة أو بالمطلق. أما ويتمان الذي ينتمي للمجتمع الأمريكي وهو مجتمع استيطاني بلا تاريخ يسقط الإنسان في قصائده في الطبيعة ويتحد بلحظة اللذة، وغالبا ما تكون لحظة جنسية، ليفقد الحدود والمسافة بينه وبينها.
في هذه الرسالة طور المسيري مفهوم "المسافة" التي تفصل بين الإنسان والطبيعة باعتبار الإنسان كائن مركب، فيه عنصر مادي ولكن فيه عناصر أخرى تجعله متجاوزا للطبيعة وذا عقل توليدي مبدع وذا مسئولية أخلاقية وحدود اجتماعية وتاريخية. كما طور مفهوم "الحلولية" التي تذيب الفارق بين الإنسان والطبيعة فتجعلهما من أصل واحد هو المادة، لتصبح هي المطلق الذي يحتوى الإنسان والطبيعة معا. أو أن تكون الحلولية في وجهها الآخر بإسقاط المسافة بين الإنسان والإله بحلول الإنسان محل الإله أو اتحاده به ليكون مطلق التصرف فينتفي معنى الأخلاق والمسئولية.
في الجزء الثالث من الرسالة قال أن التشابه "المادي" بين نصوص الشاعرين لا يكفي للقول بتأثير الأول على الثاني، بينما يؤكد تحليل النموذج الفكري لكل منهما- بحسب المسيري- سطحية القول بالتأثير والتأثر. ولكن الأهم هو انطلاقه في الجزء الرابع لنقد الحضارة الغربية التي سقطت مع ويتمان في الحلولية والهروب من التاريخ عن طريق لحظة الجنس أو اللذة.
كما بدأ المسيري في هذه الرسالة التفكير في أدواته المنهجية مثل فكرة "النموذج التحليلي" الأكثر أو الأقل تفسيرية، ففي نهاية الجزء المعلوماتي الأول من رسالة الدكتوراة قال أن تأثير
وردزوورث على ويتمان ليس إلا مجرد معلومات لا تفضي إلى حكمة. ولكنه في الجزء الثاني طور أطروحته على أساس ما أثاره شعر وردزوورث وويتمان فيه حول همه الفلسفي والوجودي، وكانت فكرة النموذج التحليلي التفسيري هي الإجابة على سؤال: هل ما أثارته القصائد عند المسيري سببه ذاتي، أي بسبب اهتمام المسيري بهذه المشكلة، أم أنه تأثير موضوعي نابع من القصائد نفسها. وكانت إجابة المسيري المنهجية، أن عقل الإنسان ليس كآلة التصوير، ولكنه عقل توليدي تفكيكي تركيبي يرتب العناصر ويختار ويستبعد، لذا فإن كل جهد عقلي لا هو بالموضوعي ولا هو بالذاتي ولكن فيه منهما، ودور الباحث والناقد و المفكر هو إبداع أو صياغة نموذج نظري يكون قادرا على تفسير المعلومات والوقائع. وباختبار هذا النموذج الفكري وقدرته على الإحاطة بالظاهرة وشموله لتفاصيلها وتجاوزه للتفاصيل بتقديم معرفة شاملة ومحيطة بها، يتبين كونه أكثر تفسيرية أو أقل تفسيرية. استفاد المسيري في صياغة رؤيته المنهجية بأفكار العقلانيين في فلسفة العلم ونظرية المعرفة، التي واجهوا بها آراء المتطرفين من التجريبيين الذين كانوا يعتبرون العقل صفحة بيضاء تكتفي بتسجيل ما يرد إليها من الحواس. لكن المسيري ربط بين نقده للحضارة الغربية ولفكرته المنهجية عن النماذج التحليلية الأكثر تفسيرية وبين رحلته مرة أخرى باتجاه الإيمان.

الدين كنموذج أكثر تفسيرية للإنسان
عندما كان المسيري يصف نفسه بأنه "ماركسي بشَرطَة" أو ماركسي استثنائي ، كان يشير إلى تبنيه رؤية مادية للكون والمجتمع، وفي الوقت نفسه تمسكه برؤى أخلاقية وجمالية لا يفسرها التحليل المادي.
هذه الازدواجية ظلت همه الفكري، وبعد أن طور مفهوم النموذج التفسيري، أحس أن النموذج المادي قاصر عن تفسير التفرد الإنساني، وأنه لا يفسر إلا جانبا وحيدا من الإنسان، وتبينه يؤدي إلى السقوط في "الواحدية"، أي رد كل العالم إلى عنصر واحد، وهو ما يعني "الحلولية".
وعلى عكس الاتجاهات المعاصرة التي تحتفي بالتصوف، خاصة فيما يتعلق بمذهب وحدة الوجود، والحلول والاتحاد. يذهب المسيري إلى اعتبار الحلولية التي ترد العالم إلى المادة هي نفسها الحلولية التي تؤله كل العالم باعتبار أن الله حل فيه. وهو يطلق عليها الحلولية الصوفية المادية، ويرى أن الحلولية التي تنكر الأخلاق هي وجه آخر لإنكار التكليف في المصطلح الصوفي بعد بلوغ الغاية والاتحاد بالإله.
في مقابل ذلك، رأى المسيري أن النموذج الأكثر تفسيرية للإنسان ولتفرده ونزوعه الأخلاقي والجمالي، هو النموذج التوحيدي الذي يحتوى على ما يسميه "ثنائية فضفاضة". وفي النموذج التوحيدي يظل الله خارج الكون مفارقا له، وهو الذي خلق كل المخلوقات ووضع الإنسان في مركز الكون وحمله الأمانة الأخلاقية. وبذلك يمكن تفسير المسافة بين الإنسان والطبيعة، عن طريق ثنائية الخالق والمخلوق من جهة، وثنائية الإنسان والطبيعة من جهة. فالإنسان الرباني (أو الإنسان/ الإنسان كما يسميه المسيري أيضا) هو الإنسان المتجاوز للطبيعة، ولكنه ليس سيدها المطلق أو هو مركز الكون، بل تم وضعه في مركز الكون وهو مستخلف فيه، يتصرف فيه مسئولا. يعيش الإنسان بين نزعتين: ربانيته وطبيعيته. "قدمه في الطين ونظره شاخص إلى السماء" بتعبير المسيري. فلا هو يستسلم للنزعة "الجنينية" أي العودة إلى الطبيعة ليكون جزء منها، ليتحد بلحظة لذة متحررة من المسئولية، ولا هو يطمح أيضا إلى الاتحاد بالمطلق، ولكن يظل المطلق (الله) هو نقطة ارتكازه التي تضمن افتراقه عن الطبيعة وامتيازه عنها.
الله إذن هو ضامن وجود الإنسان/ الإنسان أو الإنسان الرباني وبدلا منه تنحصر الرؤية في الإنسان/ الطبيعي الذي يمكن تفسيره فقط من خلال العوامل المادية والمعادلات الكمية الرياضية.
الدين إذن، وتحديدا الدين التوحيدي، الذي يضع المسافة بين الخالق وخلقه، وبين الإنسان والطبيعة، هو النموذج الأكثر تفسيرية للإنسان عند المسيري.
وكما روي المسيري كيف كان لقصيدة للشاعر كامل الشناوي تتساءل عن معنى وجود الإنسان والغاية منه، كان قرأها شابا في مجلة الرسالة الجديدة، كيف كان لها أثرا كبيرا في تفكيره الديني آنذاك، فإنه يفرد مساحة كبيرة ليشارك قراء سيرته تأملاته الدينية حول الله والإنسان من خلال قراءة وتأمل شعر كوليردج وكيتس وردزورث وويتمان وأندرو مارفيل. ويؤكد على أن دراسته للأدب التي جعلته يتأمل الإنسان في تركيبه وخصوصيته وتفرده كان لها أبلغ الأثر في عودة إيمانه بالإنسان والله.
يروي المسيري ذلك في فصل "من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان" ويقول أنه بالإضافة لدراسته للأدب وهمه الفلسفي، فإن تأملاته في الإيمان كانت بشكل أساسي من خلال التأمل في الإنسان وحياته، في عمومه وخصوصه، من خلال تجربته في دمنهور ثم في الولايات المتحدة، وعبر العديد من المواقف والمشاهد التي لم يتركها المسيري تمر إلا وحاول أن يتأمل من خلالها الإنسان ويتساءل إن كان يمكن للنموذج المادي أن يفسر سلوكه فيها.
ويقول أن كل ذلك جعل عودته للإيمان بالله تمر أولا عبر عودة إيمانه بتفرد الإنسان أو بمصطلح المسيري "إنسانية الإنسان" التي تظهر في الاجتماع والحس الديني والجمالي والأخلاقي، وهي المظاهر التي يعجز النموذج المادي عن تفسيرها والإحاطة بتجلياتها.
فالنموذج المادي ينتهي إلى ما يسميه المسيري "الإنسانية الواحدية" التي تجعل الإنسان فردا نمطيا من نوع، تسري عليه كل قوانين عامة فيمكن تفسير سلوكه والتنبؤ به والتحكم به مثلما يفعل الإنسان نفسه مع الطبيعة التي تتشابه كل جزئياتها وتسري عليها قوانين مادية صارمة لا مجال فيها للفردية والتفرد. أما الإيمان بتجاوز الإنسان لعالم الطبيعة/ المادة فيؤدي إلى ما يسميه "الإنسانية المشتركة" التي تمثل الجانب المشترك بين الأفراد وهو ما يمكنهم من التواصل معا، ولكنه لا يغفل تفرد كل إنسان نتيجة لإرادته الحرة التي حباه الله إياها.
ويؤكد المسيري أيضا على أن النموذج المادي في فهم الإنسان رغم قصوره عن الإحاطة بجوانبه إلا أنه دائما ما يظهر وكأنه منقسم على نفسه، فمن جانب يود الوصول إلى يقين مطلق في فهم ظاهرة الإنسان، وهو ما يظهر في الإيمان بقدرة العلم والتقدم على تحقيق السعادة المنشودة وإقامة الفردوس الأرضي كما في طموحات مرحلة الحداثة، ومن جانب يؤكد هذا النموذج على النسبية الشاملة التي تنكر إمكان أي معرفة حقيقية، كما في يأس مرحلة ما بعد الحداثة. أما النموذح الإيماني، وتحديدا الإسلامي، فيرى المسيري أنه في مجال المعرفة يطرح مفهوم "النسبية الإسلامية" التي تجعل للإنسان حيزا من المعرفة يمكنه من خلالها السعي في الأرض ولكنه يقف دون بلوغ اليقين المطلق. وفي فترة لاحقة سيظل المسيري يضيف في خاتمة مقالاته عبارة "الله أعلم" تأكيدا على رؤيته في النسبية الإسلامية. النسبية التي تعني الاجتهاد وفق الحيز المتاح دون تصور الإحاطة الكاملة. وهذا سيتدخل أيضا في تطوير المسيري لمفهوم "التحيز" الذي يجمع فيه بين أداة "النموذج الإدراكي" ومفهوم "النسبية الإسلامية" مؤكدا أن على أن كل إنسان، وكل ثقافة، ترى العالم من خلال نموذج إدراكي يحدد هذه الرؤية، فلا وجود للموضوعية الكاملة ولا الذاتية الكاملة، ولكن في النموذج الإدراكي يرى الإنسان أو أفراد مجتمع منتمين لثقافة معينة العالم من منظور ما. ويرى المسيري أن هذا النموذج الإدراكي يحتوى على تحيزات ما لا يمكن التخلي عنها، ولكن يمكن تجاوزه عبر إدراكه بهدف إدراك حدود معرفة الإنسان وتطوير هذه الحدود.
وفكرة التحيز سيطورها المسيري باتجاهين، الأول إدراك التحيزات الكامنة في المنظور الغربي للعالم منكرا أنها الرؤية الإنسانية الوحيدة الممكنة ولو سادت، وهو ما عبر عنه في كتابه " العالم من منظور غربي" الذي نشره عام 2001، أما الاتجاه الثاني فهو إدراك التحيزات التي يتضمنها منظور عربي إسلامي يمكنه رؤية العالم بشكل مختلف. والمسيري في هذا يتابع مرة أخرى جهود بعض فلاسفة العلم الذين يؤكدون أنه لا نظريات العلوم الاجتماعية ولا حتى نظريات العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء تخلو من التحيزات الفلسفية والتصورات النظرية المسبقة التي يأتي بها العالم من خلفيته الثقافية والاجتماعية. وفي عام 1993 اشترك المسيري مع مجموعة من الباحثين في إنجاز موسوعة تتناول إشكالية التحيز في العلوم ومجالات المعرفة المختلفة وصدرت تحت عنوان "إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد" وكان المسيري محررها الرئيسي، كما كتب مقدمة الموسوعة التي صدرت بعد ذلك في كتاب مستقل حمل اسم "فقه التحيز".

دراسة الصهيونية والموسوعة
في جامعة روتجرز بالولايات المتحدة التي حصل منها على الدكتوراة أسس المسيري مع زميل له أول ناد للفكر الماركسي هناك ، وكانت أول أنشطته محاضرة ألقاها عن الصراع العربي الإسرائيلي من منظور طالب عربي تقدمي. الاهتمام بدراسة الصهيونية لم يكن بعيدا عن ذهن المسيري دارس الأدب، بل كانت دراستها برؤية نقدية وفي إطار تحليلي معرفي جديد هي طريق المسيري في تعبيره عن انحيازه واجتهاده في القضايا التي يشعر نحوها بالالتزام والمسئولية.
ودفعته حماسته للقضية الفلسطينية مع تصاعد الخطر الصهيوني في الستينات إلى طلب تحويل بعثته من دراسة الأدب الرومانتيكي إلى التخصص في الصهيونية، إلا أن الرد من المسئولين جاءه بـ" أن يكف عن الجنون" ورفضوا رفضا قاطعا بسبب التعقيدات البيروقراطية لتحويل مسار بعثة دراسية. إلا أن المسيري استمر في اهتمامه بجهد شخصي بالتوازي مع دراسته، وربما كان ذلك من حسن الحظ، فهو يروي في سيرته كيف كانت دراسته للأدب سببا في تطوير منهجه في دراسة الظواهر الإنسانية وتحليل الخطاب السياسي والكشف عن جذوره المعرفية.
وبالتوازي مع تحولاته الفكرية والفلسفية تطورت دراسته للصهيونية، فبدأ بإصدار كتيب بالإنجليزية صدر عام 1969 في الولايات المتحدة بعنوان "إسرائيل قاعدة للاستعمار الغربي" ولم يتعامل الكتيب مع إسرائيل والصهيونية إلا على المستوى السياسي من منظور يساري.
وبعد انتهائه من الدكتوراة التي طور فيها توظيفه لمفاهيم "نهاية التاريخ" و"الحلولية"، كتب دراسة أكثر معرفية عن الفكر الصهيوني نشرت عام 1972 بعنوان "نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني". وكانت الفكرة المركزية هي أن التصور اليهودي للإله لا ينزهه عن البشر والمادة، كما أنه يظل إله بني إسرائيل على وجه الخصوص، وهو ما يؤدي إلى حلول الإله في الشعب ليصبح القومي هو المقدس والمقدس هو القومي، ويصبح الهدف القومي بالعودة لأرض الميعاد هو نفسه الهدف المقدس الذي يشهد نهاية التاريخ.
وأثناء كتابة المسيري لـ"نهاية التاريخ" كان يضع هوامش لأسماء المصطلحات والأعلام والأماكن والفرق والمذاهب ذات الصلة باليهودية أو الصهيونية، وبدأت هذه الهوامش في التضخم، فقرر أن يضمها معا في ملحق للكتاب، إلا أن الملحق تطور إلى كتاب ثم إلى مشروع موسوعة صغيرة من جزء واحد صدرت عام 1975 بعنوان "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية". وفي أثناء عمل المسيري في الكتاب ثم الموسوعة الصغيرة لاحظ أن المصطلحات المتعقلة بموضوعه ليست مصطلحات موضوعية بل وراءها نموذج إدراكي وتحيزات كامنة مثل مصطلح "الشعب اليهودي" الذي يضم كل يهود العالم في شعب واحد، بينما رأي المسيري ان التعبير الأدق هو "جماعات يهودية" لأن كل منها كان له سياق مختلف داخل مجتم مختلف ولم يكن الاشتراك في الديانة يعني كونهم شعبا واحدا. وبذلك بدأ المسيري "تفكيك" وتحليل الظاهرة والكشف عن تحيزات خطابها، لتتبعد موسوعته عن أن تكون عملا معلوماتيا رصديا.
كان المسيري قد بدأ العمل باحثا في مركز الدراسات السياسية و الاستراتيجية في الأهرام، وهو الذي نشر كتابه "نهاية التاريخ" عام 1972 قبل انتصار أكتوبر 1973، ولكن الأمر تغير بعده بعد اتجاه الدولة المصرية لعقد اتفاقية السلام مع إسرائيل، فلم تلق موسوعة 1975- كما يسميها المسيري تمييزا لها عن الموسوعة الشهيرة- اهتماما من مسئولي المركز، بل وجد منهم مماطلة في نشرها، ولم يقم المركز بعد طبعها بأي دعاية لها، بل تم طبعها ووضعها في المخازن. وبعد رحلة أخرى للولايات المتحدة عاد المسيري منها عام 1979 حاول المسيري أن يجد دعما لتطوير موسوعة 1957 وتحديثها، ولما لم يجد بدأ العمل في ذلك على نفقته الخاصة، وتفرغ لها تماما وأقام وقتها بين القاهرة والرياض، وعين مجموعة من الباحثين للعمل معه فيها.
في مشروع الموسوعة الموسعة، تجاوز المسيري طابع التفكيك في موسوعة 1975 التي كشفت عن النماذج الكامنة خلف الظاهرة الصهيونية وخطابها، واتجه إلى التركيب عبر نماذج تفسيرية تضع الظاهرة في إطار شامل يفسرها. فنظر المسيري للخلفية الدينية للظاهرة في الدين اليهودي ومذاهبه، واستخدم رؤيته لدور الدين كإطار تفسيري مركب للإنسان، وخاصة النظرة للإله والمطلق والتاريخ في الأدبيات اليهودية. كما وضع الظاهرة الصهونية في إطار الحضاري باعتبارها جزءا من الظاهرة الغربية، ووضع التأييد الغربي والتقبل لمقولات الصهيونية الغربية في إطار "العلمانية الشاملة" في الغرب- وهو المصطلح الذي سيطوره في مقابل العلمانية الجزئية الإنسانية – وفي إطار النموذج المادي المنفصل عن القيمة، إلا قيمة القوة. كما نظر لظواهر مثل العنصرية والنازية التي عانى منها اليهود باعتبارها ظواهر لها جذورها في الفكر الغربي، الذي يفتقد للمركز الأخلاقي فيمجد القوة و الترشيد المادي وينمط الإنسان، لذا فهي ليست نشازا عن هذا الفكر مجمله كما يرى المسيري وليست انحرافا عنه. وبالتالي نظر للصهيونية التي تم دعمها بوعد بلفور وبالقوة الاستعمارية قديما وحديثا، باعتبارها حلا من نفس نوع المشكلة لأنه تابع لنفس النموذج الفكري .
كما استخدم المسيري مفاهيم جديدة في التعامل مع الظاهرة مثل "الجماعات اليهودية" بدلا من الشعب اليهودي الواحد، كما استخدم نموذج "الجماعة الوظيفية" وهو المفهوم الذي طوره المسيري ليصف الجماعات التي تعيش على هامش مجتمع ما لتؤدي وظائف إما مميزة مثل المهام العسكرية بالنسبة للمماليك أو محتقرة مثل الربا بالنسبة لليهود في المجتمعات العربية والإسلامية. ثم استخدمه لتفسير أحوال هذه الجماعات وتفسير تعرضها للعنصرية الفجة ثم تلقيها للتعاطف الكبير والدعم فيما بعد نقلها وتوطينها في فلسطين.
انتهى عمل المسيري في موسوعة " اليهود واليهودية والصهيونية" عام 1998،لتصدر عام 1999 بعد أكثر من 33 عاما من أول بحث كتبه عن الصهيونية. ورغم قلقه المتكرر من التهام الموسوعة ودراسة الصهيونية لحياته وهو الذي يريد إنجاز العديد من المشروعات الفكرية الأخرى، إلا أنه مع تقدم العمل في الموسوعة بدأت روافد فكره كلها تتضافر في الموسوعة، لتخرج إلى النور متضمنة جانبها الموسوعي المعلوماتي ولكن في إطار نظري تحليلي وتفسيري صاغه مفكر لم يقنع بموضوعية التلقي عن الواقع، ولكنه تبني "الاجتهاد" كمنهج يطمح لرؤية الواقع وتفسيره في كليته، بل واعتبر الاجتهاد أحد جوانب إنسانية الإنسان وخاصة عقله التوليدي الذي يمكنه تجاوز الظواهر إلى التفسير من خلال إبداع النماذج والأفكار.

لم يسترح المحارب
.الأصداء الواسعة للموسوعة التي كفلت للمسيري مكانة بارزة في الفكر العربي، وخروجها إلى النور بشكل يرضى طموح المسيري الفكري والفلسفي، لم يقنعاه بالتخلي عن طموح بلورة رؤيته الفكرية وإبراز جوانبها الأخرى عبر مشروعات أخرى منفصلة ، بعد أن طبقها بشكل ما وتناول من خلالها موضوعات الموسوعة.
كتب المسيري مجموعة من الكتب في هذا السياق، منها "اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود" عام 2002 ثم حاول التدخل كعادته بالتفكيك والتركيب في إشكالية لا يزال يدور الفكر العربي حولها ويرددها اجترارا وهي إشكالية العلمانية،ليكتب في العام نفسه " العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية" ليفرق بين الأولى التي تتبني النموذج المادي في الحياة العامة والخاصة وتمثل رؤية نهائية للمجتمع، وبين الثانية التي يسميها أيضا العلمانية الإنسانية أو العلمانية الأخلاقية التي تفصل الدين عن الدولة فحسب، ولكن يظل الدين والأخلاق وقيمهما حاكمين للرؤية العامة للمجتمع ولغاياته وقيمه.
وقبلهما اهتم المسيري بتسجيل سيرته الذانية والفكرية التي صدرت طبعتها الأولى عام 2000.
لم ينس المسيري الشعر، هواه الأثير دراسة، فكتب ديوانا واحدا بعنوان " أغاني الخبرة والبراءة" نشر عام 2003، كما نشر عددا من قصص الأطفال، لم يتخل فيها عن رؤيته الاجتهادية، فأعاد كتابة قصص نمطية مثل سندريللا وذات الرداء الأحمر وغيرها في إطار جديد بحيث تدور في العصر الحديث دون أن تفقد أسطوريتها، وتدخل لتفكيك ما رآه تحيزات غربية ومادية في قصص الأطفال النمطية، لتنتهي قصة سندريللا مثلا بطلب الأمير الزواج منها ليس لأن الحذاء ناسب قدمها أو لأنها رائعة الجمال، ولكن لأنه رآها مثقفة واسعة الخيال!
كما واصل المسيري حتى أواخر أيامه كتابة مقالات تشتبك مع قضايا الرأي العام أو تتناول ظواهر معاصرة بالتحليل فكتب عن التيشيرت والفيديو كليب والحجاب المعاصر وحتى الجدل الذي صاحب انتقال عصام الحضري حارس مرمى النادي الأهلي إلى نادي سيون السويسري!
وعلى الصعيد العملي، لم يقنع المسيري بدور المثقف الموسوعي والمفكر الكبير الذي ينظر للمجتمع من عل، بل انخرط كعادته في الشأن العام، رغم ضيق وقته وتتالي طموحاته ومشاريعه البحثية والفكرية ورغم إصابته بسرطان الدم. فكان من مجموعة مؤسسي حزب الوسط ذي الاتجاه الإسلامي، الذي لم يرخص له حتى الآن، كما كان من مؤسسي الحركة المصرية من أجل التغيير"كفاية" التي حركت المياه الراكة للسياسة المصرية عام 2004، ثم أصبح منسقها العام في 2007.
وقبل أشهر من رحيله عن عالمنا في يوليو 2008، لم يكن غريبا بالنسبة لمن يعرفون المسيري أن يروه، وهو الذي يناهز السبعين وقد اشتد عليه مرضه، واقفا بجانب الشباب في مظاهرة أو وقفة احتجاجية رمزية، فقد كان يرى أن الرمز والمجاز ليسا فقط مجال تجاوز الإنسان للحدود الضيقة وسطوة الواقع، بل وطريقة في التعبير عن إيمانه بما هو أفضل.


كتبت هذا المقال كمشاركة في ملف كانت تعده مجلة "القافلة" السعودية عن المسيري بعد وفاته مباشرة، ولم ينشر بسبب سوء تفاهم حول الاتفاق على المساحة المخصصة.

المزيد