السبت، ١٨ يوليو ٢٠٠٩

شعبي

من الفرح وإليه



تتغير بسرعة وخفة أحوال عالم الغناء الشعبي وأسماء نجومه ووسائط انتقال إنتاجه إلى الجمهور من الحفلات إلى الدي جيه من الكاسيت إلى مشغلات ملفات الموسيقى الإلكترونية المنتشرة على الإنترنت. ولكن تظل الأفراح الشعبية التي تجمع صناع الفن ومتلقيه في صوان واحد في لحظة احتفالية وأريحية هي صانعة الإيقاع الشعبي ومؤشر تحولاته وهي منطلق ومنتهي الراغبين في الصعود أو المتشبثين بمكانهم على المسرح.

"والآن! مع المطرب صاحب شريط كاسيت "قلب أناني"، نجم الأغنية الشعبية ونجم مسارح القاهرة. مع النجم الفنان أحمد سيف ".
يتقدم أحمد سيف ليلتقط الميكروفون من زميله الذي قدمه وهو يحييه بحركة من يده، ثم يلتفت ويحيي جمهور الفرح الذي يبدأ من أمام المسرح الصغير المحاط بصوان المناسبات ويمتد حتى نهاية الحارة الضيقة التي تقع في قلب قرية "منشية دملو" القريبة من بنها، بالإضافة لجمهور البلكونات وبعض من افترشوا الحصير في الدور الأول من بناية قريبة تحت الإنشاء لا تزال دون حوائط.
ولأن بعض الجمهور كانوا لا يزالون أصلا خلف ظهر المطرب على المسرح يلتقطون أنفاسهم من رقص الفقرة السابقة، فإن المطرب أحمد سيف طلب منهم النزول قليلا عن المسرح للحظات، حتى يتمكن من الوصول للعروسين إيهاب وسحر.
فقرة أحمد سيف هي الأخيرة في فقرات فرقة "شروق" التي تحيي الفرح، والتي يبدو علي مطربيها وعازفيها خيبة الأمل بسبب عدم تجاوب معظم الجمهور معهم. ازدحام المسرح يرجع فقط إلى ضيقه وضيق الحارة، فهو بالكاد يضم الفرقة مع عدد قليل من المجاملين بالرقص والنقوط.
لذلك حاول أحمد سيف أن يقنع العروسين بالنزول من المسرح أملا في تجاوب أكبر من الجمهور المتمسك بمقاعده. واستعان لذلك بأغاني متنوعة قديمة وجديدة.
ولكن جمهور الراقصين ظل هو نفسه، بينما معظم الجمهور المكون من أسر ريفية يغلب عليه المحافظة. هو فرح "عائلي" باستثناء بعض الشباب المتجمعين في حلقات يقومون بالرقص و"التشكيل" المميز. ويرتاحون قليلا ويغلقون دائرتهم قليلا لتدخين سجائر الحشيش. مجموعات من البنات المحجبات الخجولات المنزويات والمكتفيات بالتصفيق. واحدة منهم فقط كانت تصعد إلى المسرح لتشارك العروس الرقص. وقد يبدو غريبا أن الأكثر مشاركة في الرقص وتواجدا على المسرح هم السيدات الأكبر سنا، بحجابهم السابغ وعباءاتهم الفضفاضة أو بالجلاليب الريفية النسائية المميزة الفضفاضة أيضا. يشاركهم الرجال الأكبر سنا مع بعض الشباب. كل من يصعد على المسرح، رجالا ونساء، يلف حول وسطه إيشارب أو كوفيه ليظهر مهارته في متابعة الإيقاع.
ما يقدم في الفرح من مشروبات يختلف كثيرا عن "الممنوعات" التي تقدم الأفراح الشعبية في عشوائيات المدن فصواني الشاي التي تدور بين المعازيم قد تبدو غريبة بالنسبة لفرح، ولكن يبدو أنها تساعد أبناء الريف الذين لا زالوا يستيقظون مبكرا للعمل في كل تلك الغيطان التي تحيط منازل القرية ويبدو أنهم غير معتادين على السهر.
في الميكروباص الذي جمع أعضاء فرقة "شروق" ليعود بهم إلى بنها، أخذ المطربون والعازفون يتندرون على الفرح الريفي الغريب. وعلق أحمد سيف ضاحكا :"جو الفرح مش متعاون أبدا. المفروض إن إحنا باند كبير وقديم، من كام سنة كان في بنها أكثر من 25 باند. بعد ما الشغل قل بسبب الدي جيه مش فاضل منهم غير ثلاثة أو أربعة".
يضيف أحمد سيف :"باند "شروق"- على اسم بنت مدير الفرقة- قدرت تستمر لأنها حققت صيغة ترضي جميع الأطراف. نغني الشبابي أو الشعبي ونعزف شرقي وغربي. لو حد عاوز يسمع ويتسلطن نسمعه، ولو عاوز يرقص نرقصه" ويضحك وهو يضيف "ولو كانت الليلة خربانة مافيش مانع .. نخربها برضه!"
ويبدو أن خلطة "شروق" ناجحة، ففي بداية الفرح حافظوا على التقليد المعاصر بسماع أسماء الله الحسنى، وإن كان بصوت حمادة هلال لا بصوت هشام عباس، ثم عزفوا موسيقى احتفالية غربية مع دخول العروسين ومع شربهما العصير. وتنوعت بعد ذلك أغانيهم بين أغاني وردة وعدوية و بين أغاني نجوم اللحظة في عالم "الشعبي": عبد الباسط حمودة ومحمود الحسيني ومحمود الليثي. وفي أوقات ذروة الرقص تعلو أسهم "ثنائي العنب" عماد بعرور وسعد الصغير.
لا توجد أغاني خاصة بالفرقة، وحتى أحمد سيف لم يغن شيئا من أغاني شريطه خوفا من السرقة: "الشريط لسه ما نزلش السوق. والأغنية اللي تطلع هاتلاقيها تاني يوم في فرح تاني وعلى الإنترنت".
ولكنه يذكر بآخر أغنية غناها في الفرح، "أنا عيني منك" لعمرو السعيد، قائلا ان هذا اللون تحديدا هو ما يفضله:"أنا أحب اللون الشعبي اللي فيه طرب وشجن وفيه برضه مزيكا ترقص، ومعظم أغاني شريطي من النوع ده".
على خلاف أحمد سيف، معظم المطربين الشعبيين تشتهر أغانيهم في الأفراح أولا قبل تسجيلها ومعظمهم لا يفكر كثيرا في ملكيته لأغنية أو لحن. فالغناء الشعبي فن غير مرتبط كثيرا بصناعه وأسمائهم التي تظهر وتخبو سريعا، ولكن اتجاهاته تتحول سريعا مع اتجاهات ومزاج الجمهور. فالأغاني يعاد صياغتها ويضاف إليها ارتجالات في الأفراح التي تعتبر جزءا مهما من عملية انتاجها واختبار ملائمتها لذوق الجمهور.
ولذلك على الفرقة التي تحيي أفراح الطبقات الشعبية أن تتعلم التجاوب والتأقلم. يحكي أحمد سيف أنهم كل ليلة يعيشون جوا مختلفا، فمرة يكونون في فرح عائلة ميسورة نسبيا في فندق أو نادي في بنها أو المنصورة، ومرة في شارع ضيق وسط جمهور غير مبال بهم أو محافظ غير متجاوب. أو في صوان كبير وسط جمهور غير راغب إلا في السكر والغياب عن الوعي ويضيق بأي غناء أو موسيقى تبعده عن هذه الحالة أو وسط جمهور راغب في سماع وأداء التحيات والنقوط طوال الليل.
فرح "جمعية"
من التقاليد المعاصرة أن بعض الليالي والأفراح تقام بغرض جمع النقوط، وتسمى "فرح جمعية" وصاحبها يعطي الفرقة أجرا ثابتا ويطالبها بإعطائه كل النقوط لتساعده في الأقساط أو لتغطي تكاليف الفرح نفسه. وبعض الفرق الشعبية لا تعتم بالغناء بقدر ما تهتم بوجود "نوبتجي" ماهر وحلو اللسان يمكنه أن يحييّ بطرق مبتكرة تستحث المعازيم وأهل الواجب على النقوط. ساعتها يكون الغناء مجرد فواصل بين فقرات التحية التي تلي النقوط التي يسجلها مساعد "النوبتجي" في كراسة إعلانا أنها واجب سيرد إلى أصحابه في أقرب وقت.
ولكن "المعلمين" وكبار العائلات العريقة الشهيرة أو أصحاب المزاج ويعلنون أنهم لا يحتاجون نقوطا ويكرسون الليلة للغناء والانبساط ، وقد ينفقون الكثير في استقدام بوفيه متخصص لتقديم مأكولات وخمور وأحيانا ما يمتد الكرم إلى توفير باقة متنوعة من المخدرات لأصحاب المزاج، مستغلين الاتفاقية العرفية السارية بين أبناء المناطق الشعبية والشرطة التي تقضي باعتبار صوان الفرح "منطقة حرة"، تماما مثل كون بساط الموالد "أحمدي" والخطايا متجاوز عنها في حضرة الوليّ.
لمثل هذه الأجواء حرص أحمد سيف على وجود أغنيتين "فقر" - على حد تعبيره- في شريطه الجديد، فسجل أغنية عن "البتنجان" تمشيا مع موجة الغناء للخضروات، بالإضافة إلى أغنية يعدها مع المنتج خالد عمر عن الأتوبيس المكيف ستكون على نفس لحن أغنية "الحنطور" لأمينة.
عند هذه النقطة يرجع أحمد سيف ليحكي أن مساره كان مختلفا، فهو بدأ مع فرقة قصر الثقافة في شبين القناطر حيث يسكن، وشارك في الغناء في مسرحيات تجريبية بمسارح الدولة ومع فرقة "الأحلام" لتقديم التراث في الأوبراولكن بعد أن اختلف مع المصنع الذي يعمل به فني معامل حصل على إجازة مفتوحة بدعوى إصابة قدمه. وبدأ العمل مع فرق الأفراح المشهورة في الدلتا، في البداية كان يغني اللون الشبابي لإيهاب توفيق ومحمد فؤاد ولكن الذوق تغير وفرض على الفرق أداء اللون الشعبي.
وأثناء أدائه لهذا اللون أعجب به أحد متعهدي المطربين وقدمه إلى خالد عمر مهندس الصوت والمنتج من شركة "صوت الطرب" في إمبابة لينتج له شريطا. ورغم أنه ينفق من مدخراته على الشريط الذي لا يتوقع أن يجني من مبيعاته أرباحا كبيرة إلا أنه يأمل أن يتم توزيعه جيدا سواء في منطقة الدلتا و في القاهرة، وأن تنتشر أغنياته بين مشغلي الدي جيه وعلى الإنترنت لكي يطلبه متعهدو الأفراح و يحيي أفراحا أكثر.
قد يسلك الغناء الشعبي مسارات مختلفة مثل الكاسيت أو الدي جيه أو الإنترنت في رحلته بين منتجيه وجمهوره إلا أنه يظل دائما ينطلق من الأفراح لينتهي في الأفراح، حتى وإن كان غناء حزينا.



ماركة مسجلة:
"أنا القتيل يا حاج عمر .. يا خالد عمر يا عينيّ"

قبل سنوات، كانت شرائط الكاسيت الشعبية هي روح السوق الكبير في إمبابة. ضجيج الأصوات المتداخلة لأجهزة الكاسيت الكبيرة الموضوعة على أرفف أكشاك بيع الخضر والفاكهة كان يتداخل مع أصوات الأجهزة الأكبر في محلات بيع شرائط الكاسيت التي كنت تراها بكثافة بين كل مجموعة أكشاك. وفي منتصف شارع السوق تماما كانت الأنوار الملونة ليافطة شركة "صوت الطرب"- أكبر شركات إنتاج وتوزيع الكاسيت آنذاك- لا تنطفيء ليلا أو نهارا فوق محل المركز الرئيسي للتوزيع وكأنه مايسترو الأوركسترا الشعبي، التي لم تتحكم فقط في إيقاع السوق بل إمبابة كلها والعديد من المناطق الشعبية في كل أنحاء مصر.
الآن، لا تزال الأغاني تصدح ولكن اختفى جهاز الكاسيت تقريبا، وحل محله على أرفف الأكشاك وفوق طاولات الفرشات سماعات منفصلة وجهاز مشغل موسيقى MP3 Player لا يحتاج بالطبع لأشرطة، ولكن تكفيه ملفات الأغاني التي يأتي بها أحدهم من الإنترنت أو يشتريها على اسطوانات من الشاب جابر الواقف عند تقاطع شارع السوق مع شارع الجامع. جابر هو الوحيد تقريبا الآن الذي يبيع بعض شرائط الكاسيت بجانب الاسطوانات التي تعد عمله الرئيسي.
محلات بيع الكاسيت التي كانت تملأ السوق وإمبابة اختفت، وصار الكاسيت تجارة جانبية في فرشات بيع أشياء أخرى. وأصبح من الصعب جدا أن تعثر على يافطة شركة "صوت الطرب". اليافطة لا تزال موجودة والمحل الكبير الذي كان مركز التوزيع الرئيسي للشركة لا يزال موجودا، ولكن اليافطة توارت خلف صوان ممتد أمام المحل الذي يمتليء الآن بجلابيب وملابس داخلية نسائية، ويجلس أمامه باستمرار مالكه، ومالك "صوت الطرب" الحاج عمر يدخن الشيشة ويتابع سير العمل.
"الحاج عمر" أصبح اسما مركبا لا ينفصل بعد أن ردده هكذا مطربون شعبيون في أغانيهم في الأفراح أو في التسجيلات التي صدرت في الكاسيت تحية لمنتجهم الذي قدمهم إلى العالم ويوالي إنتاج شرائطهم.
من شعبان عبد الرحيم الذي أنتج "الحاج عمر" أولى شرائطه، فظل شعبان يحييه ويذكر اسمه دائما ضمن أسماء أهل الفرح ودافعي النقوط الذين يحييهم، وإلى المطرب الشاب محمود الليثي الذي يغني أغاني تستعير تيمات من الإنشاد والذكر، فيذكر الحاج عمر في سياق خاص عندما يضيف اسمه وسط شعر عمر بن الفارض فيقول : "أنا القتيل بلا إثم ولا حرج.. أيوه أنا القتيل... أنا القتيل يا حاج عمر .. أنا القتيل يا حاج !"
ولكن محمود الليثي في أغانية الأخيرة يضيف تحية مختلفة: "يا خالد يا عمر... يا خالد يا عمر يا عينيّ". خالد عمر هو ابن الحاج عمر الذي لا يتجاوز عمره 28 سنة، ولكنه الذي يتولي الآن هندسة الصوت وإدارة الإنتاج في شركة "صوت الطرب" ولكن بصيغة أخرى تناسب تراجع أحوال الكاسيت.
في شقة بدور أرضي بشارع جانبي في شارع القومية العربية بإمبابة يجهز خالد عمر استديو جديد خاص به ويجلس أمام الكمبيوتر يراجع أغاني الشريط الجديد للمطرب أحمد سيف ويعطيه ملاحظاته.
يتوقف خالد عمر ويلتفت عند سماع اسم محمود الليثي ويقول:"لازم يحييني طبعا، أنا اللي قدمته وطلعته وعملت له سكة وقلت له اركبها. مش مصدقني ؟"
يعود إلى الكمبيوتر ويبحث قليلا قبل أن يشغل شيئا ويقول :" ده راوي قصص اسمه سعد اليتيم يغني في ليلة من مولد الدسوقي قصة اسمها "أحلام والباشا". اسمع!". يغني سعد اليتيم موالا: "الست لما تكون عاوزة تعيش بتعيش. ما دام تحب الراجل لو نامت معاه على خيش. لا يوم تقول جابلي ولا جابليش.(ثم يدخل الإيقاع) الست لما .. لما لما لما "- وهذا المقطع هو نفسه في أغنية شهيرة لليثي يغنيها بأسلوب قريب- يواصل صوت سعد اليتيم من التسجيل "منور يا أستاذ عمر يا غالي..يا ابن القاهرة يا حلو"، فيبتسم خالد عمر ويوقف الأغنية ويقول: "أنا قلت لمحمود الليثي اشرب الأسلوب ده وخد السكة دي".

يذهب خالد عمر كمهندس صوت لليالي الذكر والإنشاد الخاصة بمشايخ الإنشاد المشاهير مثل ياسين التهامي والشيخ عيون أبو عامر ويحتفظ بتسجيلاتهم التي كانت تنتجها أحيانا "صوت الطرب". ويذكّر بأن قصيدة ابن الفارض التي يغنيها التهامي وتتضمن "ما بين معترك الأحداق والمهج.. أنا القتيل بلا إثم ولا حرج"، هو الذي عرّف الليثي عليها ليقتبس منها في أغنيته التي اشتهرت بـ"القتيل".
الاقتباس وإعادة الإنتاج سمة مميزة في عالم الغناء الشعبي. هناك أريحية في التعامل مع إنتاج الآخرين.وسواء أثناء الارتجال في الأفراح أو استنادا لمؤلفين كلمات وملحنين يتم تعديل الألحان والكلمات بالإضافة والحذف.
مثلا، أغنية "العنب" الشهيرة- التي ربما تعود أصولها لفلكلور ما- أول من غنتها هي المطربة شفيقة وكانت بإيقاع بطيء فلاحي: "جاب لي العنب يا أما.. قطف لي حبه اللي استوى. شلت العنب يا أما .. من خوفي عليه من الهوا" وهي الأغنية التي غناها عماد بعرور بعد إضافته لمقدمة تمدح الحشيش ثم يرتفع الإيقاع الراقص مع تكرار كلمة العنب. والتقطها سعد الصغير وأضاف مقدمة مختلفة "فكهاني وبحب الفاكهة". ولم يفت الليثي أن يغنيها أيضا في أحد شرائطه مضيفا "يا محلى عناقيدك وإنت حلاوتك بناتي.. يا شمعدان يا منور ومزين تكعيباتي".

يواصل خالد عمر :"لكن الليثي طلع معايا قليل الأصل لما اشتهر وغنى أغنية "فلوس" في فيلم "كباريه". طلب مني العقد علشان يخلص أمور قانونية مع السبكي وقطّع العقد. خلاص بقى. أول ما جاني كان ما يقولش إلا "يا عم خالد" وبيغني الفرح كله بـ 150 جنيه. دلوقتي بيطلع فقرة ساعة في الكونراد وياخد 15 ألف جنيه".
في البداية- كما يقول خالد عمر- الكل مستعد للبصم بالعشرة. "مش عيب إنك تبدأ صغير" ويحكي عن بدايته هو نفسه على دراجة بها حمالة يدور بها بشرائط الشركة على بائعي الكاسيت في إمبابة ثم في القاهرة كلها. وبعدها بدأ يذهب إلى الأقاليم التي يقول أنه يعرف باعة الكاسيت فيها من أسوان إلى سيناء. وهكذا بدأت خبرته في عالم الكاسيت.
ولكن بدأ خالد عمر الدخول في عالم الإنتاج بعد تعرفه على شاب اسمه أحمد الأسمر يقيم مع أهله في حجرة صغيرة في شارع الجامع. "كان غلبان وعامل في شركة قطع غيار سيارات، لكن صوته كان بيفكرني بصوت طارق الشيخ" يقول ذلك وملامح وجهه تعبر عن الانبهار عند ذكر اسم طارق الشيخ الذي يحتل مكانة مميزة في سوق الغناء الشعبي الدرامي الحزين.
يحكي خالد أنه تبنى أحمد الأسمر فنيا وأتي له بأفكار أغاني ومؤلفين وملحنين وأصدر له شريط "يا حبيبي": "أغنية يا حبيبي كسرت الدنيا وهي أصلا كانت فكرة بسيطة مني، كنت أنا وأحمد خارجين من سينما ريفولي فدندنا بلحن: تارارارا. فقلت له نعمل أغنية كلها الجملة دي فكانت: "يا حبيبي – تارارارا – يا ناسيني –تارارارا- هاتجيني – تارارارا ... وهكذا كلمة واحدة وجملة تارارارا التي يدخل الكورس فيها بآهات".
إنتاج الغناء الشعبي ربما يتميز ببساطة وعفوية وخاصة في اللون السريع المرح الراقص، أو كما يطلق عليه خالد عمر: "الهنك". ولكنه قد يتميز أيضا بجدية وتعبير صادق خاصة في الأغاني الحزينة، مثل "أنا مش عارفني" لعبد الباسط حمودة التي لفتت الانتباه وتجاوزت شهرتها جمهور "الشعبي" إلى غيره.
حظى أحمد الأسمر بفترة نجومية ثم انطفأ نجمه، ليصعد خالد عمر بمطرب آخر هو غرام المصري الذي غنى "أنا نازل يا سعاد خلي بالك من الواد" وحظى بفترة رواج وعندما انحسر رجع إلى وظيفته كسائق وقد يحيي فرحا بين شهر وآخر.
باستثناء أسماء قليلة، فإن عالم الغناء الشعبي حاليا يسيطر عليه "الإفيه" والأغنية الواحدة التي تستحوذ على اهتمام الجمهور لفترة بمرحها أو مرارتها فترفع نجم صاحبها إلى السماء لفترة قبل أن ينزل مع صعود واحد آخر بأغنية أخرى.
المطربين قد يعودون إلى مهنهم الأصلية، ولكن إنتاج الكاسيت في زمن الإم بي ثري والإنترنت لم يعد تجارة رابحة. ورغم أن التكنولوجيا أفادت الشركات أيضا فاستغنت عن كثير من الموسيقيين واستبدلتهم ببرامج التأثيرات الموسيقية وفنون هندسة الصوت، إلا أن تكلفة أجور الملحنين والمؤلفين وطباعة الكاسيت تشكل عبئا على الشركات. لذلك فخالد عمر يعتبر عمله الرئيسي هندسة الصوت، التي تعلمها من ملاحظته لتسجيل أغاني شريط أحمد الأسمر رغم أنه لم يكن قد بلغ العشرين بعد كما أنه لم يتم دراسته الابتدائية، وأصبحت تلك مهنته الأساسية بعد ما فترت وتيرة الإنتاج.
قد يقوم بين فترة وأخرى بإنتاج شريط لمطرب ولكن بشرط أن يتحمل هو التكاليف، وكل مطرب يختار أن يطبع أغانيه على شريط أو يستلمها من خالد عمر على مجموعة إسطوانات ليحاول أن يصنع شهرته على الإنترنت أو من خلال تشغيلها في الدي جيهات. وفي هذه الحالة يكون دور خالد عمر بالإضافة لهندسة الصوت هو أن يقود المطرب إلى ما قد يحقق له "الخبطة" التي تمنحه بريق الشهرة. أو بتعبير خالد عمر: "ملكتي اللي ربنا إداهاني وهي سبب أكل عيشي إني أعرف أسوق المطربين للي ينفعهم وياكل مع الناس وهو ده فن الإنتاج".



"يا أهل الله ياللي فوق .. نظرة للي تحت"

"شوف يا رحّال. الفن مرآة المجتمع، ولما المجتمع يبقى فيه تشوهات لازم تظهر في الفن" بهذا الرأي للفنان محمد نوح اختتم المخرج الشاب أحمد رحال فيلمه التسجيلي "شعبي" الذي نزلت تتراته مع صوت أحمد عدوية يغني: "يا دي الزمان الردي اللي كترت فيه المغنواتيّة!".
وبسبب ما يوحي به هذ الاختيار اضطر رحال - في كلا الندوتين اللتين ناقشتا الفيلم في مكتبة الإسكندرية ثم في جمعية النقاد - إلى توضيح أن هذه الخاتمة لا تعبر عن وجهه نظره في "الغناء الشعبي" بل إنه بالعكس يحب سماعه ويرى أنه اللون الغنائي الوحيد الذي يمكن القول أنه "خرج من هنا، ومن هنا فقط" على حد تعبيره، ويدعو المشاهدين إلى اعتبار خاتمة الفيلم تضم إلى جانب رأي نوح، ما سبقه من رأي الفنان مودي الإمام المختلف تمام والذي يذهب إلى أن دور هذا الفن مثل تأثير تزيين السائقين لسياراتهم يابانية المنشأ بالأشياء والكلمات التي تنتمي إلى عالمهم لتبدو في النهاية سيارات مصرية صميمة.
محمد نوح كان ممتعضا من الأشكال الجديدة من الغناء الشعبي يتذكر في حنين "الشعبي القديم" الفلكلوري أو كما عبر عنه سيد درويش، بينما كان مودي الإمام مرحبا ومتفهما لـ"الشعبي الجديد" الذي يعبر عن حياة "الشعب الجديد" وإيقاع شارعه الذي لم يتجمد عند الحالة التي سجلها باحثو الفلكلور أو عبر عنها درويش قبل عقود.
منذ أن تركت الطبقة الوسطى المصرية لما دونها وصف "شعبي" أصبح اصطلاحا يعبر عن كل شيء أقل جودة ومستوى وخارج نطاق الاهتمام والحفاوة. وطريقة تعامل نقاد هذه الطبقة مع " الغناء الشعبي" جماليا يتجاهل سؤال: جميل بالنسبة لمن؟
القليل فقط من النقاد هم من يحاولون النظر من زاوية جمهور هذا الفن: سكان محيطات العشوائيات التي كانت قبل قليل جيوبا ريفية، وحياتهم الخشنة الصعبة الجامحة مهنهم غير الرسمية غالبا غير المضمونة دائما "حبة فوق وحبة تحت". حياة اللحظة الفانية المقتنصة في لحظة فرح راقصة وغناء يندفع في مرح كما يفعل عماد بعرور أوحزن وألم يصرخ في مرارة كما يفعل عبد الباسط حمودة. أصوات مثل أصواتهم قوية وخشنة – لا مكان هنا مثلا لمصطفى قمر - وتنطق بطريقتهم التي تبدو للطبقة الوسطى طريقة سوقية. حتى الأصوات الأنثوية لها طابع مميز فيه دلال ولكن لا يفتقد بعض الخشونة: أمينة صاحبة الحنطور مثلا.
"شيال الحمول يا صغير" أو "من حق الكبير يتدلع"، تعبيرات لا مكان لها في شعبيات الطبقة الوسطى الغارقة وسط طوفان الأنغام المكررة مع مدائح وبكائيات العيون والجفون الرموش. تعبيرات الطبقة الغائبة التي لا مكان لها في الإعلام إلا ليتم السخرية منها أو الضحك عليها مثل "اللمبي"، وغنائها الغائب عن الإذاعات والتليفزيونات إلا في سياق التندر على الغناء الهابط أو "التهييس" قليلا معه. ربما لهذا السبب رفض المنتج خالد عمر التصوير في فيلم رحال ولكنه ساعده على التسجيل مع الليثي وعربي الصغير اللذين ضحك جمهور الندوتين عليهما بينما كانا يشرحان بكل جدية تفاصيل اعتنائهما بالغناء. يبدو أن خالد عمر كان يتوقع ذلك، وبسببه رفض حتى مجرد التصوير الفوتوغرافي قائلا في سخرية العالم ببواطن الأمور:"أتصوّر؟ هو إنت فاكرني اللمبي".


نشر في الشروق الأحد 31 مايو 2009
الصورة من فيلم "الفرح"

هناك تعليقان (٢):