الجمعة، ٢٦ فبراير ٢٠١٠

"هانكلمك كمان أسبوعين !"


لخمس سنوات تأخرت النهاية السعيدة لمسلسل مقابلات الاختبار من أجل الحصول على وظيفة، ولذلك قرر مايكل محسن أن يدوّن حلقات تجربته مع "الإنترفيوهات" التي استمع في نهايتها دائما للجملة الخالدة: هانكلمك كمان أسبوعين!

أول ما دخل مايكل مكان انتظار المتقدمين إلى وظيفة في وزارة الاستثمار، قدر سريعا عدد المتنافسين. ثم أخبر من حوله أن المسئولين بالتأكيد سيقومون بعمل مقابلات جماعية حتى يمكن أن ينتهوا من مقابل هذا العدد الضخم.
أبدى بعضهم تعجبه وتشككه وضيقه من لهجته الواثقة. ولكن بعد قليل خرج أحد المسئولين عن تنظيم المقابلات وأخبر الشباب أنهم سيدخلون إلى قاعة الاختبار مجموعات لإجراء المقابلة. ساعتها عرف زملاء مايكل محسن أنهم أمام خبير في شئون "الإنترفيو". يحكي مايكل في الحلقة الأربعين من مغامراته في الإنترفيوهات على مدونته أن بعضهم اقترب منه وأخذ يسأله عن الأسئلة المتوقعة وإجاباتها النموذجية!
أطلق مايكل على نفسه في حلقات إنترفيوهاته لقب "العميد" نظرا لخبرته المديدة في مقابلات الاختبار التي يبدو أنها تجاوزت المائة، كتب مايكل في مدونته ما يقترب من نصفها قبل أن يجمعها في كتاب صدر حديثا بعنوان "وظيفة ما تمت".
منذ تخرجه عام 2005 من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، لم ينجح مايكل في الحصول على وظيفة. من الطبيعي أن يلومه البعض وأن يتخيل البعض الآخر أنه كسول أو مقصر، ولكن أصدقائه المقربين الذين سمعوا منه حكاياته في المقابلات وضحكوا من تفاصيلها الطريفة لم يجدوا نصيحة له إلا أنه من الضروري أن يكتب هذه المغامرات.

وجها لوجه
يقول مايكل: "على الإنترنت هناك المئات من المواقع بالعربية والإنجليزية تحدثك عن طريقة كتابة سيرة ذاتية وكيف تجري مقابلة اختبار ناجحة. ما هي الأسئلة المتوقعة والمعتادة والردود النموذجية عليها. ولكن يبدو أن المشاكل في مكان آخر".
يحكي مايكل أنه أعد العدة جيدا. أرسل سيرته الذاتية إلى كل الشركات والجهات التي يعرفها. أرسلها أيضا إلى عدد من مواقع التوظيف على الإنترنت. ونتيجة اجتهاده في ذلك حظى بكل هذا العدد من الإنترفيوهات. يقول أنه شعر أن بعض الإنترفيوهات كانت شكلية، لإتمام اجراءات مسابقة توظيف. والبعض الآخر كان يديرها أشخاص يكررون الأسئلة التقليدية ويتلقون بالتالي الإجابات التقليدية بدون اهتمام حقيقي. كثير من الجهات كانت تطلبه بعد الإطلاع على سيرته الذانية ليجد في النهاية أن المتاح هي وظيفة مندوب مبيعات بأجر زهيد وشروط عمل سيئة وهو ما لم يقبله مايكل.
في بعض الأحيان الأخرى، بدأ يكون ملاحظات عن بعض الشركات التي تطلب موظفين بمعدلات كبيرة مقارنة بعدد العمالة فيها. ومع بعض الوقت اكتشف أن هذه الشركات تعتمد على تشغيل شباب جدد لفترة قصيرة بمرتبات زهيدة ثم الاستغناء عنهم لتلافي الالتزامات والتعاقدات وزيادة المرتبات.
مع مرور الوقت - والمقابلات - يحكي أنه أصبح ضليعا في التعامل مع معظم التفاصيل، يعرف مسبقا معظم الأسئلة ويجيب بطلاقة وبلا عناء. ولكن مع الوقت أيضا أصبح من يجرون معه المقابلات يسألونه عن سبب عدم حصوله على وظيفة كل هذا الوقت، ولماذا لم يعمل إلا فترات قليلة استثنائية كفترات تدريب. بعضهم كان خشنا وفظا وبدأ في إعطائه دروس عن الجدية والتركيز.
تخصصه الأساسي هو العلوم السياسية والفرعي هو إدارة الموارد البشرية، وبسبب ذلك تعرض أكثر مرة لمواجهة انطباع عنه أنه يبحث عن "أي شغل". ولكنه لا يبحث عن شغل محدد ولم يختر مجالا محددا استجمع مهاراته ومتطلباته وركز جهوده عليه. لا ينكر مايكل جانبا من ذلك، ولكنه في النهاية يعتقد أنه اجتهد من خلال كورسات ودورات تدريبية ليمتلك المهارات الأساسية للمهام الإدارية التي تقدم لنيلها.

"كلمني عن نفسك !"
بخلاف الأسئلة التقليدية عن المؤهل والخبرات السابقة ومعلومات المتقدم عن الوظيفة،من المفترض أن مسئولي الموارد البشرية يريدون التعرف أكثر على بعض طباع وميول المتقدم. عادة ما تقال أسئلة للتعرف على جوانب شخصيته. يحكي مايكل أن الأمر أحيانا يشبه جملة "كلمني عن نفسك!". وفي بعض الأحيان يطلب من يجري معك المقابلة ذكر مجموعة من إيجابياتك وسلبيات.
يضحك مايكل: " في إحدى المرات، في مقابلة لشركة تقدم خدمات لها علاقة بالبورصة، ذكرت مجموعة من سلبياتي. ثم قلت في الإيجابيات أني أحب النظام والهدوء. فما كان من المسئول أن أخبره بحزم أن كل ما أتحدث عنه هو نقاط ضعف!". برر المسئول كلامه بأن الشركة تضطر دائما للعمل في ظروف ضاغطة، ويجب على الموظف أن يكون قادرا على العمل وسط فوضى وصخب.
هناك عوامل أخرى تتدخل في الاختيار، في بعض المقابلات سئل مايكل عن وظيفة أبيه وأمه وعن دراسة أخته، وعن بعض التفاصيل التي تخص استهلاكه: مثل تملكه لسيارة. وأحس مايكل أن الأسئلة تهدف للتعرف على مستواه الاجتماعي والطبقي.
للمظهر دورا هاما لا يخفى على خبير مثله. ولذلك يحرص مايكل على أن يرتدي بدلة كلما أمكن ذلك، أو على الأقل قميص وكرافتة. وفي إحدى المرات قرر أن يتخلى عن الكرافتة. وفي وزارة الاستثمار جلس أمام مجموعة من الخبراء والمسئولين الذي اهتموا بشكل كبير بتفصيلة أنه لا يرتدي كرافتة وتحدثوا عن قلة جديته واستهتاره من قبل النظر في سيرته الذاتية أو الحديث معه.
خرج مايكل من هذه المقابلة يعرف أن الأمر تجاوزه، وإذا كان مسئولو وزارة الاستثمار قد أعطوا تفصيلة في مظهره كل هذا الاهتمام، فإنه قرر عند خروجه فتح قميصه حتى بطنه وتشمير أكمامه، تيمنا بنجم الجيل تامر حسني!

"شرط جزائي ليه؟ هادرب ريال مدريد؟"
يمكن للبعض أن يتهم مايكل أحيانا بالتشدد في اختيار فرصة جيدة. ذلك لأنه رفض معظم الفرص التي أتيحت له بسبب رفضه لطرق عمل رآها لا أخلاقية، لأنها تعتمد على الرشاوي، أولرفضه شروط عمل متعسفة. بعض الشركات تطلب توقيع الموظفين على شروط جزائية تقضي بدفعهم مبالغ كبيرة إذا قرروا الرحيل من الشركة بعد أن تلقوا تدريبا فيها، بينما نفس التعاقد لا يتضمن أي حقوق له أو أي مسئولية على الشركة إذا استغنت عنه في أي وقت. في إحدى المقابلات التي عرف أن الأمر سينتهي فيها بهذ الشكل أجاب بأنه لا يفهم أمر الشرط الجزائي لأنه لن يكون مدرب نادي "ريال مدريد" الأسباني ! يقول مايكل:" ربما يراني البعض متصلبا أو مستغنيا، رغم أن هذا غير صحيح، إلا أنني بالفعل أفضل ألا أجد وظيفة على قبول هذه الشروط المجحفة".

في مقابلات أخرى، يحكي مايكل أنه شعر وكأنه في مكتب داخل مباحث أمن الدولة. سأله مدير إحدى الشركات عن دراسته للعلوم السياسية وإن كان له أي ميول سياسية، فأجاب بأنه غير منتم لأي تيار، سأله عن سبب عدم انضمامه للحزب الوطني لكي يمكن أن يحظى بفرص أكثر. ولما أجاب أنه غير مقتنع بسياسات الحزب الوطني، امتعض المدير وقال له: شكلك مشاغب من بتوع المدونات. وعندما أجاب بصراحة أنه فعلا يدون ولكنه غير مهتم بالشأن العام. لم يخفف ذلك من ضيق وامتعاض المدير الذي أنهى المقابلة بالجملة الخالدة التي سمعها في نهاية كل إنترفيو: "هانكلمك كمان أسبوعين".
في مقابلة أخرى لنيل وظيفة مع شركة أجنبية، عرفت موظفة الموارد البشرية البلجيكية أنه مدون. وكان ذلك وقت اعتقال عدد من النشطاء والمدونين وسط أحداث اعتصام نادي القضاة في 2006. وتسبب ذلك في توجس الموظفة التي اندهش أيضا من نصيحتها له بأن ينضم للحزب الوطني، وبالطبع طارت الوظيفة !

"بتتناول يا مايكل؟!"
من المتوقع أن يتقبل مايكل أن بعض الشركات لن ترغب في توظيفه لأنه مسيحي. هو ورفاقه بتيادلون النصائح حول هذا النوع من الشركات ليوفروا جهدهم. ولكنه يبدي دهشته من أن يجد في إعلان عن وظيفة في فرع مصري لشركة إماراتية يشترط أن يكون المتقدم مسلما !
ولكن العكس أيضا يحدث. فبعد تقدمه لشركة كبيرة في مدينة 6 أكتوبر، لاحظ أن معظم أسماء العاملين قبطية، وبعد أن أنهى المقابلة لنجاح كبير طلبوا منه الانتظار لمقابلة أخرى.في المقابلة الأخرى لم يتحدث مايكل عن أي شيء يخص الوظيفة، بل سئل إذا كان يمارس طقس التناول في الكنيسة وإن كان يشارك في أنشطتها، إذا كان عضوا في فريق ترانيم أو حرص على السفر ضمن رحلات الكنيسة!
يقول مايكل: "طبعا لاحظت هذه المجموعة من الشركات التي لا تدقق فقط في ديانتك، بل أيضا في كونك ملتزما وتسألك عن تفاصيل ذلك. هذا موجود وسط المسلمين والمسيحيين أيضا".
يتحدث مايكل أن شركة أخرى طلبت منه العمل كمندوب مبيعات، وعندما رفض طلبوا منه ترشيح واحد آخر وأضاف المسئول: "بس عاوزين واحد تاني زينا". أجاب مايكل مستغربا: "زينا إزاي؟" وعندما جاءت الإجابة: "مسيحي". أجاب مايكل: "لا عندي واحد صاحبي مسلم مناسب للوظيفة ، ينفع؟". ولم تحبطه الإجابة التي يعرفها مسبقا.


نشر في "الشروق" الخميس 25 فبراير 2010
PDF
رسم: وليد طاهر
المزيد

عهد أبديّ مع أربعة جدران أم استراحة في طريق الغد


الجدل حول خيارات السكن، لا يعكس فحسب القدرات الاقتصادية وحالة سوق العقارات، ولكنه يعكس أيضا قيم وأفكار حول الاستقرار والتغيير، التفاؤل بالمستقبل أو الحذر منه، الحماس لمعركة مع الحياة من أجل مستوى أفضل أو الرضا بما هو أبسط.

كعادة يومية، يصلي الحاج عمر سعد الظهر في المسجد القريب من منزله ثم يتوجه إلى قطعة الأرض التي اشتراها من زمن بنصيبه من ميراث أبيه. قطعة الأرض بحي الملك فيصل التي ظل سورها القصير يعلن لفترة طويلة أنها "ليست للبيع" تمتلي الآن بالعمال الذين ينفذون الأساسات. حصل الحاج على مكافأة نهاية الخدمة وأضافها إلى بعض المدخرات لكي يبدأ في بناء عمارته الخاصة . أول ما يصل الحاج في موعده اليومي يأمر له المقاول بكرسي وشاي ليجلسا معا ويتابعا أحوال البناء.
لا يمر يوم إلا ويأتي سمسار يسلم عليهما ويعرفهما بنفسه ويحاول الاتفاق مع الحاج بشأن تسويق شقق العمارة التي تحظى بموقع جيد، ولكن كلهم يفاجئون بتشبثه برأيه: " أقول لهم أن العمارة كلها لأولادي الخمسة وأولادهم من بعدهم. كان حلمي دائما أن أبني لهم بيتا خاصا بهم، يغلقونه عليهم. وضعت أساسات تكفي لأدوار كثيرة ولكن ما معي الآن سيغظي تكاليف يناء دور لكل واحد منهم. وهم وشطارتهم فيما بعد".

لا يحب الحاج عمر أن يتطرق الحديث إلى ابنه المهندس ياسر، الوحيد من بين أبنائه الذي يرفض السكن في العمارة الجديدة بعد انتهائها :"كل أولادي فرحوا بالأمر، وأحدهم متزوج سيبيع شقته في مدينة الشيخ زايد ويأتي للسكن وسط إخوته. ولكن ياسر شاب صغير وهو الآن سعيد باستقلاله وبعده عنا. لكن أكيد سيكبر ويعرف معنى لمة العائلة".

"أنا عندي الآن 27 سنة" يضحك ياسر، مهندس الكمبيوتر، وهو يقول أن أباه دائما يراه شابا صغيرا مراهقا، وربما لهذا السبب تحديدا فضل أن يسكن مع صديق له في مدينة 6 أكتوبر. في البداية تعلل ياسر ببعد المسافة وإرهاق العمل في الشركة التي تقع أيضا في 6 أكتوبر، لكن الواقع أنه أحب الحياة في المدينة الجديدة بكل ما تحققه له من حرية واستقلال وخصوصية، وبدأ صدره يضيق ببيت الأسرة والحجرة المشتركة وعين الأب والأم والأشقاء: "أبي يحن لبيت العائلة الذي تربى فيه في القرية. طبعا هناك أمان ودفء وأشياء كثيرة جميلة. ولكني لا أعتقد أنه يجب لكي أحصل عليها أن أظل ملتصقا بأبي وأمي. أبي يرعاني ويساعدني رغم كل شيء ورغم عدم رضاه عني أحيانا. لكن العمل في مدينة بعيدة والسكن وحدي أو مع صديق في شقة إيجار جديد تجربة أدفع ثمنها بعمل قاس لعدد ساعات طويلة. ولكني أريد أن أحظى بحرية وخصوصية وأتمتع بمستوى من الهدوء والنظافة والعيش وسط أناس أشعر بالتجانس معهم كما يشعر أبي بالتجانس الآن مع أهالي حينا وجيراننا".

بين ياسر وأبيه جدل دائم منذ انتقل للسكن في 6 أكتوبر منذ سنتين، والآن تجدد الجدل بسبب عزمه على الزواج. وتباحثهما معا في خيارات السكن المتاحة. تفضيلات وقيم معينة تحكم توجه كلا منهما. الأب يريد توفير الأمان والاستقرار في مستوى اجتماعي يراه معقولا وجيدا، تقريبا هو ذاته نفس المستوى الذي عاشت فيه الأسرة. في حين يبحث الابن عن بعض المغامرة والتطلع إلى مستوى اجتماعي مختلف وبعض الرفاهية والخصوصية والحرية ولا مانع من التنقل.

معايير مختلفة
بسبب "مفاوضات" الزواج دخل على خط الجدل أيضا خطيبته وأبوها وأمها. ياسر وخطيبته يعملان معا في نفس الشركة في مدينة 6 أكتوبر. دخلهما الجيد نسبيا يكفل لهما إيجار شقة في مكان متميز وجيد هناك. الأم تريد أن يسكنا في "مكان قريب" بينما 6 أكتوبر "بعيدة" ومتعبة لزوجين حديثين في رأيها. يطيش صواب ياسر عند سماع عبارات مثل "قريبة وبعيدة". فهما يقضيان معظم حياتهما في العمل ومن المناسب جدا أن يسكنا هناك. والد خطيبته لا مشكلة لديه في القرب والبعد ولكنه يفكر في "الاستقرار" ويريد أن يحجز ياسر شقة تمليك أو إيجار قديم لكي تحظى ابنته بـ"مكان مضمون" على حد تعبيره. يحاول ياسر ألا يطيش صوابه عند مناقشة أمر "المكان المضمون" الذي سيكلفهما مقدما باهظا أو أقساط كبيرة ربما تطيح باستقرارهما المالي، خاصة أن كلاهما- هو وخطيبته- يسدد أقساط سيارة حديثة.

"الغريب أن والدها يبدو أقرب قبولا للسكن في عمارة أبي في فيصل وهي منطقة متواضعة المستوى مقارنة بالأحياء التي أقترح السكن فيها في 6 أكتوبر بنظام بخيار الإيجار الجديد" يتعجب ياسر فهو يبدو أكثر قبولا للمنطق الذي يلزمه بأن يختار شقة في مستوى اجتماعي أفضل وفي مكان جميل ويبدو مستقبله أفضل من أحياء القاهرة والجيزة المزدحمة التي تعاني الآن بالفعل من التكدس والازدحام ومشكلات النظافة والتلوث: "خيار الإيجار الجديد بالنسبة للأجيال الأكبر كأنه الجحيم. بينما أراه جزءا من نظام حياتنا الجديد. إذا كنت في وظيفة جيدة جدا وأحوالي ممتازي سأسكن في حي راق لمدة 3 أو 5 سنوات وأستمتع. بدلا من أن أدفع مبالغ باهظة كمقدم أو أضطر للاعتماد كلية على أهلي. سأستغل باقي دخلي في أقساط سيارة وشراء أثاث جميل. إذا تعثرت الأحوال قليلا بعد سنوات أنتقل إلى مستوى أقل قليلا، لا مشكلة. قد تتاح لي فرصة شراء شقة تمليك وأنا مستريح. وإن لم يحدث لا أظنها مشكلة. لا مانع من بعض المغامرة والقلق في الحياة ، قد يدفعنا ذلك للأحسن".

تتخذ المغامرة وجها آخر مع أحمد حسان، المهندس المدني، الذي يتعرض لموقف شبيه. هو أيضا مقدم على الزواج، وصارح أهل خطيبته أن لديه سيولة تكفي لتملك شقة، ولكنه يستعد لاستثمار أمواله في مجال المقاولات لأن عمله كمهندس في شركة لا يلبي كل طموحه. ظن أن هذا الكلام سيرفع قدره عندا والدها. إلا أنه فوجيء به يرد عليه: "هذا مشروعك أنت الشخصي، ولكن الشقة التمليك ستحقق استقرارا دائما لابنتي. كما أن شراء العقارات استثمار يعود بالنفع عليكما". يفكر أحمد أن التفكير في الاستثمار في شراء العقارات يعكس حالة اجتماعية من الخمول وعدم الرغبة في المغامرة: "المشروعات الأخرى تدر دخلا أعلى إن نجحت وتحقق ذاتك وتثري خبرتك بدلا من الاستسلام لوظيفة نمطية والارتكان على استقرار يحققه لك شيء تملكه، وفي النهاية بدلا من أن تبادر وتشتغل وتغامر، تضع نفسك تحت رحمة سوق العقارات الذي ربما ينقلب عليك مع أي ركود".

قبول فكرة التنقل أو السكن لمدة محدودة تبدو الآن إما قريبة من أشخاص مغامرين طموحين. ولذلك لا يزال نظام الإيجار القديم موجودا ليلبي الرغبة في الاطمئنان على مكان السكن وسط تغيرات الحياة والعمل غير المضمونة بالنسبة لكثيرين ممن يبدون في موقع دفاعي عن حياتهم ويريدون أن يغلقوا باب "معركة السكن" ليتفرغوا لغيرها.
من هؤلاء حازم عبد الله، موظف الموارد البشرية بشركة استثمار عقاري: "أعتقد أن لدي طموحا كبيرا. ولكني لا أستطيع ان أقول أني وجدت طريقا حتى الآن لكي أسير فيه إلا قبول هذه الوظيفة أو تلك بفوراق قليلة في الدخل. لدي بعض المدخرات لا ترقى لشراء شقة تمليك. أقساط التمليك فوق قدرتي. أبحث عن شقة بنظام الإيجار القديم، ستكون حلا وسطا تحقق بعض الاطمئنان والراحة".
بين حازم وخطيبته الصيدلانية جدل آخر. فهو يبحث عن شقة في أحياء تراها هي متواضعة مثل الهرم وفيصل. بينما تفضل هي أن يغامرا بعض الشيء ليتملكا شقة في إحدى المدن الجديدة أو الضواحي. هو يفضل ألا يسيطر قلق الأقساط على حياته، المغامرة بلا ارتكان على شيء قد تجعله فيما بعد أقل قدرة على المغامرة فيما يخص حياته المهنية، فيقبل بأي وظيفة أو يكون مقيدا في التنقل بسبب خوفه من موعد القسط: " في المستقبل ربما تتضح الأمور أكثر وربما نفكر فيما هو أحسن. أما الآن فأنا غير متفائل بالفرص المتاحة ولا يمكنني أن أجعل نفسي مدينا وأجعل من المكان الذي أعود إليه، لأغمض عيني وأريح أعصابي، أحد مصادر القلق والتوتر. الحياة عندي أبسط من ذلك ".


نشر في "الشروق" الخميس 18 فبراير 2010
PDF
تصوير: فيليب شباليك
المزيد

الاثنين، ١٥ فبراير ٢٠١٠

أكبر من مستطيل أخضر و90 دقيقة


مع تطور أشكال الاهتمام بكرة القدم وتجاوزه حدود الملعب ووقت المباراة، تتقاطع تفاصيل عالم اللعبة الأكثر شعبية مع نمط حياة محبيها على اختلافهم لتشكل كل مرة مزيجا مختلفا. وأمام الانتقادات التي تواجه اهتمامهم وتراه مبالغا فيه، يرى المحبون في محبوبهم ما لا يراه العواذل !

بعد انتهاء مباراة نهائي كأس الأمم الأفريقية التي حسمها هدف "جدّو" لصالح المصريين يصف أشرف الشريف، مدرس العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، شعوره بقمة النشوة التي أراد أن يحتفظ بها خالصة لنفسه ولذلك توقف عن الرد على أي مكالمات لفترة، خاصة من أصدقائه "المثقفين"!
بينه وبينهم جدل كبير متجدد بسبب اهتمامه البالغ بكرة القدم الذي قد يتعرض أحيانا لانتقادهم ويضطره للدفاع أو شن هجوم مضاد: "هجوم المثقفين والسياسيين على كرة القدم واحتقارهم لها أساسه (قصر ديل). الكرة بضاعة رائجة ومحبوبة وبضاعتهم في الثقافة والسياسة راكدة".
أشرف ليس فقط مهتم مولع بالكرة ومدافع شرس عنها ولكنه أيضا مشجع أصيل للنادي الأهلي وعضو نشط في واحد من أكبر منتديات محبيه، ومشاركته الفعالة دفعته لأن يصبح أحد مشرفي المنتدى. ولأنه أيضا مثقف وأكاديمي فإنه مضطر لتوضيح سبب اهتمامه وولعه بكرة القدم، على الأقل أمام رفاقه من المثقفين والأكاديميين الناقدين: "كرة القدم بالنسبة لي مثل الموسيقى والسينما والأدب. فن له جمالياته ولغته. الكرة ليست تعويضا عن شيء آخر ولكن فيها دراما ترضي شغف ما عند كل إنسان: الانتماء والانحياز والقلق والترقب، تحمل الهزيمة والتمسك بالأمل وانتظار الانتصار ثم الاحتفال به والشعور بالتفوق".
في كتابه "كرة القدم، علم اجتماع اللعبة العالمية Football, Sociology of the global game"" يشرح ريتشارد جوليانوتي، أستاذ الاجتماع بجامعة أبيردن باسكتلندا، مستويات الدراما المختلفة في كرة القدم. بدءا من دراما اللاعب الفرد، صعوده وتألقه أو هبوطه وتراجع شعبيته. صراعه مع اللاعب الفرد في الفريق المنافس وتنافسه مع زملائه. ثم دراما الصراع بين الفريقين في الملعب بوصفهما ناديين ممثلين لجماهير. دراما الصراع والتنافس على جمهور المدينة الواحدة إذا كان الفريقين منها، أو تمثيله أحيانا للجدل والصراع بين مدينتين أو منطقتين أو طبقتين يمثل كل فريق أحدهما. ثم دراما الصراع والتنافس في المباريات الدولية الذي لا يسلم من حمل عبء العلاقة بين البلدين أو تصور كل منهما عن الأخر.

التحزب الكروي
حالة الصراع والتنافس تدفع دائما خيال الباحثين والكتاب لإنتاج تحليلات تفسر الولع بكرة القدم بأنه يقدم بديلا لغياب الصراع السياسي القوي والشفاف والذي يمكن للجمهور الانخراط فيه بأمان وقد تدفعهم للحديث عن مؤامرة تديرها السلطات والإعلام ورأس المال لإلهاء الجمهور بالكرة واستغلاله، ولكن أشرف الشريف يرى أن هذه التحليلات قاصرة: "ببساطة الاهتمام بكرة القدم اهتمام إنساني عالمي وموجود في دول بها ديمقراطيات مستقرة ومشاركة سياسية جيدة. بل الهوس بها منتشر أكثر في دول أمريكا اللاتينية التي توجد بها أشرس قوى المعارضة".
يلاحظ أشرف أيضا أن الدراسات حول الانتخابات المختلفة في مصر تظهر أن مدن القناة تحقق نسبة مشاركة عالية بل ويفوز فيها عدد أكبر من مرشحي المعارضة على اختلافهم، ويحدث ذلك على التوازي مع وجود ولع بكرة القدم وتعصب كبير من أهل هذه المدن لفرقهم مثل المصري البورسعيدي والإسماعيلي.
"قد يكون اهتمامنا بالكرة طاغيا لأنه لا يوجد غيره في حياة الكثيرين لأننا نفتقر لحياة سياسية جيدة، ولكن الكرة ليست السبب" يعترف أشرف بأن هناك استغلال من قبل السلطة والإعلام للكرة ولكن ليس صناعة لها، فعلى حد تعبيره أصبحت كرة القدم مجال أساسي للاستهلاك وليس فرعيا أوتابعا أو بديلا.
يرى أشرف الشريف أن هناك بالتأكيد جوانب سلبية للأمر ينتقدها، ويرى منها تحويل اللاعبين إلى رموز يجرى إسباغ قداسة عليهم ويتم وضعهم في مكانة عالية، يتفق محمود توفيق، مدير التسويق بسلسلة محلات "أهلاوي 100%" والذي يكتب عن كرة القدم لعدة مواقع رياضية، أن هذا الأمر لا يعجبه في كل الأحوال، ولكنه يحكي أن اهتمامه بكرة القدم جاء أساسا من انبهاره بشخصية محمود الخطيب، نجم النادي الأهلي، بكل جوانبها. ورغم أن والده كان زملكاويا إلا أن الصورة البراقة والناصعة للخطيب جعلته يصبح مشجعا للأهلي، بل ويتحول الانتماء للأهلي لمحور حياته ثم عمله فيما بعد.
لا يرى محمود مشكلة في كون كرة القدم هي محور حياته، فهو يؤمن بالمثل القائل اعرف شيئا عن كل شيء وكل شيء عن شيء واحد، الكرة هي الشيء الأهم عنده. والكرة عنده تعني بشكل أساسي الأهلي: "إعجابي بصورة الخطيب كان البداية، ولكن بعد ذلك أصبح حبي للكرة وللنادي الأهلي مرتبط بتفاصيل الكيان الكبير للنادي، قيمه وأخلاقه وروحه".
يعتقد أشرف الشريف أن عالم الكرة يشترك مع الساحة الاجتماعية في الإعلاء من قيم معينة تلبي رغبات واحتياجات الناس :"تطور ما يمثله النادي الأهلي من نادي الجماهير الغفيرة واللعبة الحلوة والإدارة الأبوية الحازمة عند صالح سليم إلى نادي الكفاءة والإنجاز والتخطيط العلمي مع تولي مانويل جوزيه التدريب. الشباب الذين يهتمون الآن بشدة بدورات التنمية البشرية لكي يكونوا قادرين على الإنجاز بكفاءة مع دخول أنماط الأعمال الحديثة مع النيوليبرالية يجدون في النادي الأهلي نموذجا لمؤسسة حديثة فيها نظام وكفاءة وتفوق ولها سطوة ونفوذ. اذكر لي اسم مؤسسة مصرية أخرى قد يشبع الاهتمام بها نفس القيم. في رأيي المؤسسات القوية الناجحة ذات الجمهور اثنان يعتمدان على الدين: الإخوان المسلمون والكنيسة، وهناك النادي الأهلي. البعض يفضل أن يلبي قيم الاختلاف والبحث عن بديل لاختيار الأغلبية فيجد ذلك في الزمالك. الآن أيضا بدأت تظهر تأثيرات عولمية مع بداية تشجيع بعض الشباب لفرق أوروبية بحماس وتعصب".

متعصب وأفتخر
تحولات ثقافة التشجيع لا تتقاطع فقط مع قيم اجتماعية بارزة في مجرى الحياة اليومية، ولكن تمثل أيضا كيف أن تشجيع الكرة والاهتمام بها أصبح يحتل باستمرار جزءا أكبر من هذه الحياة. يحكي محمود توفيق أن والده يجب الكرة ويتابعها، ولكنه قد يترك المباراة ليفعل شيء آخر: يصلي أو يأكل أو يجري مكالمة تليفونية، يتابع من بعيد ثم يشاهد الأهداف آخر المباراة ولو انشغل يسأل عن النتيجة. يروى محمود أيضا كيف أنه يرى الآن، بعيون المشجع المولع بالكرة، كيف أن مشهد مدرجات الكرة قديما كما لو كانت حديقة عامة. هناك عدد كبير ممن يصطحبون معهم زوجاتهم وأطفالهم والأمر ليس إلا نزهة لطيفة وممتعة. ولكنه يرى أن جيله الذي بدأ الاهتمام بالكرة في الألفية الجديدة أخذ الأمر إلى ما هو أبعد.
يقول محمود :"مع الاحتراف تحول مجرد الانتماء العاطفي إلى التزام حقيقي، ومع الإنترنت والفضائيات أصبحنا على علم بتفاصيل أكثر عما وراء اللعبة. نرى تدريبات اللاعبين ونطلع على تفاصيل الصفقات ونعرف أشياء عن نمط حياة كل لاعب وعلاقته بزملائه. كرة القدم لم تعد مجرد مباراة و22 لاعبا و90 دقيقة.هناك الآن إعلام وإعلان ومؤسسات كبيرة".
تشجيع اللعبة الحلوة والفرجة بأعصاب هادئة ليس كافيا لكي تظل ماكينة هذه المؤسسات تدور، يتفق محمود مع ذلك ويؤكد أن "التعصب" مفهوم أساسي في كرة القدم: "التعصب بمعنى الانحياز والاهتمام والحماس وليس الهمجية أو الغوغائية. إذا اكتفينا بالتصفيق مع اللعبة الحلوة وشجعنا أيضا لعبة الفريق المنافس ستنصرف كاميرات الإعلام وستتوقف الإعلانات وسيتراخى اللاعبون. ما يعطي كرة القدم معناها هو الروح".
في دراسة جماعية أعدها قسم الاجتماع بجامعة ليشستر ببريطانيا في محاولة للاقتراب من ظاهرة التعصب الكروي، لاحظ الباحثون كيف أن لغة الصحافة في تغطية مباريات الكرة تحديدا تقترب من التعبيرات المستخدمة في الحرب عن تلك المستخدمة في الرياضة، كما أنها تنزلق بسهولة إلى صور نمطية للشعوب عند تغطية المنافسات الوطنية. روح المعركة الخشنة بعض الشيء هي ما يقصد محمود توفيق بالروح: "بعض التعبيرات الساخرة والهجومية على المنافس تزيد من حلاوة المنافسة ولكن دون أن تسقط في الإهانة الشديدة". تلاحظ الدراسة أيضا أن الروح الذكورية العنيفة تشكل جانبا أساسيا من روح كرة القدم، وهذا يبرر الاهتمام الرجالي الأكبر بها. وهذا ما يدفع أشرف الشريف لأن يعتقد أن بعض الألفاظ البذيئة الخشنة مقبولة في سياق التشجيع والسجال بين المتنافسين.

لا للتشجيع النظيف
يسخر كلا من أشرف ومحمود من تعبير" التشجيع النظيف"، يراه أشرف تحديدا موازيا لتعبير "السينما النظيفة" الذي أصبح يافطة توضع على السينما الرديئة متواضعة المستوى. محمود أيضا كان عضوا في رابطة مشجعي الأهلي AFC التي رفعت هذا الشعار ولكنه لا يتحمس له، وإن كان أيضا لا يفضل أساليب رابطة "الألتراس" كلها بما تتضمنه من بعض العنف.
التطور الإعلامي أحدث نقلة في عالم مشجعي كرة القدم، من جانب يرى أشرف الشريف من خلال متابعته أن هناك 50 برنامجا عن الكرة أسبوعيا في مصر، يفكر في أن يبحث إن كان هذا هو الرقم القياسي في العالم أم لا. يعتبره أسلوبا من أساليب استثمار شعبية الكرة ولكنه غير راض عن خطاب وأسلوب معظم البرامج التي يراها تذكي التعصب بمعناه السيء من خلال تحيز مقدمي البرامج وتخصيص برامج لمشجعي نادي معين، بالإضافة لانتشار ترديد الشائعات والخطاب الهجومي الغوغائي والأسلوب غير اللائق إعلاميا والذي ظهر واضحا أثناء أزمة الجزائر.
ولكن من جانب آخر يعتبر أشرف أن الإنترنت ومنتديات المشجعين فتحت عالما مهما لتنمو روابط المشجعين وليقترب جمهور كل ناد من بعضه: "أثناء دراستي في أمريكا أو زيارتي لكندا كنت ألتقي أعضاء في منتدى "الأهلى دوت كوم" الذي أكتب فيه. لا يجمعنا إلا أننا مشجعين للأهلي ولكننا نلتقي ونتناقش في كل شيء من الفن إلى السياسة والدين".
يمثل عالم جمهور الكرة لأشرف أحيانا قيمة أكبر من الكرة نفسها، رغم أهميتها عنده، فهو يكتب آراءه في الدين والسياسة والمجتمع في الأقسام المخصصة لذلك في منتدى "الأهلي دوت كوم" ولا يعتبر ذلك إهدارا لجهده، بل يعتبره اختبارا حقيقيا لأفكاره وسط جمهور حقيقي وليس تجمع مثقفين يحترف شيئا له علاقة بالثقافة.
يرى أشرف في نفسه وجيله، وهو مواليد آخر السبعينات، آخر الأجيال التي تعلقت بالكرة كفن خالص، ويرى أن الشباب الأحدث يغلب عليهم حالة من الهوس والهستيريا والفانتازيا ولذلك يتمكن "الألتراس" من استغلال جماستهم، أو أنهم يرون في الكرة مجرد لحظة متعة أو موضة أوهوجة يشاهدونها عندما تصل مصر للنهائي أو يلاعب الأهلي فريقا أوروربيا.
محمود توفيق الذي ينتمي للأجيال الأحدث سنا، يتفق مع أشرف من ضيقه من جمهور الموضة والمرح الذي يطلق عليه أحيانا "جمهور مارينا" ولكنه يرى أن الاهتمام المبالغ فيه ليس هوسا أوهستيريا بل هو حماس وتعصب مشروع يعتبره أجمل ما في عالم كرة القدم. ويرى أن الأجيال الأحدث التي بدأت في مشاهدة الكرة الأوروبية والارتباط أحيانا بأنديتها لديها إطلاع أفضل على جماليات كرة القدم في أعلى مستوياتها، بالإضافة لاستعارة أساليب المشجعين الأوروبيين والمشاركة بفاعلية في إضفاء جو جميل على المباريات.
ولكن يبدو أن لأشرف مزاجا خاصا : "أصبحت لا أذهب كثيرا إلى المدرجات لأن هذا الجمهور الجديد يملأها الآن، ولا حتى أذهب إلى المقهى في المبارات الهامة التي تجذب كل أجد. ربما أفضل أن أشاهد مباراة عادية في الدوري على مقهى، هناك أجد مهتمين حقيقين يمكنني الاستمتاع وأنا أشاهد معهم".


لوزام المشجعين: ذكريات واكسسوارات وصور

على باب المحل ملصق أحمر يقول :"6-1 كنت هناك !". لو أنك "أهلاوي حقيقي" ستتذكر تلك المباراة خالدة الذكر وستدفع الباب مبتسما، وأنت تغلقه وراءك لاشك ستضحك عندما تشاهد ظهر الملصق: "بيبو وبشير". فهي العبارة التي كررها المعلق مدحت شلبي قبل أكثر من هدف عندما راوغ خالد بيبو مهاجم الأهلي بشير التابعي مدافع الزمالك لينفرد بالمرمى ليخلد الأهلاوية ذكرى العبارة :"بيبو وبشير.. بيبو والجول !". لو أنك زملكاوي ستبتسم محرجا أو ستحاول أن تبدي لامبالاة، ساعتها ربما تجد محمود توفيق، مدير التسويق بالمحل، يسألك وهو شبه واثق من الإجابة: "مش أهلاوي، صح؟".
المحل الذي يطغى عليه اللون الأحمر الموجود في شارع هاديء بحي الزمالك، هو واحد من سلسلة محلات "أهلاوي 100%" التي تعد الأولى من نوعها كمحلات موجهة لمشجعي ناد مصري.
"فكرة محلات المشجعين Fan Stores موجودة في أوروبا من فترة أطول، ولكننا بدأنا عام 2006 ونعد أول محل من نوعه في أفريقيا والشرق الأوسط" يؤكد توفيق أن الربح لم يكن الدافع الرئيسي عند المؤسسين بل حب النادي الأهلي ولكن الفكرة لاقت نجاحا واستمرت.
يبيع المحل تي شيرتات عليها أرقام نجوم الأهلي بالإضافة للراحل صالح سليم المكتوب تحت اسمه "الأب الروحي" مع اكسسوارات للبيت والسيارات وميداليات وكراسات وبوسترات. التي شيرتات عليها عبارات تفخر بـ"أمجاد الأهلي" مثل "فخور بأني الأول دائما" أو ساخرة مثل "الأهلي والفرق صاحبة الستة" وتحتها ست فرق هزمهم الأهلي مؤخرا بست أهداف، وطبعا تي شيرت "6-1" يلقى رواجا كبيرا.
"الغريب أن منتجات المحل تلقى رواجا أكبر عندما يتعثر الأهلي أو يهزم" يلاحظ توفيق ذلك ويقول أن ذلك دليل أن ثقافة التشجيع انتشرت وعرف المشجعون أن مساندة الفريق وقت محنته أهم من الالتفاف حوله وقت انتصاره "يأتي المشجعون يرفعون روحهم المعنوية وعن طريق المنتجات يشعرون بعلاقتهم القوية بالنادي ويتمنون معاودة الانتصارات قريبا".
أسعار المنتجات وأماكن الفروع تقول أن المحل موجه لطبقات بعينها من الأهلاوية. المنتجات كلها تصنع خصيصا للمحل، بعضها تنتجه شركات صينية يتعاقدون معها، ولكن معظم الأفكار وكل الكلمات بالطبع من إبداع المحل، وقد يحاولون الاستفادة من بعض الأفكار الموجودة في محلات المشجعين في أوروبا.
تعاقد المحل مع عدد من لاعبي الأهلي لوضع أسمائهم وصورهم على المنتجات، يقول محمود توفيق :"طبعا أبو تريكة الأكثر مبيعا. ولكن البنات يقبلون أكثر على الأشياء التي عليها صور عماد متعب!".


مصر مبارك و"جدّو" فوق الجميع

من المفاجيء جدا وأنت تبدأ في مشاهدة كليب لأغنية راب شعبي أنتجها شباب ونشروها على الإنترنت أن تجدها تبدأ بجزء من خطبة للرئيس مبارك !
أغنية "مصر فوق الجميع" التي كتبها محمد أسامة (مودي راب) - واحد من أشهر فناني الراب الشباب على الإنترنت - ومانشي (أحمد الليثي) واشتركا في أدائها بمناسبة انتصارات المنتخب المصري في كأس الأمم الأفريقية، تبدأ مشهد من إحدى خطب الرئيس مبارك وهو يقول :"الذين يقومون بهذه الحملات وينظمون مهرجانات الخطابة للهجوم على مصر في دولة شقيقة بيوتهم من زجاج ولو شئنا لرددنا لهم الصاع صاعين ولكننا نترفع عن الصغائر".
بعدها تبدأ الأغنية التي تتحدث عن ريادة مصر وتحملها الإهانات من العرب على خلفية مشاهد أهداف منتخب مصر في كأس أفريقيا وبعض مشاهد من أحداث أزمة مصر والجزائر. قبل أن تعود الصورة إلى مبارك: "إننا نتعرض لحملات مكشوفة من قوى عربية وإقليمية. إن مصر لا تقبل الضغوط أو الابتزاز".
قبل سنوات أنتج مودي راب أغنية اشترك في أدائها مع مجموعة كبيرة من فناني الراب العرب تتحدث عن أهمية قضية فلسطين ودور العروبة ولكن اللحظة الآن تفرض نفسها ليقول في أغنية "مصر فوق الجميع": "فككوا من الشعارات.. فككوا من الوحدة". ويكمل الليثي في موضع آخر :"انسى وارمي الأخوة .. هانبدأ الخناقة".
قبل سنتين، ومع بدء الدعوة لإضراب 6 إبريل، كانت أغنيتا مودي راب "لعبة السياسة" و"مين فينا" وكأنهما النشيد الرسمي للإضراب. صنع الشباب عشرات الكليبات من الأغنييتن الساخظتين المنددتين بالاستبداد والقمع وافتقاد توزيع عادل للثروة، ونشرت الكليبات على يوتبوب وفيس بوك مع خلفيات تحتوى على شعارات معارضة تندد بحكم الرئيس مبارك وبالتوريث المحتمل.
يحكي محمد أسامة (مودي راب) أنه قال لليثي وهو بعد كليب أغنية "مصر فوق لجميع" :"أنا معارض .. تقول حاطط لي مبارك في الأغنية؟" ولكنه بعد ذلك اقتنع ورأى كلماته مناسبة لموضوع الأغنية.
الأغنية التي تبدأ بخطبة مبارك وتنتهي بهدف لمحمد ناجي جدّو، هي واحدة من تعبيرات انشغال العديد من الشباب من ميول مختلفة بالتعبير عن "الحالة الوطنية" التي تجمع بين العتب على العرب أو الهجوم عليهم - خاصة الجزائر- والانتشاء بـ"الانتصارات العظيمة" لمنتخب الكرة.
حديث تفوق مصر في الأغنية يأتي على خلفية مشاهد لرموزها: مبارك والسادات والبرادعي وزويل ونجيب محفوظ وعمر الشريف وعادل إمام وحسام حسن وعمرو خالد والشيخ الشعراوي وعبد الحليم حافظ ومحمد فوزي وعمرودياب. ولكن مع أهداف المنتخب تحديدا تصل الأغنية لذروتها ومودي يغني :"إحنا طول عمرنا ع القمة - يا للا رجالة شدوا الهمة - المصريين أهمه".


نشر في "الشروق" الخميس 11 فبراير 2010
PDF


المزيد