صور الرجولة بوصفها امتيازا ونبلا قد تتحول إلى مجموعة من الأوهام المتفق عليها اجتماعيا عندما يتم اللعب بها ومعها على الشاشة. كتاب ومخرجون شباب صوروا رؤاهم وتساؤلاتهم وانتقاداتهم للملامح السائدة للرجولة في أفلام قصيرة جريئة.
فوق كراسي المقهى المنثورة على الرصيف، فتاة تزيل معجون الحلاقة من على ذقن فتاة أخرى. تقوم الفتاة التي أنهت حلاقة ذقنها لتدخل خلف الستار الذي يستر مبولة المقهى ثم تخرج منه وهي تنهي غلق سوستة البنطلون. فتاة ثالثة تصلي على الرصيف ورابعة، يبدو أنها تعمل في المقهى، تزعق شاكية وهي تحمل حجر الشيشة.
مصدر الغرابة في الصور المتلاحقة التي تضمها مشاهد الفيلم القصير "عناب ساقع" أنها تكسر اللعبة وتضع فتيات في صور يحتكرها الذكر في محاولة لاستكشاف بعض الملامح التي ترسم ما يسمى "الرجولة". في هذا الفيلم تظهر بعض الملامح: الكشف والظهور بلا حرج في المجال العام أثناء أداء ممارسات معينة: التبول والصلاة و العناية بالنظافة العامة، وهي الممارسات التي اعتادت الأنثى أن تستتر وهي تقوم بها، بينما لا يجد الذكر حرجا في إظهارها لأنه "رجل".
الفيلم الذي كتبه أحمد مختار عاشور من فكرة وإخراج هاني مصطفى هو واحد من خمسة أفلام كانوا نتاج ورشة "الرجولة والرجل في المجتمع المصري" التي استضافها مركز "نظرة" للدراسات النسوية في مايو الماضي. وشارك فيها عدد من الشباب المخرجين وكتاب السيناريو، عبروا عن رؤاهم فيما يخص معنى الرجولة وصورها كما يرونها.
بعضهم رصد "لعبة الرجولة"والتناقضات بين جانبها الظاهر المعلن الذي يحب الرجال إظهاره، عندما تبدو "الذكورة بوصفها نبلا" حسب تعبيرات بيير بورديو- عالم الاجتماع الفرنسي- وبين جوانب أخرى مضمرة أو مخفية أو متجاهلة عمدا لأنها تصنف "أنثوية". والبعض الآخر كسر اللعبة من خلال إرباك المشاهد وتحويل بعض الصور المتوقعة للرجولة من واقع إلى وهم.
لعبة وضع فروق واضحة ومتميزة بين أدوار وسلوكيات الجنسين تبدو للبعض ضرورة اجتماعية مرتبطة بالفرق البيولوجي بينهما لدرجة أن السينما تجعل عكسها رعبا. قبل إنتاج الأفلام حاضر الناقد عصام زكريا وناقش المشاركين حول صورة الرجولة في السينما. يقول بسام مرتضى، الذي اشترك مع ميسان حسن في تيسير الورشة والإنتاج الفني للأفلام: "من أهم الأفكار التي نوقشت هي أن صورة (مصاص الدماء) كانت غالبا مقترنة بغموض جنسه والتباسه، هو ليس رجلا أو امرأة بشكل واضح".
ما يقوم به فيلم "عناب ساقع" أيضا هو كسر اللعبة من خلال تعديل ضمير المخاطب من الأنثى إلى الذكر في أغنية "المريلة الكحلي" لمحمد منير، الصوت الأنثوي يلفت الانتباه وهو يغني :"يعجبني أخدَك للكتب بالحضن" أو "ولو ابتديت بشفايفك الحلوين" بفتح الفاء الأخيرة. التغزل في تفاصيل مثل الشفاه أو الإعجاب برقة احتضان الكتب في خجل يبدو غريبا وهو موجه لذكر، ليكشف أن صورته النمطية تستبعد أن يكون امتيازه متعلقا بتفاصيل جميلة دقيقة في مظهره بعكس الأنثى، كما أن الجرأة وبعض الاقتحام هم المتوقعين في مقابل الرقة الخجولة الأنثوية المتوقعة.
حالة الجدية والقيام بواجبات الرعاية الاجتماعية لآخرين وبعض الاستبداد بالرأي تظهر كحالات ملحقة بالرجولة عندما تبدو متباينة مع صورة الأنثى التي تصر على إقراض الأخرى رغم رفضها وتطلب لنا عنابا مثلجا بينما رغبت هي في حجر شيشة!
في كتابه "السيطرة الذكورية" يقول بيير بورديو إن الذكر الذي يتم تربيته ليتخذ دوره في اللعبة الاجتماعية التي تجعله الذكر "رجلا" يتم تعويده وتكريسه وتحفيزه لكي يحتل موقعه في الألعاب الاجتماعية التي عنوانها السيطرة لمجرد كونه رجلا.
تواطؤ اجتماعي
حتى عندما لا يلتزم الرجل بمتطلبات اللعبة جيدا، يحدث قدر من التواطؤ واعتبار ذلك استثناء ويتم استكمال اللعبة بالقيم والتوقعات نفسها. في فيلم “البقاء للأقوى"، الذي كتبه نائل الطوخي وبشير وجيه وأخرجه الأخير، يبدي البطل الذي توفت زوجته تجلدا أمام المعزين ولكنه ينخرط في بكاء حار كلما رأي أشياء تخص زوجته، ينسى نفسه في غرفة النوم ويعلو صوت نحيبه وينتبه على مشهد عدد من المعزين يقفون بجانبه بينما هو جالس على الأرض ممسكا بقطعة من ملابسها يبكي. يقطع المونتاج ويأخذنا إلى مشهد له وهو متجلد وكأن شيئا لم يكن يصافح المعزين الخارجين. يرى بيير بورديو أن هناك توهم ما مؤسس للسلوك المرتبط بالذكورة، بحيث تظل دائما كمثل أعلى، كما أن هناك قدرا من التواطؤ الاجتماعي الذي يستبعد وقوع بعض التفاصيل -بكاء الرجل مثلا أو استسلامه لمشاعره بشكل عام وتعبيره عن التأثر العميق - لكي تظل دائما سلوكا أنثويا ومجرد لحظة استثنائية من الذكر بينما لا تمس هويته المتميزة والمختلفة عن ذلك.
نوع آخر من التواطؤ يحاول الإشارة إليه فيلم "في كل حي ولد عترة"، الذي كتبته نسمة يوسف وأخرجته إيناس مرزوق. هناك شخصية لا نراها تبدو وراء الكاميرا ولكنها تقوم بممارسة سلوكيات تحيط تلميذة أثناء نزولهما من البيت في الطريق إلى المدرسة بالرعاية والإرشاد وبعض التحكم. نتوقع مسبقا أنه أخوها بفعل التوهم. في الطريق نسمع صوت فتاة أخرى يضايقها مجموعة من الشباب، لا تبدي شخصيتنا الذكورية التي وراء الكاميرا أي اهتمام سوى بـ"أنثاه" فقط، وكذلك يفعل ذكور آخرين مشغولين باللحاق بالميكروباص.
الرعاية والحماية في مقابل التحرش تفترض مسبقا أن الأنثى فريسة في مواجهة صياد. الصياد يفكر في الفرائس السهلة حوله وهو مشغول من ناحية أخرى بحماية ما اصطاده مسبقا أو ما ينتمي إليه فقط. ذلك الانقلاب في الدور لا يمس فكرة الرجولة بل ربما يكون ملمحا مميزا لها في وعينا. في نهاية الفيلم نسمع مقطع من أغنية أبو الليف "دولا مجانين" التي يتحدث فيها عن "النساء" باعتبارهن جميعا مخبولات! المقطع يقول:”لما الحنية بتبقى طالبة بيبقوا قمامير. إنما يا حبيبي عليهم قلبة، أشوف وشك بالخير". المقطع الساخر هنا بصوت ذكر ولكن تجاوره مع مشاهد تقلب الدور الرجولي يفجر المفارقة الأخرى وكأنه يسخر من الانتباه إلى تقلب المزاج الأنثوي وكأن المزاج الرجولي متسق ومنتظم.
كله إلا كده
مفارقة أخرى يتورط المشاهد فيها مع فيلم" من دفاتر حنفي الفيل" الذي كتبه محمود فرج وأخرج أحمد رحال، الفيلم يبدأ بصور من حياة شاب يبدو لنا مفعما بالذكورة والرجولة بجانب أخرى تبدو غامضة الهدف: مشهد نشر الغسيل، ذلك الدور الأنثوي الذي يمارسه الذكور مكرهين ولا يحبون في كل الأحوال أن يظهر، الصورة التي تظهر أزهارا ملونة على شجرة أسفل الشرفة وتتأمل في جماليات ألوان الملابس على تلك الخلفية تبدو وكأنها تذكرنا بمتعة أنثوية الطابع.
صوت الراوي يقرأ نصوصا وأخرى تكتب على الشاشة تتضمن أفكارا قد تبدو غامضة: " أعلى درجات الوهم هي أعلى درجات الحقيقة" أو "لا شك أن عصرنا الحالي يفضل الصورة على الأصل، الشكل على المضمون، وتحديدا المظهر على الوجود" أو نصوصا لا يجد المشاهد أي مشكلة في قبولها: "كل ما أنت عليه دون أن تختاره، كل ما يحدث لك دون أن تشارك في أسباب حدوثه، هذا هو قدرك، وقدري أن أكون رجلا". يفاجيء الفيلم المشاهد بإعلان البطل أنه مثلي الجنس وأنه لا يخجل من ممارساته ولكنه يخجل من إعلان ذلك على الملأ. المفارقة الصادمة هنا أن المشاهد تورط في التصديق على ذكورة ورجولة البطل وسلم بأن ما لا نختاره هو قدرنا سواء كان الرجولة أو ما يخالفها وهو ما لا يكون امتيازا ولا عيبا. المشاهد الذي سيكره ما عليه البطل تورط مسبقا في الإعجاب بمظهره وصورته وشكله، هو الآن يفضلهم على الأصل والوجود والمضمون الفعلي. اعتقاد معظمنا عن الرجولة وما يدعمها وما يخالفها التي نضعها في منزلة الحقيقة تقبع الآن في زاوية الوهم والتوهم بعد خدعة صناع الفيلم لنا!
الميل الجنسي محدد مهم للرجولة، مثلي الجنس غير معترف بكونه "رجلا" أبدا. الضعف الجنسي أيضا يعتبر بمثابة تهديد بالغ للرجولة وهي فكرة فيلم "كله إلا كده" الذي كتبته نسمة يوسف وأخرجته إيناس مرزوق.
يظهر الذكر في الفيلم مستهترا ولا مباليا وكأنه مستعد دوما لخوض مغامرة ما. يرتدي تي شيرت عليه عبارة "ياكش تولع". على المقهى يبدي انتقادا لفتاة مهتمة بزينتها لفتت نظره مستنكرا مرورها بالقرب منها وكأنه يدين ما يعتبره رغبة منها في لفت نظرهم إلى جمالها، ولكنه يتابع ساخرا أنها بدلا من المرور بالقرب منهم عليها أن تذهب معه إلى البيت!
من استنكار سلوك يراه تعبيرا عن رغبة جنسية من قبل المرأة إلى القيام بسلوك فيه إظهار سافر لهذه الرغبة قد يكون، قد يكون هذا التقلب الساخر ما يعبر عنه بورديو من أن الرجولة تقدم نفسها بوصفها "قانونا اجتماعيا متجسدا" فالرجولة ليست خاضعة للقيم الاجتماعية التي قد تدافع عنها وتلزم بها الآخرين بل تمارس فعلها بحكم القوة التي لا تخضع للحساب. الرجولة قوة فائقة تضع القانون وتخترقه، قد يكون هذا سر ذلك المظهر الرجولي الجذاب لأبطال أفلام الجريمة، الأخيار والأشرار. القوة التي تخترق القانون و القوة التي تستعيد سلطانه، الرجولة هنا وهناك على السواء، ولكن رجل ضعيف جنسيا لا يمكن قبوله "رجلا" على أي شاشة!
في الفيلم يشتري البطل علبة سجائر ليجد عليها صورة السيجارة المرتخية المقوسة والرسالة التي تحذر من أن التدخين يؤثر على العلاقة الزوجية. يتوتر ويطلب من البائع أي علبة أخرى من التي تحتوي على الرجل المريض الموشك على الموت. الفحولة الجنسية هي قدر الرجولة ومركز نبلها - قوتها في مواجهة الأنثى - وعكسها رعب قد يكون الموت أهون منه!
نشر في "الشروق" الأحد 8 أغسطس 2010
الصورة من فيلم "عناب ساقع"