لخمس سنوات تأخرت النهاية السعيدة لمسلسل مقابلات الاختبار من أجل الحصول على وظيفة، ولذلك قرر مايكل محسن أن يدوّن حلقات تجربته مع "الإنترفيوهات" التي استمع في نهايتها دائما للجملة الخالدة: هانكلمك كمان أسبوعين!
أبدى بعضهم تعجبه وتشككه وضيقه من لهجته الواثقة. ولكن بعد قليل خرج أحد المسئولين عن تنظيم المقابلات وأخبر الشباب أنهم سيدخلون إلى قاعة الاختبار مجموعات لإجراء المقابلة. ساعتها عرف زملاء مايكل محسن أنهم أمام خبير في شئون "الإنترفيو". يحكي مايكل في الحلقة الأربعين من مغامراته في الإنترفيوهات على مدونته أن بعضهم اقترب منه وأخذ يسأله عن الأسئلة المتوقعة وإجاباتها النموذجية!
أطلق مايكل على نفسه في حلقات إنترفيوهاته لقب "العميد" نظرا لخبرته المديدة في مقابلات الاختبار التي يبدو أنها تجاوزت المائة، كتب مايكل في مدونته ما يقترب من نصفها قبل أن يجمعها في كتاب صدر حديثا بعنوان "وظيفة ما تمت".
منذ تخرجه عام 2005 من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، لم ينجح مايكل في الحصول على وظيفة. من الطبيعي أن يلومه البعض وأن يتخيل البعض الآخر أنه كسول أو مقصر، ولكن أصدقائه المقربين الذين سمعوا منه حكاياته في المقابلات وضحكوا من تفاصيلها الطريفة لم يجدوا نصيحة له إلا أنه من الضروري أن يكتب هذه المغامرات.
وجها لوجه
يقول مايكل: "على الإنترنت هناك المئات من المواقع بالعربية والإنجليزية تحدثك عن طريقة كتابة سيرة ذاتية وكيف تجري مقابلة اختبار ناجحة. ما هي الأسئلة المتوقعة والمعتادة والردود النموذجية عليها. ولكن يبدو أن المشاكل في مكان آخر".
يحكي مايكل أنه أعد العدة جيدا. أرسل سيرته الذاتية إلى كل الشركات والجهات التي يعرفها. أرسلها أيضا إلى عدد من مواقع التوظيف على الإنترنت. ونتيجة اجتهاده في ذلك حظى بكل هذا العدد من الإنترفيوهات. يقول أنه شعر أن بعض الإنترفيوهات كانت شكلية، لإتمام اجراءات مسابقة توظيف. والبعض الآخر كان يديرها أشخاص يكررون الأسئلة التقليدية ويتلقون بالتالي الإجابات التقليدية بدون اهتمام حقيقي. كثير من الجهات كانت تطلبه بعد الإطلاع على سيرته الذانية ليجد في النهاية أن المتاح هي وظيفة مندوب مبيعات بأجر زهيد وشروط عمل سيئة وهو ما لم يقبله مايكل.
في بعض الأحيان الأخرى، بدأ يكون ملاحظات عن بعض الشركات التي تطلب موظفين بمعدلات كبيرة مقارنة بعدد العمالة فيها. ومع بعض الوقت اكتشف أن هذه الشركات تعتمد على تشغيل شباب جدد لفترة قصيرة بمرتبات زهيدة ثم الاستغناء عنهم لتلافي الالتزامات والتعاقدات وزيادة المرتبات.
مع مرور الوقت - والمقابلات - يحكي أنه أصبح ضليعا في التعامل مع معظم التفاصيل، يعرف مسبقا معظم الأسئلة ويجيب بطلاقة وبلا عناء. ولكن مع الوقت أيضا أصبح من يجرون معه المقابلات يسألونه عن سبب عدم حصوله على وظيفة كل هذا الوقت، ولماذا لم يعمل إلا فترات قليلة استثنائية كفترات تدريب. بعضهم كان خشنا وفظا وبدأ في إعطائه دروس عن الجدية والتركيز.
تخصصه الأساسي هو العلوم السياسية والفرعي هو إدارة الموارد البشرية، وبسبب ذلك تعرض أكثر مرة لمواجهة انطباع عنه أنه يبحث عن "أي شغل". ولكنه لا يبحث عن شغل محدد ولم يختر مجالا محددا استجمع مهاراته ومتطلباته وركز جهوده عليه. لا ينكر مايكل جانبا من ذلك، ولكنه في النهاية يعتقد أنه اجتهد من خلال كورسات ودورات تدريبية ليمتلك المهارات الأساسية للمهام الإدارية التي تقدم لنيلها.
"كلمني عن نفسك !"
بخلاف الأسئلة التقليدية عن المؤهل والخبرات السابقة ومعلومات المتقدم عن الوظيفة،من المفترض أن مسئولي الموارد البشرية يريدون التعرف أكثر على بعض طباع وميول المتقدم. عادة ما تقال أسئلة للتعرف على جوانب شخصيته. يحكي مايكل أن الأمر أحيانا يشبه جملة "كلمني عن نفسك!". وفي بعض الأحيان يطلب من يجري معك المقابلة ذكر مجموعة من إيجابياتك وسلبيات.
يضحك مايكل: " في إحدى المرات، في مقابلة لشركة تقدم خدمات لها علاقة بالبورصة، ذكرت مجموعة من سلبياتي. ثم قلت في الإيجابيات أني أحب النظام والهدوء. فما كان من المسئول أن أخبره بحزم أن كل ما أتحدث عنه هو نقاط ضعف!". برر المسئول كلامه بأن الشركة تضطر دائما للعمل في ظروف ضاغطة، ويجب على الموظف أن يكون قادرا على العمل وسط فوضى وصخب.
هناك عوامل أخرى تتدخل في الاختيار، في بعض المقابلات سئل مايكل عن وظيفة أبيه وأمه وعن دراسة أخته، وعن بعض التفاصيل التي تخص استهلاكه: مثل تملكه لسيارة. وأحس مايكل أن الأسئلة تهدف للتعرف على مستواه الاجتماعي والطبقي.
للمظهر دورا هاما لا يخفى على خبير مثله. ولذلك يحرص مايكل على أن يرتدي بدلة كلما أمكن ذلك، أو على الأقل قميص وكرافتة. وفي إحدى المرات قرر أن يتخلى عن الكرافتة. وفي وزارة الاستثمار جلس أمام مجموعة من الخبراء والمسئولين الذي اهتموا بشكل كبير بتفصيلة أنه لا يرتدي كرافتة وتحدثوا عن قلة جديته واستهتاره من قبل النظر في سيرته الذاتية أو الحديث معه.
خرج مايكل من هذه المقابلة يعرف أن الأمر تجاوزه، وإذا كان مسئولو وزارة الاستثمار قد أعطوا تفصيلة في مظهره كل هذا الاهتمام، فإنه قرر عند خروجه فتح قميصه حتى بطنه وتشمير أكمامه، تيمنا بنجم الجيل تامر حسني!
"شرط جزائي ليه؟ هادرب ريال مدريد؟"
يمكن للبعض أن يتهم مايكل أحيانا بالتشدد في اختيار فرصة جيدة. ذلك لأنه رفض معظم الفرص التي أتيحت له بسبب رفضه لطرق عمل رآها لا أخلاقية، لأنها تعتمد على الرشاوي، أولرفضه شروط عمل متعسفة. بعض الشركات تطلب توقيع الموظفين على شروط جزائية تقضي بدفعهم مبالغ كبيرة إذا قرروا الرحيل من الشركة بعد أن تلقوا تدريبا فيها، بينما نفس التعاقد لا يتضمن أي حقوق له أو أي مسئولية على الشركة إذا استغنت عنه في أي وقت. في إحدى المقابلات التي عرف أن الأمر سينتهي فيها بهذ الشكل أجاب بأنه لا يفهم أمر الشرط الجزائي لأنه لن يكون مدرب نادي "ريال مدريد" الأسباني ! يقول مايكل:" ربما يراني البعض متصلبا أو مستغنيا، رغم أن هذا غير صحيح، إلا أنني بالفعل أفضل ألا أجد وظيفة على قبول هذه الشروط المجحفة".
في مقابلات أخرى، يحكي مايكل أنه شعر وكأنه في مكتب داخل مباحث أمن الدولة. سأله مدير إحدى الشركات عن دراسته للعلوم السياسية وإن كان له أي ميول سياسية، فأجاب بأنه غير منتم لأي تيار، سأله عن سبب عدم انضمامه للحزب الوطني لكي يمكن أن يحظى بفرص أكثر. ولما أجاب أنه غير مقتنع بسياسات الحزب الوطني، امتعض المدير وقال له: شكلك مشاغب من بتوع المدونات. وعندما أجاب بصراحة أنه فعلا يدون ولكنه غير مهتم بالشأن العام. لم يخفف ذلك من ضيق وامتعاض المدير الذي أنهى المقابلة بالجملة الخالدة التي سمعها في نهاية كل إنترفيو: "هانكلمك كمان أسبوعين".
في مقابلة أخرى لنيل وظيفة مع شركة أجنبية، عرفت موظفة الموارد البشرية البلجيكية أنه مدون. وكان ذلك وقت اعتقال عدد من النشطاء والمدونين وسط أحداث اعتصام نادي القضاة في 2006. وتسبب ذلك في توجس الموظفة التي اندهش أيضا من نصيحتها له بأن ينضم للحزب الوطني، وبالطبع طارت الوظيفة !
"بتتناول يا مايكل؟!"
من المتوقع أن يتقبل مايكل أن بعض الشركات لن ترغب في توظيفه لأنه مسيحي. هو ورفاقه بتيادلون النصائح حول هذا النوع من الشركات ليوفروا جهدهم. ولكنه يبدي دهشته من أن يجد في إعلان عن وظيفة في فرع مصري لشركة إماراتية يشترط أن يكون المتقدم مسلما !
ولكن العكس أيضا يحدث. فبعد تقدمه لشركة كبيرة في مدينة 6 أكتوبر، لاحظ أن معظم أسماء العاملين قبطية، وبعد أن أنهى المقابلة لنجاح كبير طلبوا منه الانتظار لمقابلة أخرى.في المقابلة الأخرى لم يتحدث مايكل عن أي شيء يخص الوظيفة، بل سئل إذا كان يمارس طقس التناول في الكنيسة وإن كان يشارك في أنشطتها، إذا كان عضوا في فريق ترانيم أو حرص على السفر ضمن رحلات الكنيسة!
يقول مايكل: "طبعا لاحظت هذه المجموعة من الشركات التي لا تدقق فقط في ديانتك، بل أيضا في كونك ملتزما وتسألك عن تفاصيل ذلك. هذا موجود وسط المسلمين والمسيحيين أيضا".
يتحدث مايكل أن شركة أخرى طلبت منه العمل كمندوب مبيعات، وعندما رفض طلبوا منه ترشيح واحد آخر وأضاف المسئول: "بس عاوزين واحد تاني زينا". أجاب مايكل مستغربا: "زينا إزاي؟" وعندما جاءت الإجابة: "مسيحي". أجاب مايكل: "لا عندي واحد صاحبي مسلم مناسب للوظيفة ، ينفع؟". ولم تحبطه الإجابة التي يعرفها مسبقا.
نشر في "الشروق" الخميس 25 فبراير 2010
رسم: وليد طاهر
المزيد