السبت، ٧ أغسطس ٢٠١٠

زيارات طويلة أم خطط استقرار؟

خيارات الوافدين من الوادي إلى سيناء


لقمة العيش، المغامرة والمتعة، حب الطبيعة، الشعور بالمسئولية الاجتماعية تجاه المكان .. دوافع مختلفة عند أبناء الوادي الذين يقررون الانتقال والبقاء لفترات طويلة في مدن سيناء.

على خلاف كل هؤلاء الذين يملأون مدينة دهب في هذا الموسم، عندما يرغب طارق وهبة في إجازة يترك دهب ويتجه إلى القاهرة للاسترخاء.
عشرون عاما مرت على أول مرة جاء إلى دهب.تبدلت الأحوال من شاب مغامر في أوائل التسعينات يدير مشروعا بدلا من صديقه الذي سافر للإقامة مع زوجته الأجنبية في بلدها فترة ليحصل على الجنسية، إلى مالك لفندقين الآن. دهب الآن مكان سكنه واستقراره هو زوجته وابنه وابنته.
يحكي طارق وهبة أنه سافر فترة إلى أوروبا ليجرب حظه ثم عاد وعمل في فندق بالغردقة في منتصف الثمانينات، في الوقت الذي كانت في السياحة تشهد ازدهارا ونموا مطردا بحسب ملاحظته. كان مرتبه يتضاعف وشجعه ذلك على افتتاح بازار خاص به بجانب عمله في الفنادق. ولكن كل شيء تغير في أوائل التسعينات مع حرب الخليج التي أثرت على حركة السياحة. سافر فترة قصيرة إلى قطر قبل أن يعود ليستأجر كافيتريا صديقه الذي سيسافر مع زوجته.
يتذكر طارق وهبة:“كانت دهب وقتها تتكلم بالعبري حركة السياحة بالأساس من إسرائيليين. من يعلمون هنا والبدو يجيدون العبرية، قوائم الطعام وبعض اللافتات كانت بالعبرية. حتى السياح من أوروبا وأمريكا كانوا يأتون على طائرات العال ثم يركبون الأوتوبيسات من إيلات. كانت السياحة تعتمد على البساطة ورغبة السائح في أن يعيش حياة البدو وأن يأكل الأكلات الشعبية ويركب الجمل".
وبالتبعية كانت الخدمات السياحية التي تقدم هناك بسيطة وبدائية وتتناسب مع نقص الخدمات التي عانى منها الوافدون والمستثمرون الأوائل. ولكن في مواجهة ذلك كان طارق وهبة ينظر للتدفق الكبير إلى دهب مقارنة بمستوى وحجم الخدمات فيها وفكر في إنشاء فندق حديث نسبيا بدلا من مخيمات العشش التي تملأ المدينة. حاول أن يقنع صديقه ولكنه فشل فانطلق وحده في مشروعه: “كان فندقي الذي أنشأته عام 1993 من أوائل المباني الأسمنتية على الشاطيء. كان الناس يفكرون في دهب باعتبارها قرية بدويةا. ولكني كنت أعتقد أن السياحة ستغير دهب كثيرا وسريعا".
وذلك ما حدث فعلا من أكثر من جانب، زادت أعداد السائحين وتنوعت فئاتهم وأصبحوا في حاجة إلى خدمات فندقية منظمة وجيدة. ومن جانب آخر قل تدفق الإسرائيليين مع توتر العلاقات بين مصر وإسرائيل وتاثير التفجيرات في سيناء، وأصبح من يقصدون دهب يتوزعون إلى فئتين: فئة السياح الأقل دخلا وفئة محبي الغطس الذين ياتون بشكل خاص بسبب أماكن الغطس الفريدة هناك. الفئة الثانية هي سبب المكانة المميزة للمدينة وأفرادها هم من ينعشون حركة السياحة هناك.
ببناءه الفندق هناك، كان خيار الاستقرار في دهب قد وضع أساساته، ولكن خيارات الآخرين غير المحسومة تؤثر على استمرار ذلك الاختيار. يشكو طارق دهب من أنه رغم تدفق الشباب من مختلف محافظات مصر للعمل في دهب إلا أن ياتون في مغامرة قصيرة. معظمهم يحلم بالزواج من أجنبية والسفر إلى الخارج. قليلون يهتمون بتطوير خبراتهم أو الرهان على البقاء هنا. معظمهم يضحون بعملهم مقابل عمل بأجر أقل كثيرا ولكن يتيح له الاستقرار في مدينته الأصلية، خاصة إن كان متزوجا أو سيتزوج. في المقابل يشكو الشباب من الأجور القليلة التي لا تتيح أي استقرار ولا توازي مشقة السفر الطويل. ولكن طارق وهبة يرى أنهم يبدأون باجور قليلة مقابل ما ينالونه من خبرة وتدريب في مجال العمل الفندقي.
التغير السريع لعمال فندقيه يقلقه بعض الشيء ولكنه يشكو أيضا من مشكلة نقص المياه النقية والرحلة الطويلة التي يقطعها السياح برا بينما يفكر هو أن وجود مطار سرفع مكانة المدينة وسيرفع حجم الاستثمارات فيها. بالإضافة لذلك يحتاج للعودة إلى القاهرة عندما يحتاج أي فرد من الأسرة إلى خدمة طبية متميزة. كما اضطرت زوجته والأولاد للعودة إلى الإقامة في القاهرة في مرحلة الثانوية العامة والجامعة بسبب ضعف مستوى التعليم في سيناء وقلة الجامعات القريبة وتخصصاتها.
ولكن الاسرة عادة لتتجمع في دهب، ورغم بعض المصاعب يقول طارق وهبة أن الحياة في دهب أهدأ كثيرا وأجمل. وبدو جنوب سيناء في رأيه متعاونون ومشاكلهم مع الدولة لا تتصاعد عادة مثلما يحدث في الشمال والوسط. ورغم كثافة المشروعات السياحية التي بدأت تزيد على حاجة المدينة وتقسم دخلها على عدد أكبر إلا أن ذلك يظل أفضل بالنسبة له من الاحتكاك العنيف في القاهرة بسبب زحامها على كل المستويات. يضيف طارق وهبة سببا إضافيا هاما:”كما أن العمل في السياحة هو عمل جميل. مهمتك أن تساعد الناس على قضاء وقت ممتع ولو نجحت في ذلك تستمتع أنت أيضا طوال الوقت".

مخاطر المتعة
ولكن بعض أصحاب الأعمال هنا يبدون تخوفهم من تلك المتعة التي قد تؤثر على ما يرونه من ضرورة "الجدية" في مجال السياحة. “شباب كثيرون لا يستمرون في العمل عندي عندما ألاحظ أنهم غير جادين ويحاولون معاكسة السائحات بشكل فج" يبدي عمرو مختار حزما كبيرا وهو يقول ذلك. يدير عمرو واحد من أهم الجاليريهات في دهب، ويتقاسم ملكيته مع قريبه الذي سبقه إلى دهب ويملك جاليري آخر مجاورا.
يكمل عمرو مختار: “لقد أتيت هنا بعدما تجاوزت الثلاثين وشعرت أن مرحلة التنقل من عمل إلى آخر في القاهرة لم تعد تناسبني. عملت في مطاعم وجبات سريعة ووصلت إلى مرتبة مدرب ومدير مدربين ولكن النظام الأجنبي مرهق ودائما فوقك مديرين وتواجه تقييما مستمرا لأدائك يشعرك بالتوتر والضغط. انتقلت للعمل مع قريبي هنا وشاركته في هذا الجاليري. لدي خبرة كبيرة ومهارة في التسويق، وهنا الحياة هادئة ومريحة الأعصاب والمكسب جيد رغم أيام الكساد وبعض المنغصات".
يقوم عمرو لاستقبال سائحين دخلوا إلى الجاليري، يتركهم يتفرجون بحرية على الاكسسوارات والحلي والصور الفوتوغرافية ويقف هو على مسافة ينتظر استفسار منهم. فتاة اسكندنافية بصحبة شاب مصري تختار واحدة سلسلة فضية وتطلب من الشاب دفع الثمن فيفعل ويخرجان سريعا. يعلق:”أتت بالأمس وتفرجت كثيرا وسألت. أخذت قرارها وعادت لتشتري. أحاول أن أحافظ على سمعة الجاليري بعيدا عن الممارسات السيئة المنتشرة هنا. أنا لا أحب الخرتنة: اي أن أقف على باب المحل اصطاد السياح. ولا الجهرشة: طريقة الشباب في ملاطفة السائحات من أجل البيع لهن أو إقامة علاقة معهن".
يقول عمرو مختار أن الحياة في مكان مثل دهب مغرية جدا، وهو ليس ملاكا ولكنه يحاول أن يكون ملتزما بدون تشدد. يقسم يومه بين سماع أغاني محمد منير وأحمد منيب وبين الاستماع إلى تلاوة القرأن. يؤكد أن سائحون كثر تعجبهم التلاوة ويسألون عن اسطوانات لما يعتقدونه نوعا من الغناء.
يضع يده على صدره :”أنا الحمد لله متزوج ولدي أولاد. شباب كثيرون هنا يأتون يحلمون بحياة مليئة بالمتع من خمور ومخدرات ومغامرات جنسية، ومستعدون للزواج من أجنبية ولو كانت فوق السبعين من أجل السفر أو المال. كلنا كنا شباب نحب المغامرة أو مررنا بأيام شقاوة. ولكن بسبب قلة الجدية ساءت سمعتنا كثيرا وسياح كثر بدأو ينفرون ويتوجسون وقد يرحلون بخبرات سيئة وذلك يضر سمعة المدينة ويؤثر على عملنا".
أحيانا ما تعامل الشرطة الشباب الذي يأتي للعمل هنا ببعض الشدة، يقول عمرو مختار أن هناك كارنيهات من مجلس المدنية تصدر للشباب العامل هنا في محاولة لتنظيم تدفق الشباب للعمل هنا، ويقول أن أمن الدولة تؤخر أحيانا إصدار الكارنيه 6 شهور بينما يجب تجديده سنويا، وذلك يجعل معظم الشباب العاملين هنا مهددين بالطرد بسبب أي خطأ. يقول أن له وضعا أفضل نسبيا بسبب سمعته الجيدة هنا ولكنه أحيانا يتعرض لمعاملة سيئة من ضابط جديد أو مسئول متعنت. يستنكر عمرو كون بعض المسئولين والضباط لا يعرفون شيئا عن السياحة ومعظمهم لا يعرف كلمة إنجليزية ويستعينون به أحيانا في قسم الشرطة لكي يترجم.
ولكن تلك المتاعب ليست السبب في كونه يرفض انتقال أسرته للسكن معه في دهب حيث استأجر بيتا خاصا. السبب الأساسي هو خوفه على أخلاقهم من الحياة المنفلتة في رأيه:”لا أريدهم أن يتعودوا على العري ومنظر الخمور والعلاقات المفتوحة المنتشرة. صحيح أن حياتي بعيدا عنهم تزعجني لكني حريص على أخلاقهم".

تنمية واتجاه ديني
تخوفات عمرو مختار قد تبدو مبالغا فيها، بالنسبة للسيدة سلوى نصار. تجلس هي وصديقتها السيدة نادية، زوجة طارق وهبة، في مدخل الفندق المطل على الشاطيء تشربان القهوة، كلتاهما ترتديان الحجاب، تستمتعان ببعض هبات النسيم رغم الحرارة الشديدة ذلك اليوم. بينما يجلس شاب وفتاة على البار على بعد أمتار يشربان البيرة ويتضاحكان. يفكران في تأسيس جمعية لخدمة المرأة في دهب، سواء المرأة البدوية أو المرأة القادمة من الوادي لتستقر هنا أو في رفقة زوجها وكذلك المرأة الأجنبية التي تقيم في دهب لفترة طويلة للعمل.
تقول سلوى نصار أنها من خلال عملها كناشطة في مجال شئون المرأة في مديرية الصحة والسكان في دهب، بدأت بالفعل في عقد اجتماعات وندوات لنساء من مختلف الخلفيات للتشاور حول أنشطة يمكنهن القيام بها، ومن خلال هذه الاجتماعات التي حضرها نساء بدو ونساء قاهريات وأجنبيات كان الجميع حريصا على الوصول لتفاهم واحترام متبادل فيما يخص العادات والسلوكيات التي يرى البعض أنها متناقضة.
أتت سلوى نصار إلى دهب برفقة زوجها الطبيب الذي كان يقضي فترة تكليفه في دهب في نهاية الثمانينات. أعجبتهم المدينة والطبيعة فقرروا الاستقرار هناك. تضحك قائلة:”في البداية خفت من الوحدة فكنت أذهب مع زوجي إلى عمله أساعده. وكثيرا ماركبت معه سيارة الإسعاف لنقل مرضى إلى مدن أخرى". من خلال مساعدتها له واحتكاكها شهدت ارتباك المرأة البدوية أمام بعض المظاهر الحضرية وشهدت ارتباكهن بين الثقة في الطب وبين بعض معتقداتهن الخرافية بشان الصحة والمرض. احتاجت فترة لتوطد علاقتها بهن بسبب بعض الأفكار عن الهوة بين "البدوي" و"المصري". ولكن يبدو أنه بسبب اتجاهها وزوجها إلى العمل الاجتماعي نجحوا في تجاوز هذه الهوة سريعا. فزوجها الطبيب محمد حسين هو مدير جمعية تنمية المجتمع المحلي في دهب.
عملت السيدة سلوى كمدرسة لغة عربية في حضانة للأطفال ثم في مدارس التعليم الأساسي، ومن خلال عملها لاحظت معدل التسرب العالي من التعليم، وعدم إقبال البدو على تعليم اولادهم أو تركهم يستكملونها. بعض المدارس تسمح لأولاد البدو بالخروج مبكرا لكي يساعدوا الأهل في العمل. بعض البنات تهرين من المدرسة لتبيع الاكسسوارات على الشاطيء. ولكن الكل في النهاية ينجح وينتقل للمرحلة التالية.
ولذلك شعرت بضرورة وجود جهود موازية تحاول محو أمية بعض الطلاب والطالبات الذين وصلوا إلى المرحلة الإعدادية والثانوية بينما هم فعليا لا يعرفون القراءة والكتابة بشكل جيد.
جهودها العفوية الخاصة أو من خلال جمعية تنمية المجتمع بدأت تتخذ شكلا رسميا من شهر مارس الماضي بعد اختيار وزارة الصحة والسكان لها كناشطة شئون المرأة في مدينة دهب. وبالإضافة إلى ذلك مشروع الجمعية التي ستسمح بتضافر جهود أهلية مع عملها الرسمي. تقول سلوى: “نساء كثيرات الآن يشعرون بالانتماء للمدينة ويردن ممارسة أنشطة تتعلق بنظافة المدينة والبيئة وتنمية المجتمع ومساعدة المرأة البدوية على الاستفادة من السياحة بشكل أفضل من خلال تطوير مهاراتها في الحرف اليدوية وتسويقها".
مزجت السيدة سلوى بين اهتمامها بثلاث مجالات، محو أمية بنات وسيدات البدو، تعليم الأجنبيات اللغة العربية، تعليم التجود لنساء قاهريات وبدويات. تقول أنها مزجت بين الأساليب الثلاثة: فتجويد القرآن يقوي اللغة العربية، والأسلوب العملي في تعليم الأجانب العربية فعال في مجال محو الأمية.
على مستوى شخصي ترى السيدة سلوى أن الحياة في دهب ساعدتها بشكل روحي على اعتياد الحياة الهادئة التي تشغلها بالذكر والتأمل.
أنماط حياة متنوعة تحتملها المدينة الصغيرة التي يتجاور فيها أفراد أتوا من خلفيات مختلفة. الحياة في مدينة كهذه يتطلب قدرا من التفهم وتقبل نمط حياة الآخر وقدر من التداخل معه. ما يقلق طارق وهبة هو تحفظ شباب كثر من العمل في السياحة بسبب تقديم الخمور، يقول أن بعض الشباب الذين استمروا للعما معه لفترة طويلة تدينوا ويرفضون الأن أي تعامل مع الخمور، بعض العاملين الجديد يحزم أمتعته ويرحل بعد أيام خوفا من إثم التعامل مع الخمر. يقول طارق وهبة أن قلق على مستقبل السياحة في مصر بسب المد الديني ولا يريد أن يربط أبنائه بمجال السياحة لذلك، هم يساعدونه الان حتى يجدون فرصهم التي ستكون غالبا في القاهرة أو خارج مصر. ولكن بالنسبة له فهو استقر هنا مع مشروعات عمره بعد أن قام بمغامرته والنتيجة حتى الآن لا بأس أبدا بالنسبة له رغم المخاطر والهواجس.


نشر في "الشروق" الخميس 5 أغسطس 2010
PDF
الصورة لـ محمد الميموني

هناك تعليق واحد: