هناك طريقة لممارسة السياسة من داخل السلطة تراعي بعض مصالح الشعب لكن مع ضمان دوام سلطة الحاكم. هذه هي خلاصة فكر نيقولا ميكيافيللي في كتابه الشهير "الأمير". البعض يراه شيطانا رجيما والبعض يراه مفكرا واقعيا. الصورة النمطية للشباب الذي يختار الانضمام إلى الحزب الوطني تضعهم كأتباع لميكيافيللي، الشيطان تارة و الواقعي تارة. ولكنهم في صورة أخرى يرسمونها هم يخوضون جدلا مع طيف أفكاره، ويتحركون بين القناعة التامة بالحزب وسياساته ورجاله والمستقبل المشرق معهم، وبين الاعتراف بسلبيات الحزب الحاكم مع أمل في إصلاح ممكن من الداخل لأنه المنفذ الوحيد للسياسة.
شباب الحزب الحاكم :
السياسة على أرض الممكن والمصلحة والطموح الواقعي
"هذه الواجهة جديدة" يشير يوسف ورداني مبتسما إلى الواجهة اللامعة للمقر الرئيسي للحزب الوطني المطل على كورنيش النيل بالتحرير. يخطو داخله متحمسا متوجها إلى مقر إدارة الموقع الإلكتروني للحزب الذي تولى مسئولية تحريره مؤخرا. تبدو الإجراءات لأول وهلة مشددة، ولكن إلى حين حضور شخصيات هامة يتراخى رجال الأمن قليلا ولا ينتبهون إلا لتصاريح دخول الكاميرات. لا تبدو الحركة كثيفة ذلك الوقت رغم ما يقوله يوسف في المصعد من أن معظم الأمانات المركزية هنا إلا أمانات قليلة منها أمانة الشباب التي توجد في مقر الحزب في عابدين، مؤكدا أن التردد على هذه الأمانة تحديدا يتم بكثافة غير عادية.
“تضم أمانة الشباب ما يزيد عن 100 ألف شاب. يشتركون في أنشطة مختلفة. الأعضاء من سن 18 عاما إلى 40 عاما يمثلون 60% من عضوية الحزب التي تجاوزت الآن الملايين الثلاثة" يؤكد يوسف على أن ذلك انعكس على اهتمام الحزب مؤخرا بالإنترنت، الساحة الشبابية النشطة التي يبدو أن المعارضة والحركات الاحتجاجية تجتذب فيها الاهتمام الأكبر.
"في أول اهتمامي بالسياسة لم تكن ساحة الإنترنت نشطة كما هي الآن وكان عليّ أن أبحث بطرق تقليدية عن برامج الأحزاب المختلفة التي فكرت في الانضمام لها. كان يجب أن أذهب إلى المقرات لأطلب البرامج وشعرت أحيانا أني أطلب وثيقة سرية" يحكي يوسف ورداني، الذي تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 2002، أنه بدأ الاهتمام بالسياسة قبل دخوله الكلية وكانت الخيارات التي فكر فيها هي "الناصري" و"التجمع" و"الوفد”: "لم أكن منجذبا للناصرية، وبدت لي الأفكار الاشتراكية لحزب التجمع ساعتها غامضة وصعبة، كنت أكثر ميلا لليبرالية وفكرة الوحدة الوطنية كما جسدها حزب الوفد. توجهت إلى مقره بالغربية حيث كنت مقيما لفترة هناك" يحكي يوسف ضاحكا أنه خرج محبطا من التجربة لأن أحدهم سأله بروح استنكارية عما أتى به إلى هنا ولماذا، وآخر قال له أن كل الأحزاب مجرد صحف وعليه أن يوفر وقته وجهده. في الجامعة تاثر بكتاب "تطور النظام السياسي في مصر" لأستاذه القيادي في الحزب الوطني د.علي الدين هلال وبما عرف من معلومات عن الحزب :"وجدت المباديء بسيطة بالنسبة لي كشاب في مقتبل دراسته الجامعية. ووجدت جماعة سياسية كبيرة وهيكل مؤسسي تنظيمي قوي. وطرق منظمة للترقي داخله وتشجيع كبير للشباب".
بعيدا عن صخب المظاهرات والروح النضالية لتجمعات الطلبة المعارضين والسياسة ذات الشعارات الساخنة أو الآمال البعيدة، ينضم مئات الطلبة في الجامعة للحزب الوطني لأسباب يرونها عملية وأكثر بساطة كما يذكر يوسف ورداني، لا تبدو السياسة فيها كصراع أو معركة بقدر ما هي مجال للإنجاز الشخصي والجماعي فيتم البحث عن كيانات ملموسة مؤهلة لذلك وليس الاشتراك في خلق أخرى أو الانحياز برومانسية إلى كيانات صغيرة جديدة لا تملك غير الأمل والحماس.
جيل المستقبل
بعد انتهاء مرحلة الجامعة يبدو أن خدمات التدريب والتأهيل تمثل مسارا مميزا آخر لعضوية الشباب، من هذا المسار انضمت أمل عبد العزيز، أمينة الوحدة الحزبية لـ"فتيان وفتيات مصر" بمنطقة مصر الجديدة وعضو المجلس المحلي هناك. تحكي أمل أنها تعرفت على الحزب الوطني أثناء تلقيها دورات الإدارة في جمعية "جيل المستقبل" التي يرأسها جمال مبارك، رئيس لجنة السياسات بالحزب. رغم أنها خريجة كلية الزراعة إلا انها بعد التدريب توجهت لاستكمال لدراسة إدارة الأعمال وتعد الآن للحصول على درجة الماجستير فيها من الجامعة الأمريكية.
بعيدا أيضا عن الجدل السياسي، تمثل الأنشطة الخدمية التي تقدمها أمانات الوطني في مجال التدريب والتوظيف بابا لنسبة من عضوية الشباب، ولكن تقارير أمانة العضوية بالحزب تشير إلى زيادة الإقبال على طلب العضوية بشكل ملحوظ بعد المؤتمرات العامة للحزب، ربما بفعل التناول الإعلامي للمؤتمر.
توجهت أمل إلى مقر الحزب الوطني في مصر الجديدة وتقدمت بطلب عضوية مباشرة عقب المؤتمر العام للحزب عام 2002. تقول أن أجواء المؤتمر التي نقلها الإعلام شجعتها على الاقتراب من العمل السياسي وذلك بعد أن استفادت من خدمات جمعية "جيل المستقبل" ورأتها تطبيقا واقعيا للشعارات التي يرفعها الحزب عن الفكر الجديد.
تؤكد أمل عبد العزيز أنها كانت على الدوام نشطة سواء في المدرسة أو الجامعة في اتحاد الطلاب، ولكن كانت نظرتها للمعارضة أنها إما "حركات هدامة" على حد تعبيرها أوتصرخ وتحتج ولكنها تفتقر لبرامج وآليات حل المشاكل.
ترقت أمل من عضو بالحزب إلى أمينة مرأة بوحدة حزبية إلى أمينة لوحدة حزبية. لم يكن المشوار سهلا كما تقول: “أنا اتبهدلت علشان أوصل. المرأة تجد صعوبة كبيرة مع المستويات القاعدية في الحزب ولا توجيهات المستويات العليا. الرجل المصري رجل شرقي في الحزب وفي البيت. والمرأة النشيطة في الحزب إما أن تكون غير متزوجة أو تكون زوجة عضو نشيط. لو كان غير ذلك فإما أن تستقطبه وإما أن تنفصل أو تنسحب!”.
نشاطها في أمانة المرأة ثم أمانة مهتمة بشكل أساسي بالشباب جعلها تركز على الأنشطة الاجتماعية والخيرية، التي تقول أنها تجتذب المزيد من الراغبين في أن يكونوا إيجابيين ولكنها تعود وتؤكد أن العمل بالشعارات السياسية ضروري في لحظات بعينها مثل الانتخابات.
لحظات الرواج السياسي قد تقترن مع أبواب أخرى للعضوية مثل الترشيح الشخصي من المعارف وعبر تزكية شخصية وهو ما حدث مع يوسف بشاي، خريج الجامعة الأمريكية والمحلل المالي بإحدى المجموعات الاقتصادية.
كانت بدايته مع الحزب بفضل معرفته الشخصية بأحد مرشحي انتخابات مجلس الشعب في دائرة المنيل حيث يسكن. كان لا يزال طالبا يدرس الاقتصاد والسياسة، وفكر في أنه يريد أن يقترب ويشارك لا أن يكون مجرد متابع. الاتجاه للمعارضة لم يكن خيارا لديه فهو يراها مجرد "مكاتب وصحف" ولا وجود لها حقا في الشارع. بينما كان يريد أن يبدأ فورا في خدمة مجتمعه الصغير وأن يدفعهم للإيجابية بإقناعهم باستخراج بطاقات انتخابية.
يقول يوسف بشاي: "خلال سنتين نشطت خلالهما في الحزب في منطقة المنيل لمست أن دوافع الشباب القريبين مني للانضمام تتخلص في دافعين: الرغبة في التأثير في المجتمع الصغير أو الحي. والرغبة في التشبيك وتنمية شبكة العلاقات ودائرة الاتصال والتأثير. أعتقد أنهم دافعين غير متعارضين. لأن السعي للمصلحة الشخصية لا يتعارض مع المصلحة العامة، ولكن في بعض الأحيان قد يغلب الدافع الثاني على الأول ولكن التنظيم الجيد يحول دون ذلك".
من خلال نشاطه في أمانة التثقيف والتدريب بالحزب، لمس يوسف ورداني أيضا أن دافع العديد من الشباب هو الاستفادة من الخدمات التي يقدمها الحزب، بدءا من الرحلات والأنشطة الترويحية وصولا إلى تسهيل القروض الميسرة وفرص العمل. يؤكد أيضا أن الرغبة في الترقي الشخصي ونسج العلاقات داخل الحزب ليست عيبا: "شعور الأفراد بالرضا الذاتي ضروري لأي مؤسسة أو جماعة لكي يمكن أن تكون كيانا ناجحا، بشرط ألا يطغى ذلك على المصلحة العامة للكيان".
خدمات غير سياسية
تنتقد المعارضة اجتذاب الحزب الحاكم للشباب عبر الخدمات والتدريب والتوظيف والعمل الاجتماعي، وهي مجالات بعضها قد يكون مسئولية الدولة لا الأحزاب وبعضها مجال للمجتمع المدني. تتهم المعارضة الحزب الحاكم باستغلال سلطات وإمكانات الدولة أو التداخل معها أثناء تقديم هذه الخدمات. بالإضافة إلى أن هذه الطبيعة تراها بعض الاتجاهات طبيعة "غير سياسية" تتناقض مع فكرة الحزب السياسي، الذي تصفه معظم الأدبيات السياسية بأنه كيان معبر عن مصالح فئات بعينها ويخوض صراعا سياسيا من أجل الدفاع عنها في مواجهة مصالح أخرى.
"السياسة كما أراها ليست أفكارا وأيديولوجيات. السياسة إدارة وتنظيم وحلول للمشكلات" هكذا يرى يوسف بشاي، مضيفا أن صراع المصالح "كلام كبير" وأن التوازن بين المصالح المختلفة هي مهمة المسئولين التنفيذيين.
يقول أنه من موقعه كفرد من الطبقة الوسطى ويعمل في مؤسسة حديثة يرى أن سياسات تحرير الاقتصاد تسير بخطوات بطيئة، بينما قد يراها موظف في الدولة أوعامل خطوات سريعة تضغط عليه:"لا أعتقد أن مشكلة بلدنا تكمن في صراع سياسي بين حكومة ومعارضة بقدر ما هي مشكلة إدارة وموائمة تحقق التوازن".
ولكن سواء فيما يخص إدارة الصراع السياسي أو الإدارة التي تحقق التوازن، لا يبدو أن صورة الحزب الحاكم جيدة في الإعلام الجماهيري الخاص، بعيدا عن إعلام الدولة وصحف الأحزاب المعارضة. وهو مؤشر على أن المزاج العام للمجتمع المصري يميل لعدم الرضا عن أداء الحكومة ووصم الحزب الوطني بأنه مجتمع للمنتفعين والفاسدين والراغبين في الصعود الاجتماعي والمنافقين للسلطة.
يعتقد يوسف ورداني أن هذه الصورة السلبية في رأيه سببها رغبة الإعلام في الإثارة وجذب الجماهير ولكنه يؤكد أنها كانت موجودة بين الناس بشكل أقوي قبل خمس سنوات، ويشير إلى أن بعض أعضاء الحزب بالفعل كان يخجل من إعلان عضويته للناس، ولكنه يعتقد أن الحزب الوطني قطع أشواطا في التحول إلى مؤسسة منظمة تعمل بكفاءة أكثر وتبعد عنها الفاسدين والراغبين في مجرد مصالح شخصية. مثله يعتقد يوسف بشاي أن الصورة السلبية موجودة لأنها انعكاس لوضع عام للمجتمع العام ولا يجب أن يتحمله الحزب الحاكم وحده :"هناك مشكلة اجتماعية تتعلق بعدم احترام سيادة القانون واحترام افكار حقوق الإنسان. والحزب الوطني يخالف القانون مثل غيره لأن طرفا مثل الإخوان على سبيل المثال يستخدم الدين بالمخالفة للقانون والدستور. لا يمكن أن نتوقع أن يتم الصراع السياسي بشكل مثالي في ظل وضع مصر الحالي".
عند الحديث عن انتقادات للحكومة في مجال انتهاك حقوق الإنسان أو الحقوق السياسية، يبدى يوسف ورداني حساسية كبيرة قائلا أن التقدم في هذا المجال كبير وأن الحكومة تبدي مرونة كبيرة حتى في مواجهة "المعارضين غير الشرعيين" – على حد تعبيره - مثل الإخوان المسلمين.
كذلك ترى أمل عبد العزيز :"دمي بيتحرق كل يوم من الجرايد وبرامج التوك شو. هناك هجوم شرس على الحكومة والحزب. حتى أسرة الرئيس لا تسلم منهم. كل هذه الحرية ويتحدثون عن انتهاك حقوق سياسية وقمع؟".
تبدي أمل عبد العزيز دفاعا حارا عن الحزب والرئيس رغم أنها لا تنكر معدلات الفساد العالية التي لا ترى الحكومة وحدها مسئولة عنها أو مسئولة عن القضاء عليها فورا:"في الحزب الوطني مثلما في غيره. من منا لا يمتلك علاقات ولا يستفيد منها"، ثم تؤكد على أن العمل السياسي علمها خبرة ما يفتقر إليها الكثير من الشباب في رأيها: "أن تكون صبورا. ترى الغلط وتصبر عليه قليلا. ليس موافقة عليه ولكن لأنك تعرف جيدا طبيعة الأشياء وأن الأمور لن تتغير سريعا".
وسطاء بين الناس والدولة
أثناء دراسته في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في أواخر التسعينات يحكي عمرو عبد الرحمن أن تجمعا للطلبة المعارضين نجحوا في اجتذاب كتلة كبيرة من الطلبة القادمين من خارج القاهرة والمقيمين في المدينة الجامعية، وأقنعوهم بالترشح في انتخابات اتحاد الطلبة على قائمتهم. لم يكن لمعظم هؤلاء الطلبة علاقة بالسياسة بقدر ما كان يجمعهم رغبة في دخول اتحاد الطلبة ونفور عام من الحزب الوطني. وكان أن نجحت هذه القائمة ليس بسبب ميلها السياسي ولكن بسبب "العصبية" التي دفعت أبناء المحافظات المختلفة للتصويت لبلدياتهم وبسبب مناقشة هؤلاء لمشكلات الطلبة التفصيلية وليس القضايا السياسية. والذي حدث بعد ذلك هو أن معظم هذه الكتلة من الطلبة التحقت فيما بعد بالحزب الوطني.
يقول عمرو عبد الرحمن، الباحث والمحلل السياسي ومدرس العلوم السياسية بجامعة إسكس في بريطانيا: "ما حدث هو ديناميكية معروفة في العمل العام في مصر. المستويات القاعدية التي تتعامل مع جماهير غير مسيسة، والملمح الخدمي والعصبي هو السائد. وإذا كنت تريد أن تلعب لعبة الانتخابات من أجل تمثيل أهلك وعصبيتك ومن أجل خدمتهم يجب أن تتوسط للناس عند الدولة، ساعتها تكتشف أن الحزب الوطني هو نفسه الدولة أو مدخلها. عند الاحتكاك الحقيقي بالحزب يرى الشباب أناسا عاديين وليسوا شياطين ينفخون النار كما تصورهم أحيانا صحف المعارضة، ساعتها تهدأ حماستهم ويفكرون بشكل عملي".
الطلبة القادمون من الأقاليم نموذج لنمط موجود في الريف وأحياء شعبية فيما يرى عمرو عبد الرحمن، يلتحق بالحزب لكونه ممثلا لجهاز الدولة في المنطقة أو القرية، وهو ما لا يعكس أي تحول على مستوى الأفكار على الإطلاق: "يمكن أن تجدد بينهم من يكرهون النظام أو متعاطفين مع الخطاب الإسلامي في طبعته السلفية العامة. لكن تحركهم قناعة راسخة بعدم جدوى المعارضة والخروج على جهاز الدولة، وضرورة الحفاظ على صلة دائمة مع هذه الدولة عبر حزبها، الحزب الوطني".
ولكن هناك نمط آخر يمثله أبناء الطبقة الوسطى الحضرية الذين يصفهم عمرو عبد الرحمن بأنهم يشكلون "الطبقة السياسية" بلغة الصحافة: “هم شباب يشعرون بالرغبة في لعب دور عام، يرون أنفسهم محبوبين ولديهم قدرات تنظيمية وسياسية، لديهم حظ من الاهتمام بالشأن العام، يجمهم تقدير غامض للوضع القائم رغم نقدهم له أحيانا، التحاقهم بالحزب هو أيضا التحاق بالدولة ولكن هنا من أجل الاستفادة من إمكانياتها في لعب هذا الدور الذين يطمحون إليه، وليس من أجل الخدمات المحددة مثل النمط السابق".
يشير عمرو عبد الرحمن إلى شريحة أضيق داخل هذا النمط، تمثلها الشباب ذوي التعليم المتميز والكفاءات والمواهب و يرغب بشكل واضح في احتلال موقع مميز داخل الدولة ولا يطمح للعب دور على المستوى المحلي مثل باقي الشباب ولكن عينه على تمثيل الدولة في مستويات عليا مباشرة وهؤلاء يتمتعون بكفاءات ومواهب يلاحظها أساتذة وقيادات فيقربونهم منهم سريعا ويدخلون الحزب الوطني للعمل في مهمات بحثية أو تحليلية أو استشارية.
يختلف عمرو عبد الرحمن مع الرؤية المشيطنة لهؤلاء الشباب، ويتفق مع كونها نتاج مزيج من تشوش الرؤية عند قطاعات إعلامية وسياسية معارضة، مع تعمد شيطنة يخفي خلفه معرفة أن الأمر ليس بهذا السوء. ولكنه في النهاية يرى أن الشباب الذين يلتحقون بالوطني يساهمون بوعي أو دون وعي، رغم نوايا بعضهم الطيبة، فيما يقوم به الحزب الوطني من إغلاق لمنافذ الحياة السياسية بشكل ما وهو ما يحول دون تحول الحزب الوطني نفسه لحزب تنافسي بدلا من كونه مرتبطا بالدولة.
أغلبية الأقلية
كشف آخر استطلاع رأي أجراه مجلس معلومات مجلس الوزراء على عينة من الشباب في إبريل 2008، أن 1 % منهم فقط يعرفون عدد الأحزاب السياسية في مصر ولو على وجه التقريب. بينما نسبة 7% منهم منضمون لأحزاب سياسية، غالبيتهم العظمى انضموا للحزب الوطني. عوامل تفضيلهم للحزب كانت كالتالي: 20% لأنه الحزب الأقوى والأكثر شعبية، 22 % لأن الانضمام إليه يتيح فرصة لتحسين أحوال البلد و23% لأنهم لهم أقارب وأصدقاء داخل الحزب.
تقرير التنمية البشرية الصادر هذا العام عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ، ومعهد التخطيط القومي يقسم الشباب المشاركين في العملية السياسية إلى فئات، أكبرها الفئات التي تم دفعها نحو الاستبعاد خارج العملية السياسية لعدم اقتناعهم بجدوى السياسة، ثم الفئة التي تم جذبها بالاستقطاب من قبل الحزب الوطني أو الإخوان، ثم فئة أقل يصنفها التقرير أنها "فئة معتدلة" مهتمة بالمشاركة بالأساس من خلال المجتمع المدني أو الإنترنت.
يشير التقرير إلى أن جماعة الإخوان تستقطب الشباب بمزيج من الخدمات والدعم المعنوي المتمثل في الدعوة الدينية، أما الحزب الوطني فيستخدم "إستراتيجية تشبه إستراتيجية جماعة الإخوان المسلمين من حيث تقديم الخدمات، وتنظيم الرحلات، وتقديم المنح الدراسية لتعلم اللغات، والكمبيوتر والحصول على الرخصة الدولية لقيادة الكمبيوتر ICDL ، إلى جانب رعاية الأحداث الرياضية. ومع هذا تقدم خدمات الحزب الوطني الديمقراطي في إطار نشر فكره، وفكر قادته، وإنجازاته، ولكنه لا يشجع الفكر النقدي، على خلاف جماعة الإخوان المسلمين التي تشجع النقد السياسي" وفق ما جاء في التقرير.
فقه الدفاع عن "الوطني" على الإنترنت
وسط غابة من الرسائل ذات النفس المعارض تتبادلها شبكة الناشطين والمدونين البارزين، على خدمة تويتر Twitter.com لتبادل الرسائل القصيرة، ستندهش إن قرأت تعليقا لمحمود إبراهيم (M_ibr) أو حوارا بينه وبين وائل عباس المدون المشاغب البارز. محمود يدافع عن الحزب الوطني ويسخر من المعارضة سخرية لاذعة، ولا يخفي أنه عضو في الحزب الوطني رغم ما يترتب على ذلك من متاعب وسط غابة المعارضين على الإنترنت وحتى في الحزب الوطني على أرض الواقع.
“أظنني أنني وعبد الله كمال رئيس تحرير روزاليوسف من نعلن أننا أعضاء في الحزب الوطني على تويتر" يرى محمود ذلك طبيعيا بشكل ما:” خدمات الإنترنت أدوات اجتماعية تتداولها أوساط بعينها، وبعض الأدوات شائعة فقط في أوساط الناشطين المعارضين. من ناحية أخرى لو أعلنت أنك عضو في الوطني أثناء أي نقاش تفقد مصداقيتك لدى الآخر، ويترك موضوع النقاش أيا كان ليتحول إلى انتمائك للحزب والحكومة وتواجه هجوما عنيفا. أعتقد أن معظمم شباب الوطني يتجنبون هذه الاحتكاكات".
تبدو ساحة الإنترنت كوسط معارض، وحضور الحزب الوطني ومؤيدي النظام باهتا وضعيفا. حتى داخل مجموعات الحزب الوطني على فيس بوك تجد من يدخلون خصيصا لتوجيه انتقادات هادئة أو سبابا عنيفا. ورغم بعض التطوير والتوجه لاحتلال مساحة على الشبكات الاجتماعية الأكثر شعبية مثل فيس بوك وتويتر وفليكر ويوتيوب، إلا أن الحضور لا يزال ضعيفا. ولا تزال اللجنة الإلكترونية المسئولة عن ذلك انطوائية ولا تفضل الحديث مع الصحافة رغم طبيعتها الإعلامية!
يبتسم محمود إبراهيم متجاوزا التعليق على رفض اللجنة الإلكترونية التحدث مع الصحافة قائلا:”أعتقد أن خوف شباب الوطني من الاحتكاك على الإنترنت شيء سلبي عموما. ولكن أنا قوي وواثق من نفسي ولا أخشى ذلك”.
يخوض محمود مناقشات حامية مع منتقديه ويرد السخرية بمثلها أو أكثر، ويعترف أنه قد يكون حادا بعض الشيء أمام بعض تجاوزات البعض بحقه أو أمام جهلهم بحقائق بسيطة في رأيه:”أعتقد أنا أكتر واحد اتعمل له بلوك Block في تاريخ تويتر. وأحيانا أجد من يرسل إليّ ويشتمني بعنف بدون سابق أو حوار أو معرفة لمجرد أني عضو في الحزب الوطني".
تحت عنوان "فقه الدفاع عن الحزب الوطني" يكتب محمود في مدونته "مصر اللي بحبها" بنبرة هادئة عن شعوره "كدخيل" على الإنترنت التي تتنفس معارضة: "الكل ضد النظام، يختلفون مع بعضهم الي درجة الكراهية بل وأحيانا الاعتداء علي بعضهم باليد حينما يلتقون، الا انهم في النهاية حينما يصل اتوبيس معارضة النظام يركبون جميعا. ليس هذا بالامر السئ فأكيد ان كل سلطة و أي سلطة في العالم لها معارضيها زاد أو قل العدد. القضية بالتأكيد ليست هنا في مجال الكثرة العددية لانهم يمكن حصرهم جميعا في 500 شخص علي اقصي تقدير وهو ما يستطيع الحزب الوطني و بدون أي اموال (كما يدعون دائما) حشد عدد كبير من الاعضاء يفوق هذا العدد بمئات الالاف. و لكن القوة هنا بقوة التأثيروكل شخص فيهم له تأثير في عدد واسع من المؤيدين (عن علم اوجهل) و هذه حقيقة لا يمكن اغفالها". ويضيف أنه يعترف بكثير من السلبيات التي يشير إليها الكثيرون ولكنه يؤكد أن هناك فارقا أن تكون مؤيدا للنظام وبين أن تكون جزءا منه. وأنه كما يقف ويصفق لما يتفق معه من سياسات فإنه يعلن علانية انتقاده لما يراه سلبيا.
تحت عنوان "حديث هاتفي مع ميكيافيللي" كتب محمود في مايو 2008 متخيلا أن نيقولا ميكيافيللي صاحب كتاب "الأمير"- الذي قدم منهجا وفلسفة في كيفية حفاظ صاحب السلطة على سلطته – قد اتصل به فجرا مستاء من ترتيب ماحدث آنذاك، من زيادة العلاوة الاجتماعية ثم رفع أسعار سلع حيوية بعدها مباشرة، مذكرا محمود أنه نصح "الأمير" بعكس ذلك. يدور حوار طويل حول بعض السياسات الاقتصادية يختمه ميكافيللي بقوله: "عايز اقول لكم يلعن ابو اللي علمكم السياسة انا متبري منكم"، وذلك بعد أن أوصاه وصية: "ابقي ابعت نسخة من كتابي لأعضاء الحكومة والحزب بتاعها ". يضحك محمود معلقا:”كان قصدي أنه حتى ميكيافيللي لا يرضى بهذا الأسلوب!”.
تسببت انتقادات محمود لبعض سياسات الحكومة في مشاكل له داخل الحزب. يحكي أن بعض الشباب أخبروا لبعض القيادات الوسيطة أنه مدون ويكتب عن بعض فاعليات الحزب وينتقد أحيانا. وتسبب ذلك في توتر بينه وبين الأمين السابق لأمانة شباب القاهرة، حتى أن محمود ترشح في انتخابات المحليات مستقلا ضد مرشح الحزب، وأعلن في مدونته أنه شهد تزويرا مارسه الحزب الذي ينتمي إليه لصالح منافسيه
يدافع محمود عن الحزب والحكومة رغم اعترافه بوجود التزوير والكثير من السلبيات الأخرى: “ التزوير يحدث مجاملة أو كجزء من ثقافة عامة للمصريين. والصراع غالبا بين الوطني ونفسه. بين من ترشحوا من داخل الحزب والذين ترشحوا مستقلين. حسنا، هناك مشاكل وسلبيات كثيرة، ولكن ما الذي يمكن عمله؟ لنكن واقعيين. السياسي الشاطر هو من يسأل نفسه ما هي الخطوات إلى التغيير. أنا لا أرى تغييرا ممكنا إلا من داخل النظام. تغيير تدريجي وبخطوات بطيئة. ومع الوقت يزداد الطلب على السياسة والديمقراطية، حسب تعبير عبد المنعم سعيد، ولكن الآن لا بديل حقيقي غير الحزب الوطني".
في رأي محمود أن المعارضة تقدم للناس في خطابها ما يريدون أن يسمعوه لا ما يحتاجوه ولذلك يجد كلامها رواجا في الإعلام وعلى الإنترنت:”كلما ازددت قربا من المعارضة احترمت الحكومة أكثر. كثير من أصدقائي المعارضين قالوا أني غيرت نظرتهم للحزب الوطني. الأسهل أن تعارض، ولكن الأصعب أن تكون إصلاحيا من داخل النظام".
من الوطني إلى المعارضة:
"كنا مجرد أذرع لمراكز اتخاذ قرار .. والإصلاح من الداخل مستحيل"
رغم الجذور الوفدية في عائلته، وجده الذي كان عضو الهيئة العليا للوفد وقتما أسسه سعد زغلول، وأبيه الذي نشط فترة مع الحزب في شبابه، إلا أن عبد المنعم إمام اختار عام 2000 أن ينضم إلى الحزب الوطني في المحلة حيث يسكن بينما كان لا يزال في الثالثة عشرة من عمره.
يقول عبد المنعم أن ذلك جاء بعد شعوره بالرغبة في النشاط في المجال العام، وبعد أن شجعه أصدقاء له في الحزب بينما كانت صورة المعارضة في وعيه باهتة آنذاك. لم يعترض والده بل على العكس شجعه في نقاش بينهما إن كان ذلك قرارا صائبا وإن كان من الأفضل أن ينضم لحزب معارض. يذكر عبد المنعم جيدا ما قاله له والده: “لو دخلت حزب معارض ستموت بالداخل بلا جدوى ولن تتعلم شيئا. في الحزب الوطني على الأقل ستتعلم السياسة ويمكن بعدها أن تختار طريقك".
ترقى عبد المنعم سريعا حتى وصل إلى الأمانة العامة للحزب، تراكمت بعض السلبيات التي كان يقاوم تأثيرها بدعوى جدوى الإصلاح من الداخل حتى جاءت لحظة فارقة. عندما طلب منه في انتخابات عام 2005 أن يشترك ويساعد في تزوير فرفض وتسبب ذلك في توتر كبير. يقول أن تلك كانت تجربة موجعة بالنسبة له وساعتها اتخذ قراره وترك الحزب.
يقول أنه في ذلك الوقت بدأت المعارضة تنتعش وترفع صوتها وظهرت حركات التغيير، حتى أن والده سأله مستنكرا:” إنت لسه قاعد في الحزب الوطني بتعمل إيه؟".
بعد تركه الحزب ظل سنة بلا نشاط سياسي، حتى وجد ضالته في حزب الجبهة الديمقراطية الذي أسسه عام 2006 أسامة الغزالي حرب، الذي خرج من الوطني أيضا. انضم عبد المنعم مع عدد من الشباب وأسسوا معا منظمة الشباب بالحزب التي يحتل عبد المنعم فيها منصب الأمين العام.
نسبة ليست قليلة من شباب الجبهة كانوا من الشباب المتحمس للتغيير من داخل الحزب الوطني، لكن صبره نفد ووجد في استقالة الغزالي حرب وتأسيسه حزبا جديدا شابا الطريق الأمثل. من هؤلاء أيضا شهاب عبد المجيد، رئيس نفس المنظمة في حزب الجبهة.
يحكي شهاب أن ميولا ليبرالية تشكلت لديه منذ صغره. وانضمامه للوطني جاء بسبب رغبته في التغيير وقناعته أن تغيير المؤسسة يجب أن يكون من داخلها، والحزب الوطني ليس كأي حزب آخر فهو بشكل ما جزء من الدولة. بالإضافة أن الأحزاب الأخرى لم تكن مقنعة له.
توجه لأمانة المعادي وملأ طلب عضوية مع عدد من أصدقائه. راحوا وجاءوا يسألون عن مصير الطلب. استخرجوا الكارنيه. ثم ماذا بعد؟ راحوا وجاءوا أيضا يسألون عما يمكن أن يقدموه. يقول شهاب أن هناك نسبة من العضوية هي مجرد أوراق وكارنيهات، ولكنهم أحسوا أننا نريد أن نعمل فعلا. بدأ شهاب وأصدقاءه يمارسون العمل السياسي، يجدون ما لا يعجبهم ولكنهم يعزون أنفسهم أنهم على الأقل يؤثرون في بعض الشباب داخل الحزب . ولكن شيئا فشيئا تراكم لديهم شعور أنهم أدوات وأذرع لمراكز اتخاذ قرار مغلقة وبعيدة، لا وجود للأفكار أو المباديء ولكن هناك حضور كبير لتبادل المصالح، هناك انتقادات عنيفة للحزب والحكومة داخل الحزب ولكن ذلك لا يقال في العلن ولو حاولت أن تتحرك لإصلاح ما يتم انتقاده فأنت مثير للشغب. ولكن يبدو أن الأمر الأقسى كان إحساس شهاب وأصدقائه أنهم أصبحوا محاطين بجيش من "المأجورين" على حد تعبيره.
يحكي أن أمرا جاء له ولخمسة من أصدقاءه مع آخرين عام 2005 بتشكيل مظاهرة في الحسين في مقابل مظاهرة للإخوان المسلمين. ذهب شهاب وزملائه يحركهم انتماءهم وحماستهم ولكنهم فوجئوا أنهم محاطين بالكثيرين ممن أتوا من أحل مبلغ مالي زهيد وساندوتش! يضحك شهاب :”وبصراحة، كنا قد رأينا ما يكفي. وعرفنا جيدا أنني وسط أطراف وأدوات تنفذ فقط. وأن الطرف المنفذ علاقته بالحزب هي الساندوتش. ولسنا في حاجة إلى الساندوتش".
مصير الأصدقاء الستة كان كالأتي، هو واحد آخر انضموا للجبهة فور تأسيسه، وواحد انضم للإخوان وثلاثة يأسوا تماما وابتعدوا عن السياسة.
خروج شهاب وعبد المنعم كان يأسا من فكرة الإصلاح من الداخل وكلاهما يردد بنفس اللفظ:”الإصلاح من الداخل مستحيل. تضييع وقت". ولكن لأنهما في لحظة ما داخل الحزب فهما يعرفان جيدا أن الصورة النمطية المشيطنة عن "عضو الوطني" ليست صحيحة تماما ولا تنطبق على الجميع. لكنهما يردنا على حجج الباقين على أمل الإصلاح من الداخل من أن بعض المشكلات هي ثقافة مجتمعية لا تخص الحزب، وأن الحزب واقعي يركز على حلول المشكلات لا الأفكار والأيديولوجيات.
ففي رأي عبد المنعم أن بعض مظاهر الفساد ومنها التزوير كان الحزب الوطني مؤسسة معنية بنشرها وتثبيتها والحفاظ عليها كأداة. أما عدم وضوح مباديء الحزب وأفكاره جعلت هناك خليط من ذوي الميول الاشتراكية والإسلامية يتلقون داخله مع آخرين ليبراليين، والنتيجة أن ما يجمع أفراده هو تبادل المصالح الخاصة وخدمة السلطة.
أما شهاب فيعلق على دعاوى واقعية الحزب ووسطيته واهتمامه بالسياسات التفصيلية لا بالأفكار الكبرى والأيديولوجيات بأن تلك الطريقة تعني غياب الرؤية السياسية، ويعتبر الأحوال المتردية نتيجة طبيعية لهذه الطريقة في النظر للسياسة: "أن تبحث عن حل لكل مشكلة بلا رؤية واسعة. فهذه طريقة إدارة كشك أو مقهى وليست برنامج حزب”. يتندر كلا من شهاب وعبد المنعم من أن الحزب الوطني الذي يتجه الآن لتطبيق سياسات ليبرالية لا يزال عضوا في الاشتراكية الدولية ولم ينضم بعد لتجمعات دولية ليبرالية انضمت إليها باقي الأحزاب الليبرالية المصرية ولكنه يضيف : "ولكن ذلك طبيعي ومنطقي إذا كان الكل في الحزب ينتظر الأوامر من فوق. واشتراكي الأمس أصبح ليبرالي اليوم وغدا ينتظر الأوامر الجديدة".
هذا الحزب من ذاك البلد
هناك دفاع شهير وشائع ضد أي انتقادات تشير إلى مشكلات وعيوب مؤسسة أو جماعة: “إنها ثقافة المجتمع الذي يحيط بهذه المؤسسة أو الجماعة ويؤثر فيها".
يستخدم هذا الدفاع من جانب شباب الحزب الوطني بكثافة عالية ضد الانتقادات الأكثر حدة التي توجه إليهم. مثلا: التعايش مع استغلال النفوذ والفساد، القبول بخلل الميزان الديمقراطي وزيادة ثقل اختيارات القيادات العليا عن اختيارات" شعب الحزب" من أسفل، قلة الاهتمام بالأفكار السياسية في مقابل التوجه نحو العناية الكثيفة بالإدارة عبر تقديم الخدمات ومحاولة حل المشكلات التي تظهر هنا وهناك.
هناك زاوية نظر ترى أن بعض ملامح الثقافة الاجتماعية السائدة تدعم دفاعهم: المقاومة الضعيفة للفساد في مستوياته الصغيرة، استبداد صغير في الأسرة وأماكن العمل واستغلال نفوذ صارخ عبر أسلوب "الواسطة" وتجاهل عادي ويومي للقانون، التذمر من أجل الحصول على خدمات أفضل وحل المشكلات مع غياب التفكير على مستوى سياسي في مجتمع مختلف يتجاوز مشكلاته بشكل جذري.
وفق وجهة النظر هذه يمثل الحزب الوطني "جماعة طبيعية" من المجتمع المصري تحمل عيوبه، ويكون اختياره من قبل الشباب الراغب في الدخول إلى ساحة السياسية اختيارا وجيها. فهو من جهة ساحة عملية لممارسة السياسة ومواجهة هذه المشكلات على أرضها بدلا من الإشارة إليها من بعيد عبر شعارات وأحلام سياسية لا يفهمها الجمهور. وهم في الوقت نفسه يعترفون بكل الخطايا والآثام التي يحملها المجتمع ومعه مجتمع أعضاء حزبه الحاكم، مع بعض الاعتذاريات والتبريرات والتخفيفات هنا وهناك.
ولكن الجانب الآخر لهذه الصورة ليس في صالح دفاع شباب الحزب الوطني عن اختيارهم. فالحزب الذي تتجلى فيه جوانب هذه الثقافة لا يبدو في نظر الكثيرين أنه ساحة للفعل السياسي الواقعي الذي يحاول تجاوز مشكلات هذه الثقافة. فزاوية النظر الأخرى ترى أن ساحات الحزب قد تكون محضنا لانتعاش هذه الثقافة وازدهارها وإعادة تصديرها للمجتمع، بحكم كونه في موقع السلطة وكونه قارب الراغبين في عسلها. وعن طريق اشتراك أعضاء الحزب أو سكوتهم عما يحدث وعن قمع أقرب الخيارات البديلة فهم شركاء أيضا في سيادة طريقة واحدة في التفكير في أي تغيير: التغيير من داخل السلطة نفسها، وبالإيقاع الذي يفضله القابضون عليها، إن كانوا يفضلون، وبدون الطموح إلى أي أفكار ومقترحات بديلة أو خيال سياسي مختلف.
بين المجتمع والحزب، الذي يحتل منذ نشأته موقع السلطة، علاقة جدلية معقدة، ولا يمكن تحديد ضربة البداية، فهي بعيدة الغور في تاريخ المجتمعات ووعيها السياسي والاجتماعي. والنتيجة حتى هذه اللحظة من المباراة وليدة الشد والجذب المتبادل بين السلطة والمجتمع، وقد يكون تأمل بعض التفاصيل والوجوه مفيدا من أجل رؤية الصورة المتداخلة والجدلية بين صورتين سائدتين مستخدمتان في الهجوم والدفاع: المجتمع المجني عليه في مقابل الحزب الجاني، أوالمجتمع المهتريء في مقابل الحزب الذي يحاول ستر عورته والسهر على نهضته.
نشر في "الشروق" الخميس 21 أكتوبر 2919
PDF
في الصورة: محمود إبراهيم، المدون الناشط في الحزب الوطني
المزيد