تصوير: أحمد كامل نقلا عن http://www.arabmediasociety.com
يثبت طارق "الكاب" جيدا فوق رأسه ويزيح طرفه إلى الجانب وهو يدخل إلى الدائرة المحددة برسوم وتكوينات فنية من عجينة خفيفة ونشارة خشب على أسفلت الشارع في مواجهة بيتهم في شبرا. هي ليلة حنة أخته، والبنات معها في شقتهم بالدور الثاني يرقصن على إيقاع الأغاني التي يشغلها الدي جي الموجود بالشارع والذي يقف في مواجهة مدخل البيت، وحوله يقف الشباب أو يجلسون مشكلين حلقة يحتلها طارق ومعه من يرغب في الرقص.
يرقص طارق معتمدا أكثر على حركات يديه التي تتشابك وتتموج، يضم قبضته ما عدا الإبهام التي يثبت بصره عليها ويعلو بها ويحبط. يتغير رقصه مع تغير الإيقاع واللحن. عندما يطغى الإيقاع الصعيدي، يضع كفه اليسرى تحت مرفق الذراع اليمنى المفرودة التي يلوح بها يمينا ويسارا وهو يفتح فمه وينظر إلى أعلى ويعقد حاجبيه في إيحاء بالصرامة ويرفع أحد رجليه عن الأرض قليلا. وقد يهز خصره قليلا مع الإيقاع المقسوم. الأغاني التي يغلب عليها الشعبي قد يتخللها بعض أغاني عمرو دياب ونانسي عجرم وقد تتحول فجأة إلى أغان أجنبية يغلب عليها غناء الراب وإيقاع الهيب هوب. وعندها يبدأ طارق في استعراض حركات أسرع بقدميه تتطلب لياقة أكبر فيبتعد معظم الشباب مشكلين حلقة حوله يتفرجون ويصفقون.
"اسمه تشكيل" يوضح طارق مبتسما وهو يمثل بيديه حركات تشبيك وتموج الأيدي "لكن واحد من فرقة أفراح قال لي مرة إن ده اسمه رقص اسكندراني".
الرقصة الاسكندراني الفلكلورية الشهيرة- المنتشرة أيضا في مدن ساحلية مختلفة، وتؤدى أيضا في مدن القناة على السمسمية – يحرك الراقص فيها يديه ممثلا طريقة لعب الكوتشينة: تفنيط الورق وتحريكه بمهارة وإلقائه على الطاولة، وبعدها يبدأ في تمثيل خلع الجاكيت ثم القميص وكأنه يخسر ويبيع ملابسه. ثم يبدأ في تمثيل تجرعه للخمر في حزن على خسارته ويضم قبضته ويفرد إبهامه كأنها مطواة يبدأ في جرح نفسه بها وكأنه يعاقب نفسه.
الرقص بالأسلحة البيضاء منتشر في الأفراح الشعبية في الشوارع، والحركات الأكثر سرعة التي تلوح بالسلاح قرب الوجه والعنق أو البطن والتي تتضمن مخاطرة تعد من قبيل المجاملة الكبيرة لصاحب الفرح أو إظهار الفتوة والشجاعة. ولو لم يكن السلاح موجودا فحركات التشكيل بالأيدي توحي بوجود السلاح بالإبهام المفرود المشهر. لا يحب طارق الرقص بالسلاح ويراه مبالغة ولكنه يؤدي تلك الحركات التي تعلمها من الشباب في الشارع أثناء الأفراح ويمزجها بحركات الهيب هوب ورقص الديسكو، فهو يذهب إلى حفلات الديسكوهات الرخيصة نسبيا في وسط البلد أو الهرم. ولكن التشكيل والرقص الشعبي لا يكون إلا في الشارع وعلى أغاني وموسيقى "المولد" الشهيرة.
ترصد جينيفر بيترسون، الباحثة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، في بحثها عن إعادة إدماج الإنشاد الصوفي في الموسيقى الشعبية الراقصة تحت عنوان "The re-popularization of Sufi inshad in Egyptian dance music" أن هناك عالما من الموسيقى المرتبطة بطريقة خاصة من الرقص تكاد أن تكون كلها وقفا على احتفالات الشارع فهي من فنون "تحت الأرض" underground بالمصطلح الغربي. وترى أن اختيار اسم "المولد" لمقطوعات موسيقية خالصة أو مصاحبة لأغاني يصور النقلة من الرقص في حلقات الذكر في الموالد إلى الرقص في الشوارع مع الدي جي أو الفرق الشعبية.
الفيلم الوثائقي "شعبي" إخراج أحمد رحال، يقول نفس الشيء بمونتاج يفاجيء المشاهد بالانتقال السلس من رقص الحاضرين في حفلة إنشاد صوفي لياسين التهامي إلى فرح شعبي في الشارع على خلفية أغنية للمطرب الشعبي محمود الليثي الذي يمزج حالة الذكر بالغناء العاطفي المرح أو الشجي.
التمايل وحالة السُكر والوجد الصوفية في حفلة الإنشاد يقابلها هنا حالة مشابهة فيها بعض الإيحاء بالغياب عن الوعي من نشوة الرقص أو ربما المخدرات التي تعد "واجبا" في الأفراح الشعبية القحة، وعدم توافرها يعد أحيانا سبة في حق أهل الفرح.
الرقص الشعبي الحديث هو رقص رجالي يستمد بعض عناصره من التمايل الصوفي والرقص الصعيدي بالعصا ورقص الهيب هوب – عالم الراب والهيب هوب تغلب عليه حالة ذكورية كبيرة مع استثناءات قليلة - وقد يستعير هز الخصر من الرقص البلدي الأنثوي بطبيعته. والجذور الريفية لمعظم عشوائيات المدن تستحضر حالة المولد وأجواء المنشدين الشعبيين ولكن الأجيال الجديدة التي تتخلى تدريجيا عن طقس حضور المولد، تعيش أجوائه في أفراح الشارع مع المغنين الشعبيين والدي جي الذي يعزف الإيقاعات الراقصة التي ورثت الاسم: "المولد"، ويرقصون رقصهم الحر ويتبارون في "التشكيل" الذي يستمد عناصره من أجواء عالمهم الجديد.
فيديو 1 - 2 - 3
--
نشر في الشروق 12 مايو 2009
نسخة PDF
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق