الجمعة، ٣٠ أكتوبر ٢٠٠٩

الذين ينتظرون تحت السلم



الفقراء النازحون من الريف بحثا عن فرصة رزق لا يجدونها، يسكنون تحت سلالم عمارات الفئات الصاعدة من أبناء الطبقات الشعبية، ليكونوا بوابين حتى يأتي الفرج أو لا يأتي.

عم إبراهيم بواب العمارة القديمة الكبيرة في شارع شريف باشا بوسط القاهرة، وعم صابر بواب العمارة الصغيرة الحديثة نسبيا في شارع محمد عبده بإمبابة، كلاهما لديه دكة البواب الشهيرة في مدخل بنايته. وكلاهما يتكيء ويرفع إحدى قدميه أمامه ويثني الأخرى تحته وهو يعدل من وضع جلبابه ليتخذ وضع الانتظار طوال النهار. ولكن في المساء يصعد عم إبراهيم إلى غرفته في سطح العمارة، بينما يخطو صابر عدة خطوات ليدخل حجرته تحت السلم ويخفض رأسه قليلا في الجانب الذي ينخفض فيه مستوى السلم.
كلاهما قدم من الصعيد من القاهرة بحثا عن رزق أوسع، إلا أن الفارق هو الذي يتسع بين عم إبراهيم "البواب الموظف" عند الشركة المالكة لعمارة وسط البلد وصاحب المهنة التي ينظر لها السكان نظرة اعتبار، وفي عمارتهم مكان مخصص له ولو كان غرفة صغيرة فوق السطح، وبين عم صابر وغيره من البوابين الذين يعتبرون أنفسهم "على باب الله" في عمارة "ناس على قد حالهم" لن يتذمروا لو حرموا من ترف وجود بواب لم يستعد تصميم عمارتهم لاستقباله ولن يضحي ملاكها بأي شبر من أجل مكان ملائم له، لهذا فهم يعتبرون حجراتهم تحت السلم إحدى عطايا ومنح السكان التي لا يمكنهم أن يعيشوا بدونها إن ظلوا بوابين فقط.

مكان المبيت إذن ليس إلا عنوانا للاختلافات بين عم إبراهيم وعم صابر. فالأول أتى من مسقط رأسه في مركز إسنا بقنا مع أخواله عندما كان عمره 13 سنة، وظل لمدة 47 سنة بوابا وموظفا رسميا عند الشركة الأجنبية المالكة للعمارة، التي عمل أخواله طباخين عند ملاكها. ثم أصبح موظفا حكوميا كبواب تابع لشركة التأمين الكبرى التي تملك العمارة الآن. وحجرته فوق السطح دفع إيجارها طوال هذه المدة من مرتبه. وهو المرتب الذي كفل لأولاده الأربعة مستويات متفاوتة من التعليم وحصل أكبرهم على ليسانس أصول الدين من جامعة الأزهر ويفخر عم إبراهيم أنه إمام مسجد قريب منه في شارع عبد العزيز.
أما عم صابر فأتى قبل 25 سنة من ملوي، ليعمل فترة كعامل بناء. إلا أن حالته الصحية تدهورت، فعمل مع أبيه البواب في العمارة التي كانت حديثة آنذاك في منطقة أرض الجمعية بإمبابة، وهي المنطقة التي بدأت من ساعتها في التحول من أرض زراعية لتنتهي الآن لمنطقة سكنية خالصة.
لا يوجد أجرحقيقي يتقاضاه عم صابر، ولكن كل مستأجر شقة من شقق العمارة الثماني يدفع له 5 جنيهات أول الشهر. يؤكد عم صابر على أن "الأربعين جنيه مش فلوس، لكن عايشين على إحسان أهل الخير وأحيانا نفحات السكان". عم صابر يعذر سكان العمارة، "معظمهم موظفين على قد حالهم"، ويعذر أيضا صاحب العمارة لأن إيجار الشقة في العمارة لا يزيد عن 25 جنيها شهريا، لذا لا يمكن يطالبه بأي شيء ويكفي أنه يأويه هو وعياله الأربعة، الذين لم يتمكن صابر من الإنفاق على تعليم أي منهم.

بواب مؤقتا
يعتبر عم صابر مسكنه تحت السلم إحدى الهبات والنفحات التي يعتمد عليها في معاشه، بينما يعتبر ياسر فتوح بواب إحدى العمارات في حي الطالبية بمنطقة فيصل أن مسكنه المشابه لمسكن عم صابر هو مجرد مسكن مؤقت، فهو خريج معهد متوسط، وترك قريته في محافظة الدقهلية بسبب الديون التي تراكمت عليه بعد تأثيثه حجرة الزوجية في منزل أبيه.
يقول ياسر: "أتيت إلى القاهرة بعد أن توسط لي رجل طيب وحصلت على وظيفة فراش في جامعة الأزهر. مرتبي 150 جنيه، وأنفق أكثر من نصفه في المواصلات بين فيصل ومدينة نصر، ومن الصعب أن أدفع إيجار مسكن، ثم أجد ما يكفيني أنا وزوجتي وطفلي " وهذا بالطبع فضلا عن الأقساط والديون التي على ياسر سدادها كل أول شهر. قبل ياسر العمل كبواب، فهو من ناحية يوفر له ماوى مؤقتا، بالإضافة لبعض المال كل شهر وعطايا السكان نظير الخدمات. ويضيف ياسر أنه يحاول البحث عن وظيفة أفضل ليتمكن من تسديد ديونه، ثم سيفكر بعدها في إيجار شقة مناسبة في أي مكان.

يحب ياسر أن يؤكد أنه يحمد الله على حاله لأنه "لا مكان أفضل للغلابة" ففي النهاية لن يتمكن إلا من توفير حجرة واحدة في بيت صغير هنا أو هناك، ولكنها على الأقل ستكون أفضل من الحجرة التي يشكو من أنه لا يستطيع رفع رأسه في نصفها ، أما النصف الآخر الذي يقع تحت "المنور"، تفشل الملاءة التي يعلقونها في أن تلعب دور السقف لتحميهم من الأمطار شتاء. ورغم ذلك يتعايش ياسر مع مكانه الصغير ويضع فيه بعض الأجهزة الكهربائية، بل ويزين الحائط بلوحة لآيات قرآنية، كما يضع تليفزيونا صغيرا فوق دولاب قصير كان أحد مكونات جهازه الذي استدان لأجله.

عم صابر في أرض الجمعية أقل اهتماما بغرفته رغم أنها تبدو أوسع من غرفة ياسر، ولكنهما يتشابهان في أن الغرفتين تتقاسمهما مساحة تحت السلم وأخرى في المنور. البنايات متشابهة تقريبا في أحياء فيصل وأرض الجمعية وسائر الأحياء التي تقطنها شرائح من الطبقة الوسطى من أبناء الطبقات الشعبية، أو أبناء الجيل الثاني من النازحين من الريف،الذين حصوا على خلاف آبائهم على شهادات جامعية أو نجحت أعمالهم، فسكنوا في هذه التجمعات الأحسن حالا، ولكنها على كل حال ليست كمناطق الشرائح العليا من الطبقة الوسطى.

مساكن هذه التجمعات متوسطة المستوى، لا تزال فقيرة معماريا، فهي بخلاف الناحية الجمالية، لا تحظى بمساحات كافية من مناطق الخدمات كمساحات السلالم والمناور، بالإضافة إنها بالطبع لا تحسب حسابا لمكان بواب أو حارس. مهنة البواب في هذه الأحياء ليست أساسية، هي مهنة عرضية، وربما ينظر السكان إليها كفرصة للبواب وعطف عليه، وفي الغالب يكون البوابون من النازحين الجدد من الريف ممن يبحثون عن أي مسكن وأي وظيفة، فينتهي بهم الأمر في غرفة تحت السلم، مثل غرفتي عم صابر وعم ناصر.

لنكن واقعيين
لا ينكر سيد حسنين صاحب إحدى العمارات وفي الوقت نفسه مهندس مدني، سوء حالة هذه الغرف وافتقارها للإضاءة والتهوية والخدمات اللازمة لمسكن إنساني، ولكنه في الوقت نفسه يراه مسكنا عمليا وملائم مؤقتا. "لنكن واقعيين، إيجار العمارات هنا لم يتحرك منذ زمن، ولا يمكن أن يضحي صاحب عمارة بالإضافة إلى ذلك بمساحة لغرفة بواب على حساب مساحة شقة إضافية في الدور الأرضي أو محل تجاري" ويؤكد المهندس سيد أيضا على أن معظم البوابين لهم مهن أخرى، وأن مسكنهم هذا مرحلة مؤقتة إلى حين أن "يفتح الله عليهم" . ويضيف"بعضهم أصبحوا سماسرة ويكسبون أكثر منا !".

وهذا ما فعله عم أبو ناصر البواب والسمسار الشهير في أرض الجمعية. وربما لا يكسب أبو ناصر أكثر من المهندس سيد، ولكنه على الأقل لديه شقة خاصة في مكان آخر غير تلك العمارة التي يداوم على حراستها. أبو ناصر رفض التعامل معه كبواب واعتبر ذلك نوعا من الإهانة. يبدو أن غرف البوابين في هذه المناطق ليست وحدها التي يوحي أن المهنة هنا ليست على قدر من الأهمية. هذا على خلاف مناطق أخرى يعتبر سكانها أن مهنة البواب ضرورية لأداء خدمات ليست ترفا بالنسبة إليهم، وهو ما ينعكس على تصميم بعض هذه العمارات في أحياء مثل الزمالك والمعادي والمهندسين ومدينة نصر، التي يراعى فيها وجود غرفة أو مكان لأفراد أمن مناوبين، أو غرفة ملائمة لبواب مقيم في الدور الأرضي أو فوق السطح ، أو على الأقل إن ظل البواب فيها تحت السلم، فإن مساحة هذه العمارات تنعكس على مساحة السلالم والمناور، وهو ما يعطي البواب مكانا أفضل قليلا لو ظل "تحت السلم".

ويبدو أن الأمر يتجه بالبوابين إلى "تحت السلم" في معظم المناطق، فالقاهرة التي تتوسع في داخلها، تضن بكل شبر على كل ما لا يدر ربحا. حجرة السطح تهدر فرصة تعلية أدوار جديدة، أو تأجير السطح لشركة محمول لإقامة محطة تقوية، وحجرات الدور الأرضي ذات المساحة المناسبة يمكن تأجيرها لأنشطة تجارية مختلفة أو توفيرها لصالح مساحة المحلات والجراجات.
وحتى "البوابين الموظفين" مثل عم إبراهيم يبدو أن عصرهم ينتهي.

في نهاية حديثه يشير عم إبراهيم إلى أنه تخطى سن المعاش لتوه وتوقف مرتبه، ورفضوا أن يجددوا له عمله بعقد. يواصل عم إبراهيم العمل في العمارة بشكل ودي، ويعتمد دخله على عطايا السكان إلى جانب معاشه. لا يزال عم إبراهيم يسكن فوق السطح، ولكن، بعد عمر طويل له، ستؤول الحجرة إلى أولاده، أو سيستعيدها الملاك ويؤجورنها بإيجار كبير لواحد من ينبشون عن أي متر في وسط البلد للإقامة فيه. وبعد ذلك إما أن تظل العمارة بلا بواب، أو أن نازحا جديدا من الريف سيقبل بمخزن تحت السلم مسكنا لأنه لا بديل لديه، أو سيقبله مؤقتا في انتظار الفرج.


نشر في "الشروق" 29 أكتوبر 2009
PDF

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق