الجمعة، ٢٦ فبراير ٢٠١٠

عهد أبديّ مع أربعة جدران أم استراحة في طريق الغد


الجدل حول خيارات السكن، لا يعكس فحسب القدرات الاقتصادية وحالة سوق العقارات، ولكنه يعكس أيضا قيم وأفكار حول الاستقرار والتغيير، التفاؤل بالمستقبل أو الحذر منه، الحماس لمعركة مع الحياة من أجل مستوى أفضل أو الرضا بما هو أبسط.

كعادة يومية، يصلي الحاج عمر سعد الظهر في المسجد القريب من منزله ثم يتوجه إلى قطعة الأرض التي اشتراها من زمن بنصيبه من ميراث أبيه. قطعة الأرض بحي الملك فيصل التي ظل سورها القصير يعلن لفترة طويلة أنها "ليست للبيع" تمتلي الآن بالعمال الذين ينفذون الأساسات. حصل الحاج على مكافأة نهاية الخدمة وأضافها إلى بعض المدخرات لكي يبدأ في بناء عمارته الخاصة . أول ما يصل الحاج في موعده اليومي يأمر له المقاول بكرسي وشاي ليجلسا معا ويتابعا أحوال البناء.
لا يمر يوم إلا ويأتي سمسار يسلم عليهما ويعرفهما بنفسه ويحاول الاتفاق مع الحاج بشأن تسويق شقق العمارة التي تحظى بموقع جيد، ولكن كلهم يفاجئون بتشبثه برأيه: " أقول لهم أن العمارة كلها لأولادي الخمسة وأولادهم من بعدهم. كان حلمي دائما أن أبني لهم بيتا خاصا بهم، يغلقونه عليهم. وضعت أساسات تكفي لأدوار كثيرة ولكن ما معي الآن سيغظي تكاليف يناء دور لكل واحد منهم. وهم وشطارتهم فيما بعد".

لا يحب الحاج عمر أن يتطرق الحديث إلى ابنه المهندس ياسر، الوحيد من بين أبنائه الذي يرفض السكن في العمارة الجديدة بعد انتهائها :"كل أولادي فرحوا بالأمر، وأحدهم متزوج سيبيع شقته في مدينة الشيخ زايد ويأتي للسكن وسط إخوته. ولكن ياسر شاب صغير وهو الآن سعيد باستقلاله وبعده عنا. لكن أكيد سيكبر ويعرف معنى لمة العائلة".

"أنا عندي الآن 27 سنة" يضحك ياسر، مهندس الكمبيوتر، وهو يقول أن أباه دائما يراه شابا صغيرا مراهقا، وربما لهذا السبب تحديدا فضل أن يسكن مع صديق له في مدينة 6 أكتوبر. في البداية تعلل ياسر ببعد المسافة وإرهاق العمل في الشركة التي تقع أيضا في 6 أكتوبر، لكن الواقع أنه أحب الحياة في المدينة الجديدة بكل ما تحققه له من حرية واستقلال وخصوصية، وبدأ صدره يضيق ببيت الأسرة والحجرة المشتركة وعين الأب والأم والأشقاء: "أبي يحن لبيت العائلة الذي تربى فيه في القرية. طبعا هناك أمان ودفء وأشياء كثيرة جميلة. ولكني لا أعتقد أنه يجب لكي أحصل عليها أن أظل ملتصقا بأبي وأمي. أبي يرعاني ويساعدني رغم كل شيء ورغم عدم رضاه عني أحيانا. لكن العمل في مدينة بعيدة والسكن وحدي أو مع صديق في شقة إيجار جديد تجربة أدفع ثمنها بعمل قاس لعدد ساعات طويلة. ولكني أريد أن أحظى بحرية وخصوصية وأتمتع بمستوى من الهدوء والنظافة والعيش وسط أناس أشعر بالتجانس معهم كما يشعر أبي بالتجانس الآن مع أهالي حينا وجيراننا".

بين ياسر وأبيه جدل دائم منذ انتقل للسكن في 6 أكتوبر منذ سنتين، والآن تجدد الجدل بسبب عزمه على الزواج. وتباحثهما معا في خيارات السكن المتاحة. تفضيلات وقيم معينة تحكم توجه كلا منهما. الأب يريد توفير الأمان والاستقرار في مستوى اجتماعي يراه معقولا وجيدا، تقريبا هو ذاته نفس المستوى الذي عاشت فيه الأسرة. في حين يبحث الابن عن بعض المغامرة والتطلع إلى مستوى اجتماعي مختلف وبعض الرفاهية والخصوصية والحرية ولا مانع من التنقل.

معايير مختلفة
بسبب "مفاوضات" الزواج دخل على خط الجدل أيضا خطيبته وأبوها وأمها. ياسر وخطيبته يعملان معا في نفس الشركة في مدينة 6 أكتوبر. دخلهما الجيد نسبيا يكفل لهما إيجار شقة في مكان متميز وجيد هناك. الأم تريد أن يسكنا في "مكان قريب" بينما 6 أكتوبر "بعيدة" ومتعبة لزوجين حديثين في رأيها. يطيش صواب ياسر عند سماع عبارات مثل "قريبة وبعيدة". فهما يقضيان معظم حياتهما في العمل ومن المناسب جدا أن يسكنا هناك. والد خطيبته لا مشكلة لديه في القرب والبعد ولكنه يفكر في "الاستقرار" ويريد أن يحجز ياسر شقة تمليك أو إيجار قديم لكي تحظى ابنته بـ"مكان مضمون" على حد تعبيره. يحاول ياسر ألا يطيش صوابه عند مناقشة أمر "المكان المضمون" الذي سيكلفهما مقدما باهظا أو أقساط كبيرة ربما تطيح باستقرارهما المالي، خاصة أن كلاهما- هو وخطيبته- يسدد أقساط سيارة حديثة.

"الغريب أن والدها يبدو أقرب قبولا للسكن في عمارة أبي في فيصل وهي منطقة متواضعة المستوى مقارنة بالأحياء التي أقترح السكن فيها في 6 أكتوبر بنظام بخيار الإيجار الجديد" يتعجب ياسر فهو يبدو أكثر قبولا للمنطق الذي يلزمه بأن يختار شقة في مستوى اجتماعي أفضل وفي مكان جميل ويبدو مستقبله أفضل من أحياء القاهرة والجيزة المزدحمة التي تعاني الآن بالفعل من التكدس والازدحام ومشكلات النظافة والتلوث: "خيار الإيجار الجديد بالنسبة للأجيال الأكبر كأنه الجحيم. بينما أراه جزءا من نظام حياتنا الجديد. إذا كنت في وظيفة جيدة جدا وأحوالي ممتازي سأسكن في حي راق لمدة 3 أو 5 سنوات وأستمتع. بدلا من أن أدفع مبالغ باهظة كمقدم أو أضطر للاعتماد كلية على أهلي. سأستغل باقي دخلي في أقساط سيارة وشراء أثاث جميل. إذا تعثرت الأحوال قليلا بعد سنوات أنتقل إلى مستوى أقل قليلا، لا مشكلة. قد تتاح لي فرصة شراء شقة تمليك وأنا مستريح. وإن لم يحدث لا أظنها مشكلة. لا مانع من بعض المغامرة والقلق في الحياة ، قد يدفعنا ذلك للأحسن".

تتخذ المغامرة وجها آخر مع أحمد حسان، المهندس المدني، الذي يتعرض لموقف شبيه. هو أيضا مقدم على الزواج، وصارح أهل خطيبته أن لديه سيولة تكفي لتملك شقة، ولكنه يستعد لاستثمار أمواله في مجال المقاولات لأن عمله كمهندس في شركة لا يلبي كل طموحه. ظن أن هذا الكلام سيرفع قدره عندا والدها. إلا أنه فوجيء به يرد عليه: "هذا مشروعك أنت الشخصي، ولكن الشقة التمليك ستحقق استقرارا دائما لابنتي. كما أن شراء العقارات استثمار يعود بالنفع عليكما". يفكر أحمد أن التفكير في الاستثمار في شراء العقارات يعكس حالة اجتماعية من الخمول وعدم الرغبة في المغامرة: "المشروعات الأخرى تدر دخلا أعلى إن نجحت وتحقق ذاتك وتثري خبرتك بدلا من الاستسلام لوظيفة نمطية والارتكان على استقرار يحققه لك شيء تملكه، وفي النهاية بدلا من أن تبادر وتشتغل وتغامر، تضع نفسك تحت رحمة سوق العقارات الذي ربما ينقلب عليك مع أي ركود".

قبول فكرة التنقل أو السكن لمدة محدودة تبدو الآن إما قريبة من أشخاص مغامرين طموحين. ولذلك لا يزال نظام الإيجار القديم موجودا ليلبي الرغبة في الاطمئنان على مكان السكن وسط تغيرات الحياة والعمل غير المضمونة بالنسبة لكثيرين ممن يبدون في موقع دفاعي عن حياتهم ويريدون أن يغلقوا باب "معركة السكن" ليتفرغوا لغيرها.
من هؤلاء حازم عبد الله، موظف الموارد البشرية بشركة استثمار عقاري: "أعتقد أن لدي طموحا كبيرا. ولكني لا أستطيع ان أقول أني وجدت طريقا حتى الآن لكي أسير فيه إلا قبول هذه الوظيفة أو تلك بفوراق قليلة في الدخل. لدي بعض المدخرات لا ترقى لشراء شقة تمليك. أقساط التمليك فوق قدرتي. أبحث عن شقة بنظام الإيجار القديم، ستكون حلا وسطا تحقق بعض الاطمئنان والراحة".
بين حازم وخطيبته الصيدلانية جدل آخر. فهو يبحث عن شقة في أحياء تراها هي متواضعة مثل الهرم وفيصل. بينما تفضل هي أن يغامرا بعض الشيء ليتملكا شقة في إحدى المدن الجديدة أو الضواحي. هو يفضل ألا يسيطر قلق الأقساط على حياته، المغامرة بلا ارتكان على شيء قد تجعله فيما بعد أقل قدرة على المغامرة فيما يخص حياته المهنية، فيقبل بأي وظيفة أو يكون مقيدا في التنقل بسبب خوفه من موعد القسط: " في المستقبل ربما تتضح الأمور أكثر وربما نفكر فيما هو أحسن. أما الآن فأنا غير متفائل بالفرص المتاحة ولا يمكنني أن أجعل نفسي مدينا وأجعل من المكان الذي أعود إليه، لأغمض عيني وأريح أعصابي، أحد مصادر القلق والتوتر. الحياة عندي أبسط من ذلك ".


نشر في "الشروق" الخميس 18 فبراير 2010
PDF
تصوير: فيليب شباليك

هناك تعليقان (٢):

  1. اذا امكن ان اضيف تجربتي الشخصية
    في مصر قمت ببناء دور كامل في منزلي لسكن عائلتي الجديدة
    وبعد السفر لدولة اوروبية
    والاقامة لمدة عام ونصف حتي الان
    قمنا بتغيير السكن 4 مرات بكل بساطة وديناميكية مني وزوجتي بالرغم من ان طبعنا المصري الاستقرار الابدي

    ردحذف
  2. الحمد لله كنت فاكر إني أنا لوحدي اللي بشجع الإيجار الجديد

    ردحذف