الأربعاء، ١٠ مارس ٢٠١٠

ماحدش فاهم حاجة

المسخرة التي تجمع طرفي المفارقة
من اللمبي إلى توشكى في "كلمني شكرا"، يستمر صعود "أبطال العشوائيات" ليصبحوا الموضوع الأكثر إثارة للضحك في الدراما الجماهيرية المفضلة للطبقة الوسطى، التي أصبح أحد أشكال المزاح المفضلة لأبنائها هي تبني طريقة هؤلاء "الأبطال" في الكلام ورؤية الأشياء. هل هو تصالح بين الطبقات أم تكيف الجميع مع "الفوضى" و"العبث" ؟

"أنا عاوز أبقى صايع" هذه الجملة التي قالها صلاح الدين عاشور الذي قام بدوره علاء ولي الدين في فيلم "الناظر" الذي تم إنتجه عام 2000 مثلت تحولا مهما حدث لعالم الكوميديا في السينما المصرية، وهو ما كان بدوره ممثلا لتحول مماثل حدث للطبقى الوسطى المصرية.
في الفيلم يعاني صلاح الدين ابن الناظر من وصاية وتسلط أبيه عاشور ناظر المدرسة العريقة التي تملكها العائلة وتتوارثها جيل بعد جيل. كان أبوه يريده أن يكون "مؤدبا" و"ناجحا" لكنه فشل في التعليم وبعد أن ورث المدرسة وجد نفسه فاشلا في إدارتها أو في التعامل مع الطلبة وحالة الفوضى التي تعتري المدرسة. وكان تفسيره للفشل أنه "مؤدب" وبالتالي قليل الحيلة، لذلك يجب أن يكون منحرفا و"صايع". ومن أجل تعلم ذلك لجأ إلى اللمبي، التلميذ الفاشل سابقا والبلطجي حاليا الذي يسكن حيا عشوائيا. ومن هذه اللحظة تكاد الكوميديا التي تفجرها الشخصية الثانوية "اللمبي" تطغى على حضور الشخصية الرئيسية أو يشكلان معا ثنائيا عندما يحاول صلاح الدين أن يتعلم الانحراف محاكيا اللمبي.

كانت هذه اللمحة من السيناريو مجرد مؤشر على تحولات ما في طرق السخرية والمزاح بين الناس سيطرت عليها تنويعات "حالة اللمبي"، هو ما يعني ادعاء حالة هي بين غياب الوعي والحمق، بين البلطجة وقلة الحيلة، مع محاكاة لوعي الطبقات الشعبية تجاه الأفكار والأشياء الحديثة أو النخبوية أو"الراقية"، والتلاعب العبثي باللغة بشكل يكاد يكون فارغا من الدلالة وفيها تقليد لطريقة كلام معينة تميز بعض الفئات من هذه الطبقات. وهي الحالات والتنويعات التي أصبحت تعرف في المعجم الشعبي بـ"التهييس" و"الهرتلة".
وبالتوازي شكل هذا المزاج تيارا داخل الدراما الجماهيرية، لا تقتصر على الأفلام التي قام ببطولتها الممثل محمد سعد وكان اللمبي فيها بطلا أو تم استنساخه في أشكال أخرى قريبة، ولكن أيضا امتدت حالة الاستعانة بصورة "بطل العشوائيات" الذي يقدم حالة متوسطة بين العبيط والبلطجي في أعمال كثيرة، سيد سائق الميكروباص في "تامر وشوقية" وبعض التنويعات في الأفلام التي كتبها بلال فضل منها حاحا في "حاحا وتفاحة" وشخصيتا "حشيشة" ثم "توشكى" في فيلمي خالد يوسف "حين ميسرة" و"كلمني شكرا".

واجه هذا النوع من الكوميديا سيلا من الانتقادات. إما المترفعة عن مناقشة تفاصيله أو التي تناقشها وتصفها بالانحطاط والسوقية والابتذال والتدني. دفاع صناع هذه الدراما أن هذه الطريقة في الكلام والمزاح موجودة بين الناس بل وبين شباب الطبقة الوسطى، لا يعني في نظر الناقدين والمهاجمين إلا أن أسلوب الكلام والمزاح عند الناس قد أصابه أيضا الابتذال والتدني. ولكن ظلت علاقة هذه الكوميديا بنمط المزاح الذي انتشر بقوة بين شباب الطبقة الوسطى بعيدا عن التناول مع كل ما يعنيه ذلك من علاقة جديدة مختلفة بين الطبقتين.
من المحاولات القليلة التي تتطرق لذلك ما قدمته الباحثة فيروز كراوية في رسالتها التي نالت عنها الماجستير في علم الاجتماع والأنثروبولوجي من الجامعة الأمريكية والتي تستعد لنشرها قريبا. تناقش الرسالة نموذجي "اللمبي" و"حين ميسرة" كنموذجين لأفلام العشوائيات فيما بعد عام 2000 وترصد علاقة الصور التي تقدمها هذه الأفلام بتصورات اجتماعية وأوضاع سياسية معينة.

ترى فيروزأن معظم من أحبوا اللمبي ودفعوا التذاكر في السينما ليحقق الأرباح الهائلة هم أبناء الطبقة الوسطى رغم أنها كوميديا مصنعة بشكل طبقي معين وتصوّر الطبقة الأفقر من سكان العشوائيات. وعلاقتهم لها أكثر من بعد. أولهم أن كلاهما يعيش تحت نظام سياسي استبدادي. وهناك دراسات في علم الاجتماع ترصد في دول العالم الثالث أن النظم الاستبدادية طويلة العمر تربطها بشعوبها علاقة معقدة، كأنهم طرفان في مركّب واحد لا يمكن فصله: " المحكومون يسخرون من السلطة ولكنهم أيضا يشبهونها في كونهم استبداديين في تصورهم لذاتهم التي تتضخم بشكل مبالغ فيه ومتوهم. مثل اللمبي الذي يقول طوال الوقت بشكل هزلي أن الزلازل لا تؤثر فيه وأن له في الجبال علامات، ولكنه مغلوب على أمره ومطارد وضعيف أمام الشرطة والبلدية. من جانب ترى الطبقة الوسطى شيئا من وضعها في هذه الشخصية، ولكن من جانب آخر لأن الشخصية تبدو خرافية وقادمة من مكان خرافي فهي بعيدة عنهم. حتى أبناء العشوائيات المتعلمين يرونه بعيدا عنهم. فيمكن للجميع أن يضحك عليه. لو كانت شخصيته قريبة ومشابهة لهم فستخيفهم أو تضايقهم هذه الحالة".

عنف السخرية
ينقل د. شاكر عبد الحميد في كتابه "الفكاهة والضحك" عن جون موريل، العالم المتخصص في دراسات الضحك، أن سبب الضحك هو التحول السيكولوجي السار المفاجيء من الشعور بالعجز والنقص إلى الشعور بالتفوق والتمكن. وفي النظريات الكلاسيكية للفكاهة والكوميديا منذ أفلاطون وأرسطو أنها مبنية على وجود طرف أدنى وأقل مكانة أو ذكاء لنضحك عليه. حتى لو كان مجرد النقص مؤقت مثل أن يتعثر إنسان في قشرة موز أو يصطدم بالحائط، وهو ما يقوم به المهرجون في أبسط أشكال الفكاهة .

ترصد فيروز كراوية في دراستها أن ما يسمى "أفلام العشوائيات" بعد عام 2000 قد صوّر فعلا سكان العشوائيات كالمهرجين :"كأن هناك صخرة وقعت على سكان هذه المناطق فأصبح ساكنها إنسانا مفككا تماما بلا معنى وبلا علاقات وبلا أمل. هناك أفلام تناولت سكان مناطق شعبية وعشوائية قبل ذلك مثل "الحريف" و"الكيت كات" و "سارق الفرح" وكان سكان هذه المناطق شخصيات داخل علاقات اجتماعية وعندهم مشاكلهم و أيضا طموحاتهم وأحلامهم. كانت هناك كوميديا ومفارقات، ولكن في الأفلام الجديدة هناك تصوير هزلي فيه تأكيد لمسافة كبيرة جدا بين هؤلاء وبين المتفرج. والضحك هنا فيه نوع من "العنصرية الطبقية". هو ضحك فيه نوع من ممارسة العنف".
ولذلك ترى فيروز أن هذه النظرة هي أساس قبول الكثيرين لممارسات قمعية أو عدوانية تجاه سكان العشوائيات لأنهم في الأوقات الأخرى يصورون على أنهم خطر محتمل وسبب للفوضى في المجتمع.
يمكننا أن نضع هذه الملاحظة بجانب ملاحظات د.جلال أمين وغيره عن الفجوة التي تزداد اتساعا بين طبقات المجتمع المصري. ووفق نظريات الفكاهة فكلما ازدادت الفجوة اتساعا كان كل طرف غريب عن الآخر ويصبح موضوعا لضحك أكثر حتى لو كان مخيفا ومصدرا للخطر في وقت آخر.

صورة الشيء الغريب المضحك والمخيف في وقت واحد هي أحد أشكال توليد الفكاهة والسخربة، كما يذكر د. شاكر عبد الحميد، وهو ما يسمى بالبنية المسخية أو الجروتسكية grotesque. والشخصية المسخية تحتوى على ملامح وعناصر قبيحة ومنفرة ولكنها تقدم بشكل هزلي ومضحك. تقول فيروز كراوية أن دراستها التي خصصت جزءا منها لطريقة توليد السخرية في الكوميديا أن شخصية اللمبي المنفرة والتي تقوم بأشياء منفرة وقبيحة ولكنه مضحك ظهر مثلها في دول أخرى تمر بأوضاع مشابهة، ففي الكاميرون ظهرت في الثمانينات وسط أزمة سياسية واجتماعية كبيرة رسومات كاريكاتيرية أبطالها شخصيات تقوم على الدوام بحركات مقرفة ومنفرة ولكنها تستخدم في إطار هزلي.

ولكن رغم هذه المسافة المعنوية الكبيرة التي تعطي للضحك معناه، هناك احتكاك وتداخل بين الطبقتين على أكثر من مستوى. قد يكون التعامل العادي أو أن يكون بعض أبناء الطبقات الوسطى صاعدين من طبقات فقيرة تسكن الأحياء العشوائية. ولكن دراسة فيروز كراوية تطرح أيضا أنه هناك تبادل مصالح حدث في مجتمع تقل فيه قيمة القانون: "كلنا نذكر مشهد اللمبي وأمه تودعه أثناء ذهابه إلى المدرسة وتقول له: كتبك معاك ومطوتك في جيبك. المدرسة لم تعد مدرسة، كما أن القانون لم يعد يسيّر المجتمع، بل هناك قانون عرفي آخر والطبقات العليا تستخدم أسلوب البلطجة أو البلطجية أنفسهم لتسيير أمورها. ومن الطبيعي أن تحدث سيولة بين ثقافات الطبقات والفئات المختلفة".

"تهكم وجودي"
في الشركة التي يعمل بها علي عبد الرحيم أحيانا يقف أحدهم ويغير صوته قليلا وملامحه وهو يقول "خلاص يا معلمين! زمن الـللـ ... انتهى. ماحدش فاهم حاجة!" ويعلق علي قائلا: "مثل أي مكان في مصر تحدث أحيانا مساخر وأوضاع غير مفهومة. وأعتقد أن هذه الطريقة في السخرية إحدى طرق التعبير عن حالات مفهومة. الطبقات المطحونة أكثر من غيرها تعبر بشكل مبدع أكثر عن تلك الحالة غير المفهومة التي نعيشها. وعندما نمزح ونقلدها لا تكون تلك طريقتنا العادية في المزاج ولكننا نلعب ونمثل هذا الدور. نستخدم تعبيرات سائق الميكروباص أو الباعة الجائلين أو غيرهم ..أو نقلد اللمبي".

قد يكون فعلا أن التفسير أن في أسلوب المزاج الذي تجسده شخصية اللمبي تعبيرا مميزا مناسبا لمتغيرات جديدة. ولكن هذا التعبير يصل أحيانا في غرائبيته إلى مجرد لعب باللغة والصوت بدون دلالة محددة. جاين لوميل، التي تعمل في مجال إعداد الترجمة الإنجليزية لأفلام عربية والعكس، بدأت تلاحظ هذا النمط من المزاج عندما كان عليها أن تترجم مجموعة أفلام كوميدية حديثة منها اللمبي: "عندما أصبح دوري أن أكتب ترجمة محددة ما يقول، بدأت أحيانا أنتبه إلى أنه لا يقول شيئا محددا يمكن أن يترجم. أو أن الفكاهة تتركز في الكيفيه الغريبة لقوله لأي كلام وشكله وحركاته وليست في الكلام نفسه".
ولكن أحيانا تكون هناك دلالة ما للعب باللغة عند النطق الغريب لـ"الكلمات الكبيرة"، في فيلم "اللي بالي بالك" عندما يسكن عقل اللمبي في جسد رياض المنفلوطي مدير السجن تتفجر المفارقة وأثناء خطابه أمام لجنة حقوق الإنسان تتحول عبارة حقوق الإنسان إلى "حروق الإنسان"، و"بعد النظر" إلى "ذات نظرة مبعدية" بالإضافة إلى النطق الفكاهي للكلمات الأجنبية مثل Absolutely . بالمثل يقوم توشكى بالخلط بين الكلمات الكبيرة التي تتناثر حول الناس بينما هل بعيدة بالفعل عن خيالهم ونمط حياتهم مثل قوله "تظمهر" التي تخلط "تظاهر" و"تجمهر"
الفكاهة تتفجر من المحاكاة الساخرة لكل ماهو متعالي. من المصطلحات السياسية أو الثقافية التي يشعر الناس أنها لا تعنيهم في شيء أو أن مضمونها غائب عنهم أو من التعبيرات التي تنتمي إلى أسلوب حديث شرائح تتصنع "الرقي" باستخدام الكلمات الأجنبية.
ترى جاين أن هناك فارقا بين المزاج النقدي وحتى لو كان عبثيا وتضرب مثلا بأحد مشاهد فيلم رأفت الميهي "ست الستات" عندما ينهى المحامي موكله عن استخدام كلمة "حقوق الإنسان" داخل قسم الشرطة ويعتذر للضابط بأن موكله لا يعرف أن مثل هذه الكلمات لا تقال داخل أقسام الشرطة وتضيف: " ولكن تحول "حقوق الإنسان" إلى "حروق الإنسان" و"حموم الإنسان" فيه حالة من الإحساس بغرابة هذه القيم والاستهزاء ليس فقط من غيابها بل منها هي أيضا واعتبارها فارغة من المضمون ولا مانع من السخرية منها، وهذا الوعي هو في الحقيقة وعي كثير من الناس الذين لا مانع عندهم من انتهاك حقوق المجرمين على سبيل المثال إلا لو مسهم ذلك".
قد يكون الأمر كذلك أو يكون اللعب بقواعد اللغة إشارة إلى أن حالة العبث والسخرية في الواقع قد تجاوزت كل تعبير يحاول أن يكون ساخرا. فلا يجدي معه إلا مزاح يلعب باللغة نفسها ويستحضر أويتصنع حالة من التحامق أو غياب الوعي وممارسة نوع من التهكم الشامل الذي لا يوجه انتقادا محددا بقدر ما يسخر من الوجود كله. قد يكون وراء ذلك ما ينقله د. شاكر عبد الحميد في كتابه من أن بعض الفلاسفة يرون "التهكم الوجودي" والفكاهة التي تسخر من كل شيء شكل من أشكال الوعي بالمتناقضات يرفض التسليم بالعجز عن فهمها بل يعترف أن الوقع مليء بالتناقضات، وقد يكون ما يراه الفيلسوف الوجودي كيركجارد في كتابه "مفهوم التهكم" من أن ذلك الأسلوب من التهكم وراءه "عدمية" وسلبية، ولكنه وسيلة للاستمتاع بتناقضات الواقع وفي نفس الوقت الوصول إلى حالة من الرضا، فعند التهكم والسخرية الفاقعة نضع مسافة بيننا وبيننا ما نسخر منه أوننظر إليه من أعلى ونتحرر من المنظور الأخلاقي والمسئولية تجاه ما يحدث.


نشر في "الشروق" الخميس 4 مارس 2010
PDF


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق