الثلاثاء، ٢٣ مارس ٢٠١٠

حرامي في مولد

التعذيب الشعبي

من المفترض أن يكون الفرق بين المجتمع الحديث الذي يحكمه القانون وبين "المولد" هو نفسه الفرق بين احترام الفرد وحقوقه ولو كان متهما بارتكاب جريمة وبين "العلقة" التي ينالها الحرامي في المولد ويضرب بها المثل.

لم تتمكن المهندسة المعمارية رشا أسامة من الدخول بسهولة إلي بيتها في منطقة الهرم ذلك المساء. فقد وجدت حشدا كبيرا متحمسا يتفرج على شيء ما في مدخل العمارة، وبصعوبة بالغة تمكنت من مناداة البواب الذي كان من الحشد فأفسح لها طريقا لتمر إلى السلم. وفي طريقها بدأت تدرك سبب ذلك الحشد: شاب في حالة رثة ملقى على الأرض وحوله مجموعة كبيرة من الناس ينهالون عليه بالسباب والضرب، وأحدهم يقوم بدور قيادي ويتولي التحقيق مع الشاب ممسكا بحزام جلدي ينهال به عليه بين الحين والآخر وهو يطالبه بالاعتراف.
علمت فيما بعد أن جريمة سرقت حدثت لأحد سكان العمارة، وأنهم اشتبهوا في علاقة هذا الشباب بالجريمة، فـ"ألقوا القبض عليه" و"تولوا التحقيق معه"، ولكن في النهاية لم يتمكنوا من إجباره على الاعتراف فـ"أطلقوا سراحه".
"الجماهير" التي تقمصت دور الشرطة لم تكتف بذلك، بل تجاوزت إلى استخدام قدرمن "التعذيب" في التعامل مع المتهم المفترض. وهو التجاوز الذي تتهم تقارير حقوقية متعددة ضباط الشرطة بارتكابه، بل واعتماده كسياسة منهجية في الأقسام والسجون. وأدين عدد منهم بالفعل، وأشهرهم الضابط إسلام نبيه المحكوم عليه بالسجن 3 سنوات لتعذيبه عماد الكبير الذي أصبح اسمه عنوان قضية شغلت الرأي العام لفترة. ولكن هل هذا "الرأي العام" يقف بشكل مبدئي ضد التعذيب أم أن الكثيرين منا لن يترددوا عن استخدامه عندما يجدون أنفسهم في مكان ضابط الشرطة ويودون إجبار شخص آخر على الإدلاء بمعلومات أو اعتراف، أو يودون عقابه بعيدا عن القانون؟
لا وجود لإجابة قاطعة بالتأكيد، فمن جهة ما ترويه المهندسة رشا أسامة يرويه آخرون أيضا، ومن جهة أخرى هذه الروايات تعكس اختلافا في الرأي حولها. فرشا أسامة لم يعجبها ما حدث، بينما الحشد المكون من أهل الشارع كان الأمر يعجبه إلى حد المشاركة. ولكن بالتأكيد تكرار مثل هذه الحوادث وعلى نطاق أكبر من هذه الحكاية مؤشر سلبي.
قبل عام، اتهم خفير في فيلا بالشروق، الطيار صاحب الفيلا وزوجته وشقيقته باحتجازه وتعذيبه، بل واستئجار رجل لانتهاكه جنسيا وتصوير ذلك وإجباره على التوقيع على إيصالات أمانة، عقابا له على إعطاء رقم تليفون زوجة الطيار لرجلين مجهولين قاما بمعاكستها تليفونيا. وسجلت التحقيقات اعترافاتهم بذلك، ولكنهم أنكروها في المحاكمة. وفي الشهر الماضي، تم اتهام تاجر من قرية "وردان" التابعة لمركز إمبابة باحتجاز أحد عماله و تعذيبه، لأنه شك في اختلاسه مبلغا ماليا. وقال في التحقيقات أن أمين شرطة هو الذي نصحه بذلك وقال له أن الطريق القانوني لن يعيد إليه أمواله.
يقول مصطفى حسين، الطبيب النفسي الذي يعمل ضمن فريق مركز النديم لإعادة تأهيل ضحايا العنف "عدم ثقة المواطنين في فاعلية القانون والقضاء في إعادة حقوقهم ربما يكون سببا في هذه الحالات. ولكن هذه الحالات لا تصل للمنظمات الحقوقية، ولا يزال التعريف الرسمي للتعذيب الذي تعمل على مناهضته ومعالجة آثاره هو الفعل الذي يأتي من جهة رسمية أو ذات سلطة" ويضيف أن بعض الحالات التي يقوم بالتعذيب فيها مواطنون عاديون يكونون أحيانا أصحاب سلطة بشكل ما على من يتم تعذيبه.
يمكن تقسيم حالات "التعذيب الشعبي" – إن أمكن أن نسميه كذلك- إلى نوعين: نوع يكون فيه المتهم بارتكاب التعذيب في موقع يمكن اعتباره "سلطة ما" أو "وضع اجتماعي أعلى" من الضحية، مثل الطيار مع خفير الفيلا والتاجر مع أحد عماله. والنوع الآخر هوالنوع الذي يتقمص فيه الناس دور أفراد الشرطة تطوعا لـ"تأديب" متهم ما شكوا فيه أو ينفجر غضبهم تجاهه بعد ضبطه متلبسا. والنوع الأخير هو ما يعبر عنه المثل الشعبي واصفا العلقة الساخنة بأنها "ما أخدهاش حرامي في مولد". المثل يمكن أن يكون صورة معبرة عن هذا النوع وما يحيطه من ملابسات. فالمولد عبارة عن حالة استثنائية من الفوضي يغيب فيها النظام وبالتالي القانون بشكل كبير. تنتشر السرقات نتيجة لذلك، وبالتالي فإن رد الفعل على نفس القدر من الفوضى. ينفجرالناس وينتقمون ممن يتم "الحكم عليه" في لحظة ما بأنه لص على كل تلك الجرائم التي حدثت سابقا لهم أو سمعوا عنها. وفي الغالب فإنهم يتركون "اللص" دون تسليمه إلى الشرطة، ويعتقدون أن ما حدث هو عقاب مناسب وكاف.
عبد الهادي سلامة، صاحب متجر للمحمول في بولاق الدكرور، يعتقد أن هذا الوضع هوالأفضل للناس وللصوص معا:"الحكومة ما عندهاش وقت للتحقيق في سرقة موبايل أو ألف جنيه، والناس بتخلّص حقها بدراعها. وكمان الحرامي ممكن يكون شاب غلط لأول مرة.حرام يتبهدل وتبقى سابقة ويدخل السجن ويبقى مجرم رسمي. كفاية عليه علقة تربيه ويتعلم الأدب". يضيف عبد الهادي أنه تعاطف مع عماد الكبير في قضية تعذيبه ولكنه أيضا يعتقد أن ضابط الشرطة "معذور" لأنه يواجه قضايا كثيرة ويتعامل أحيانا مع"أشكال واطية" لا ينفع معها الأدب أو القانون أوحقوق الإنسان و"كل الكلام الحلو ده" على حد تعبيره.
وجهة نظر عبد الهادي سلامة، هي إحدى زوايا النظر التي تفسر جانبا من الظاهرة التي تجمع معا تبريرالقيام بفعل التعذيب أوقبول وقوعه لآخرين من قبل بعض ضباط الشرطة. وهذ القبول له علاقة أيضا بما تشير إليه تقارير حقوقية من أن بعض حوادث التعذيب المتهم فيها ضباط شرطة تمت كشكل من أشكال "المجاملة" لأصدقاء أوأقارب أو أصحاب نفوذ. من ذلك ما يرويه المهندس محمد عبد القادر، وهو شديد الأسف، من أنه استعان مرة بأحد ضباط الشرطة من معارفه لردع "مسجل خطر" كان يهدد أسرته. وكان رأي الضابط أن التعامل الرسمي لن يفيد، وقام هو بما يظنه أصلح وأمر بتعذيب المواطن المسجل خطر في شارعهم وبأساليب "جنسية" مهينة ليضمن ألا يقترب من هذا الشارع مرة أخرى. يقول محمد عبد القادر: "لم أكن معترضا ساعتها ولكني الآن مستاء جدا من هذه الطريقة العنيفة خارج القانون". ما يرويه يؤكد جانبا من الظاهرة ولكن ندمه وأسفه يؤكدان جانبا آخر وهو أن هناك حالة من عدم الحسم أوالاستقرار في وجهة نظر بعض المصريين تجاه أشكال العنف ومن بينها التعذيب.
يقول مصطفى حسين، الطبيب النفسي: "تصاعد العنف في المجتمع المصري في الفترة الأخيرة في مجالات متعددة منها العنف داخل الأسرة أو في المدراس قد يغري الكثيرين بالتسرع واتهام المجتمع المصري بقبول فكرة التعذيب رغم أنه لا توجد دراسات كافية أو مؤشرات علمية في هذا الشأن".
ولكن مصطفى حسين قام ببنفسه بتجربة مصغرة ومحدودة، فأعد استفتاء صغيرا أجاب عليه أكثر من ثلاثين من أصدقائه، حول قبولهم تصرف ضابط قام بتعذيب متهم في قضية مقتل طفلين، بحرمانه من الطعام لمدة48 ساعة وضربه بعصا على مؤخرته حتى يعترف. ووضع تخيلين لحالة المتهم: الأولى أنه شخص تم إدانته سابقا باغتصاب سيدة والآخر هو شخص يدخل للمرة الأولى قسم شرطة. وكان غرضه من الأساس قياس اختلاف الموقف من التعذيب تبعا لنظرتنا للمتهم. ولكن النتائج لم تحمل فرقا يذكر بين موقف من أجابوا تجاه الحالتين، ولكن المفاجأة أن أكثر من ثلث العينة أيدت استخدام التعذيب في الحالتين، وأبدى مصطفى اندهاشه وهو ينشر نتائج الاستفتاء على موقعه الشخصي من أن يكون ذلك رأي أشخاص مقريبن منه ومعظمهم كما يقول أطباء نفسيين.
إن اعتبرنا هذا الاستفتاء المحدود مؤشرا مقلقا، فقلقنا لن يكون على المجتمع المصري وحده. فتجارب أخرى وعلى نطاق أوسع انتهت إلى أن أفراد عاديين من مجتمعات أخرى يمكنهم أن يقبلوا التعذيب بل ويشاركوا فيه إن أمرتهم سلطة بذلك أو تقمصوا هم أنفسهم دور السلطة. ففي ستينات القرن الماضي قام عالم النفس د. ستانلي ملغرام بإجراء تجربة في جامعة ييل في الولايات المتحدة الأمريكية، أجريت التجربة على عدد من المواطنين الذين استجابوا لأوامر المشرفين على التجربة- التي قيل لهم أنها تقيس دور العقاب في التعلم- وقاموا بالضغط على أزرار قيل لهم أنها تسبب صعقات كهربية متفاوتة الشدة لشخص يجلس في غرفة مجاورة إن أخطأ في إجابة أسئلة معينة. ورغم صراخ الممثل الذي يؤدي دور الشخص الذي يتم تعذيبه، وتوسلاته. فإن 65% من المشاركين استمروا في الضغط وطاعة الأوامر حتى أقصى شحنة كهربية متاحة. ورغم أن نسبة قليلة أبدت بعض الاعتراض إلا أن مشاركا واحدا لم ينسحب فعليا!
تجربة أخرى أجريت في العام 1971 تعرف باسم "تجربة سجن ستانفورد"، أجراها عالم النفس فيليب زيمباردو في جامعة ستانفورد، الذي قسم مجموعة من المواطنين العاديين إلى سجانين ومسجونين تم نقلهم إلى مكان يحاكي السجن تماما. التجربة التي خرجت عن السيطرة وجرى إيقافها قبل نهايتها، شهدت تقمص كلا الطرفين لدوره تماما، وقام السجانون بمعاقبة المسجونين بقسوة، فمنعوا عنهم الطعام وأجبروهم على النوم عراة على البلاط في الشتاء وتنظيف المراحيض بأيديهم المجردة. وقال المشرفون أن واحدا من كل ثلاثة سجانين أظهر ميولا سادية حقيقية، ومعظمهم شعر بالحزن لإيقاف التجربة!
هناك خلاف بين اتجاهات علم النفس حول الرغبة في العدوان، هل هي غريزة أصيلة في الإنسان أم انحراف. ولكن بعيدا عن هذا الخلاف، يبدو أن القاسم المشترك في ظاهرة "التعذيب" بوجهيه، هو الشعور بالسلطة من قبل شخص على آخر، سواء كانت سلطة رسمية أو نتيجة لمكانة اجتماعية أقوى أو حتى مجرد سلطة الجموع في "المولد" التي تتيح إدانة وعقاب "الحرامي". وهو مااكتشفه محمد عبد القادر وهو سبب ندمه وأسفه: "عندما قرأت بكثافة عن قضايا التعذيب في السنوات الأخيرة، أدركت أني فعلت نفس الشيء، أسأت استخدام سلطة قريبة مني لحماية نفسي وقضاء مصلحة لي".
ولذلك، فإن تناول ظاهرة "التعذيب الشعبي" ليس سببا لإعفاء أصحاب السلطة من المسئولية أو التقليل من الجهود السياسية والحقوقية والشعبية لمناهضة التعذيب ومطالبة السلطة الرسمية بالعمل في حدود القانون، بدعوى أنها ظاهرة شعبية وعالمية. بل هي على العكس تكشف جذور المشكلة المختفية تحت السطح، في السلطة التي في أيدي بعضنا قد لا نكتشفها إلا وهي تحرك سلوكنا، لنجد أنفسنا مكان الجلاد أو قريبا منه. وفي النهاية كل جلاد هو ابن مجتمعه وليس شيطانا أو وحشا من كوكب آخر.


- نشر في "الشروق" الخميس 11 مارس 2010
_ PDF
- رسم وليد طاهر

هناك تعليق واحد:

  1. i think that we still believe in trial by ordeal. we also think that just getting oneself in the position of suspect is in itself worthy of punishment.

    ردحذف