الخميس، ٥ مارس ٢٠٠٩

طــرق بـعيــدة

بينما ينفي مشايخ الطرق الصوفية ذلك، يعترف شباب الصوفية بأنهم أقلية بين شباب الاتجاهات الدينية الأخرى. ولكنهم جميعا ينكرون أن بعض أفكار التصوف ومباديء الطرق هي السبب في تحول الصوفية يوما بعد يوم إلى طريق غامض تنظر الأجيال الجديدة إليه من بعيد، وتفضل أن تسلك طرقا أخرى.
sofi
حضرة الخميس في مقر الطريقة الجازولية بحي قايتباي - تصوير: هبة خليفة

بعد انتهاء صلاة العشاء في مسجد الأشرف، يتبع رضا، أمين الشرطة في القسم القريب، الشيخ مرتضى محمد، إمام وخطيب المسجد، إلى غرفته الصغيرة يمين المنبر، التي يجلس فيها الشيخ في غير أوقات الصلاة. ويسأله الفتوى: ماذا يفعل وقد فاته بالأمس أداء ركعات الشفع والوتر بعد صلاة العشاء؟ يرد الشيخ بأن هذه الركعات ليست من الواجبات بل من المستحبات ولا مشكلة في نسيانها ولا تصلى قضاء في اليوم التالي، ولكن الوتر من السنن التي كان النبي لا يتركها، ويمكن لمن يحب المواظبة عليه إن نسيه أن يصليه في اليوم التالي إن أحب، وأضاف "يعني براحتك". رد رضا "لأ، ما تقولليش براحتك، قل لي اعمل كذا وكذا، وأنا أنفذ".

قد يكون سبب عدم راحة رضا للإجابة في وظيفته التي تتلخص في طاعة الأوامر الواضحة والقاطعة، ولكن شعور رضا هو جزء من ظاهرة كبيرة لا يكن تجاهلها. تظهر في الميل المتزايد عند مختلف فئات المجتمع المصري للإلحاح في طلب الفتوى في أمور حياتهم ومطالبة العلماء والمشايخ بإيضاح أدق التفاصيل وكل الاحتمالات الممكنة، وكأنهم يريدون أن يكون في الدين إجابة عن كل شيء وبطريقة محددة مثل مسائل الحساب لا تحتمل التنوع والتعدد أو الاختلاف والجدل.

من الجيد إذن أن رضا لم يكن موجودا، والشيخ مرتضى يسترسل في الحديث عن المنهج الصوفي في التفسير الذي يؤدي إلى تأويلات متعددة لظاهر للنصوص الدينية، وبالتالي تعدد الطرق الصوفية وتنوع أساليبها في الذكر والدعاء وفي التربية ومجاهدة النفس. فالشيخ مرتضى وكيل عموم مشيخة الطرق الصوفية في قسم الخليفة، وأحد رجال الطريقة الجازولية الحسينية الشاذلية، التي أسسها الشيخ جابر الجازولي عام 1950. وهي أحد تفرعات الطريقة الشاذلية، نسبة إلى أبي الحسن الشاذلي، المتصوف الشهير الذي ولد بالمغرب، وتوفي ودفن في "الخميثراء" بالصحراء الشرقية في مصر قرب مرسى علم عام 656 هـ، وأشهر تلامذيه أبو العباس المرسي في الإسكندرية. ومن الطريقة الشاذلية تتفرع أكثر الطرق المصرية شهرة وعددا مثل الحامدية الشاذلية والمحمدية الشاذلية "العشيرة المحمدية" والعزمية الشاذلية.

"نحبكم ولكن"
يقول الشيخ مرتضى:”عندما بدأت في الخطابة وإمامة الصلاة في هذا المسجد منذ سنوات، أحببت كل أهل المنطقة وأحبوني، ولكنهم كانوا يقولون لي: نحن نحب كل ما تفعل وتقول، إلا "الحضرة" التي تقيمها الطريقة مساء كل خميس" ولكنه يضيف مبتسما "تطلب الأمر فترة من الوقت حتى بدأوا في الاطمئنان للطريقة وواظب بعضهم على الحضرة".

"الحضرة" من أهم طقوس الطرق الصوفية، وهي تعني اجتماع أهل الطريقة وترديد الأذكار والأوراد والأناشيد الخاصة بها، وتستخدم بعض الطرق، ومنها الطريقة الجازولية، بعض الآلات الموسيقية في الإنشاد والغناء. وتخوف المتدينين من أهم طقوس الصوفية، رغم التاريخ العريق للطرق الصوفية في مصر، وفي هذا الحي تحديدا، حي قايتباي المنعزل بين المقابر والذي يضم المراكز الرئيسية للكثير من الطرق الصوفية ويقع على مرمى حجر من مقر المشيخة العامة، لا يعني إلا التراجع الفادح في تأثير الطرق الصوفية على عامة المصريين، لصالح للانتشار المتزايد لأفكار التيارات الدينية الأخرى، ومنها التيار السلفي الذي يقوم على التمسك الصلب بأقوال ومنهج السلف في التفسير والعبادة، ويرى أن هذه الأذكار والأوراد التي يؤلفها شيوخ الطرق هي "بدع" لا أصل لها ولا يجوز التعبد بها، كما يرى أن الموسيقى والغناء والتصفيق والتمايل هي من المحرمات، فما بالك بممارستها بهدف التعبد والتقرب إلى الله. وبشكل عام، بين الصوفية والسلفية عداء وخصام تاريخي ومعاصر.

يعترف الشيخ مرتضى أن هذا التأثير السلفي أحد الأسباب، ولكنه لا يتفق مع القول بأن انتشار التيار السلفي وإقبال الشباب المتدين على الإلتزام وفق تعاليمه، يقابله تراجع في الإقبال على الاهتمام بالتصوف والانتساب للطرق الصوفية. ويقول:"تعداد أبناء الطرق الصوفية يقترب من 15 مليونا. وفي طريقتنا خاصة الكثير من الشباب". تتفاوت تصريحات مصادر المشيخة العامة للطرق حول عدد أبناء الطرق الصوفية من 15 مليونا إلى 10 مليونا وأحيانا إلى 7 مليون، ولكن يشكك الكثيرون في دقة هذا التعداد الصادر عن الصوفية أنفسهم، ويرون فيه مبالغة كبيرة، مشيرين إلى تراجع أعداد المحتفلين بالموالد المختلفة، وهي مناسبات هامة وأساسية بالنسبة للطرق، تحشد فيها كل طريقة أبنائها. يقول الشيخ مرتضى"إذن، تعال حضرة الخميس وشاهد بنفسك".

من أبناء الطرق إلى "أحفادها"
في مقر السادة الجازولية الذي يقع على بعد أمتار من مسجد الأشرف، أقيمت الحضرة التي ضمت حوالي 240 من أبناء الطريقة. لا يخلو الحضور من الشباب، ولكن أكثر من ثلثي الحاضرين سنهم فوق الأربعين.بينما يمكن أن تلاحظ هذه النسبة معكوسة في أي تجمع سلفي أو إخواني أو في جمهور أي داعية شاب.

الكثير من شباب الجازولية هم من أسر أو عائلات تنتمي إلى الطريقة، من هؤلاء المهندس أحمد عزت، من أبناء الطريقة في مدينة نصر، والمهندس إيهاب أبو الخير، من أبناء الطريقة الجازولية في شبرا، اللذان يقولان أن العائلة كانت سبب وجودهما في الطريقة وأنهما تربيا فيها وعلى تعاليمها منذ الطفولة. يعترف المهندس إيهاب على مضض بصعود السلفية والإخوان والدعاة الجدد وتراجع التصوف كخيار للشباب المتدين، ولكنه يُرجع ذلك إلى الجهل بحقيقة التصوف ويقول إنه يفتقر لوسائل إعلام تنقل تعاليمه إلى الناس.

بالفعل تخلو وسائل الإعلام من رموز صوفية مؤثرة، وفي المقابل هناك العديد من الفضائيات السلفية المصرية مثل "الناس" و"الرحمة" و"البركة" وغيرهم، وهناك حضور لرموز قريبة من تيار الإخوان مثل الشيخ القرضاوي على قناة "الجزيرة"، وتمثل الفضائيات النافذة الرئيسية للدعاة الشباب غير المنتمين لتيار بعينه. ولكن هذا الأمر يعتبره البعض مظهرا دالا على تقلص المكانة الصوفية لا سببا لها.لأن الكثير من وسائل الإعلام يبحث عن الرموز التي يحبها الناس ويظهرها، وبعض الدعاة المستقلين بدءوا من مساجد صغيرة وظهروا في الفضائيات بعد تحقيقهم شهرة مناسبة.

يمكن أن يكون مؤشرا أيضا على تراجع المكانة الصوفية، ما يلاحظه سيد عبد الله طالب الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وعضو الطريقة المحمدية الشاذلية، من انتشار السلفية بين طلبة الأزهر، رغم أن مؤسسة الأزهر أقرب للصوفية منها للسلفية. على الأقل يدرس طلاب الأزهر مادة "التصوف الإسلامي". والكثير من علماء الأزهر قريبون من أوساط الصوفية وبعضهم من رجال الطرق فعلا.

يضيف سيد عبد الله، أن الإخوان يأتون بعد السلفية بسبب التضييق الأمني على نشاطهم السياسي، ولكن ما يزيد من أزمة الغياب الصوفي هو تفرق أبناءه بين الطرق، وهو ما يعوق ممارسة نشاط طلابي ذى طابع صوفي. بينما الإخوان جماعة واحدة في كل أنحاء مصر، والسلفية رغم أنها تيار غير منظم لكن أفكارها ورموزها تجمع كل المنتسبين لها في كل مكان في مصر وخارجها.

محبون لا مريدون
ولكن الأمر قد يكون مرتبطا بطبيعة التصوف وطرقه نفسها، لا عوامل خارجه ولا عوامل الصراع بينه وبني تيارات أخرى، وهو ما يراه تامر رؤوف طالب الطب الذي يسكن بجوار مسجد الحامدية الشاذلية في المهندسين، ويحضر أحيانا بعض مجالس الذكر والإنشاد، ولأنه يحب الشعر والموسيقى فإنه ينتشي كثيرا ببهجة الشعر والغناء الصوفي، كما يشعر بدفء هذه الجلسات التي تعيد إليه التوازن النفسي بعيدا عن ضغوط الحياة وصراعاتها. ولكنه في المقابل لا يشعر أبدا أنه يمكن أن يتخذ قرارا بالانضمام للطريقة ليكون "مريدا" بين يدي "شيخ" يتولى تربيته، وتجب عليه طاعته. ويقول "أنا أحب أن أكون حرا، أقرأ كتب المتصوفة أوالإخوان أو مفكرين مثل طارق البشري والمسيري وغيرهم. أستمع إلى خطب القرضاوي أو الحبيب الجفري. أحب الإنشاد في حضرات الصوفية وحفلات الموسيقى في الأوبرا" ويضيف أن هناك مادة في القانون الداخلي للطريقة الحامدية الشاذلية نصها "يجب على التلميذ ألا ينازع شيخه ولا أن يطلب منه دليل على ما أمر به أو فعله فإن الأشياخ أمناء الله".

ما يتحدث عنه تامر يمثل اتجاها لقطاع واسع من شباب المدن، وهو ما ترصده د. منال عبد المنعم جاد الله في دراستها "التصوف في مصر والمغرب"1997، وتفسره بأن طبيعة الدين تختلف بين المجتمعات الريفية والقبلية وبين المجتمعات الحديثة في المدن، ففي الأولى هناك حاجة لشخص الشيخ بينما في الثانية هناك حاجة إلى الكتاب المطبوع. وفي الأولى هناك حاجة إلى "النسب الشريف" وإلى "الأشراف" أبناء آل البيت أو العائلات الكبرى الذين يعتمد الناس عليهم ويثقون بهم، بينما في الثانية يعتمد الناس على صفوة ثقافية أو أكاديمية. وهي تربط ذلك بما تلاحظه من قلة المنتسبين للطرق من شباب المدن ولكنها تقول أن الطرق عوضت ذلك عن طريق انتساب كبار السن والفئات الريفية.

تلقي المريد العلم والتربية علي يد الشيخ أمر أساسي في التصوف، لذلك فهو "طريقة" وليس "مذهبا"، طريقة عملية في التربية والسلوك يتم نقلها بالاتصال الشخصي المباشر. ويقول الشيخ مرتضى محمد "علمنا لا يؤخذ من الكتاب أو التلفاز، لابد من الشيخ المربي"، ومن مأثورات الشاذلية "من لا شيخ له فشيخه الشيطان".وترى د. منال جاد الله أن التغيرات الاجتماعية تجعل المتعلمين والشباب أقل قبولا لسلطة الشيخ الصوفي التي تشبه سلطة الأب نتيجة لازدياد ميل الشباب إلى الاستقلال وربما السخرية من وجهة النظر الأبوية.

في التيارات الأخرى، العلاقة بين العالم وطالب العلم السلفي تشبه علاقة الأستاذ بالطالب الجامعي أو علاقة المفكر والمثقف بالشباب المتأثرين بأفكاره. وفي جماعة الإخوان، الطاعة التنظيمية قد لا تخلو أيضا من خليط من التراتب العسكري وسلطة الأب المربي، ولكن الأجيال الجديدة في الجماعة لم تتوقف عن انتقاد بعض أساليب إدارة الجماعة والدعوة لأسلوب أكثر ديمقراطية. ومثل هذا الجدل لا يمكن أن يوجد داخل طريقة صوفية.

بعيدا عن السياسة أو في الحزب الحاكم
الاهتمام المتزايد بالسياسة في الشارع المصري يجعل الشباب الذي يعاني من الأوضاع الاجتماعية، أكثر ميلا للاتجاهات الدينية التي تقدم رؤى سياسية أو اجتماعية بديلة، حتى ولو نظرية. وفي المقابل يرصد فاروق مصطفى في دراسته عن "البناء الاجتماعي للطريقة الشاذلية"1974 أن مبدأ التوريث الذي يغلب على الطرق الصوفية، بحيث يختيار شيخ الطريقة ابنه الأكبر أو أخيه لخلافته، قد جعل كل طريقة حكرا على عائلة بعينها، وهو ما أبعد الطرق الصوفية عن الناحية الاجتماعية وجعلها تميل لخدمة الوضع القائم، كما أنه يضعف جاذبية الطرق في أعين الناس بسبب افتقاد الشيوخ الأبناء لكاريزما الآباء المؤسسين.

وفي كتابه "الصوفية والسياسة في مصر"1997، يرصد د. عمار على حسن، عبر دراسة تطبيقية على عينة من طريقتين إحداهما الحامدية الشاذلية والأخرى الخليلية، أن تربية الطرق الصوفية تنمي قيما إيجابية مثل التسامح والأخوة. ولكن لأن هذه التربية تعتمد على اتباع الشيخ "الملهم" أو "صاحب النسب الشريف "، الذي لا يمكن مناقشته لأن علمه وأمره إلهام من الله، فهي تنمي في المقابل قيم الخضوع للسلطة، وتضعف قيمة الاستقلال والرأي الحر والإيجابية السياسية، وتكرس قبول الأمر الواقع بدلا من السعي إلى تغييره، وتبرر قبول التفاوت الاجتماعي باعتباره من قدر الله أو مما يأمر به الدين. وكان دالا أن أفراد عينة الدراسة من الطرقتين المنتمين لأحزاب، ونسبتهم 23.6% من الحامدية الشاذلية و12.5% من الخليلية، ينتمون جميعهم لحزب واحد فقط هو "الحزب الوطني". بينما غير المنتمين لأحزاب يبررون ذلك بالتفرغ للعمل الصوفي أو عدم الاهتمام بالسياسة.

هذه العلاقة بالسلطة ساعدت الطرق الصوفية على التكيف والاستمرار، وضمنت لرؤسائها المكاسب ولو اقتصرت على المكانة الاجتماعية والروحية. كما أن السيطرة على الأعداد الكبيرة المنضوية تحت رايات الطرق، وضمان تأييدها أو سلبيتها، كان مكسبا للسلطة. ولكن يبدو أن الأمور لا تسير في صالح كليهما، فالاتجاهات الدينية الأخرى تنتعش بينما تفتقد الصوفية للدماء الجديدة لأنها لم تعد قادرة على اجتذاب الشباب، وقد تكتشف السلطة أنها تتكيء على عصا قديمة لم تعد تحتمل.

ولكن بعيدا عن رؤساء الطرق ورجال السلطة وعن الشباب الذي يجد طرقه البديلة، فإن أفول الطرق الصوفية قد يعني "يتما روحيا" لبعض أبنائها من البسطاء الذين لا يجدون ضالتهم لا في يقين السلفيين الجامد، ولا في حماسة الإخوان. ولكنهم يجدونه في الحب المشخص للأولياء وآل بيت النبي، وفي بهجة ليالي الذكر والإنشاد. وربما كان منهم ذلك الكهل الحرفي الذي وضع بين قدميه حقيبة أدواته، واكتفى وقت تمايل الآخرين في حضرة الجازولية بهز رأسه بينما تفيض عيناه بدمع غزير رغم ابتسامته الوسعة وهو يرفع يديه ووجهه إلى السماء وشفتاه تتمتمان بما لا يعلمه إلا الله.


الصوفية - عمرو عزت - جريدة الشروق - 6 مارس 2009

هناك تعليقان (٢):

  1. المهندس/ إيهاب من الطريقة الجازولية منطقة شبرا
    اتمنى ان الفكر الصوفى ينتشر اكثر واكثر
    وعلى فكرة اسمى إيهاب أبوزيد
    شكرا"

    ردحذف
  2. ذكر الله والصلاة على احمد حبيبى لم اجده الا في حضرتهم افضل من الجلوس على القهاوى ونفخ
    شيشة وسجاير وحاجات تانى الله اعلم بيها مالاخر شاذلى وافتخر
    حسن غريب المنيا

    ردحذف