الخميس، ١٩ مارس ٢٠٠٩

الكثير من الكلام .. القليل من الإنصات

kalam
تصوير: السيد عبد القادر


عندما يتعلق الأمر بالدين، فالمساحات الحرة للتعبير على الإنترنت قليلا ما تكون نوافذ واسعة لرؤية الآخر والتواصل معه، وكثيرا ما تتحول إلى مجرد فتحات ضيقة في جدران متباعدة يختفي خلفها المختلفون في الدين أو المذهب أو حتى الرأي، يتبادلون من خلالها التصويب وإطلاق النار!

" حاربهم بمثل سلاحهم، وهو السخرية. فأنت كلما نشرت كلاماً قيماً سخروا منك، (إذن) كلما وجدت منهم كلاماً يبدو قوياً بليغاً .. اسخر منهم "
هذه واحدة من عديد من النصائح كتبها مشرف مجموعة على موقع "الفيس بوك" Facebook. المجموعة ليست مخصصة للحوارحول موضوع ما، ولكن هدفها يبدو من اسمها "الطريقة الفعالة للتعامل مع الجروبات(المجموعات) العلمانية المتطرفة التي تهاجم الإسلام".
يبدو الأمر كمعسكر تدريبي لأعضاء جبهة ما قبل الدخول إلى ساحة المعركة، ومشرف المجموعة ينصح الأعضاء بالاستعداد جيدا وينبههم إلى ضرورة الإطلاع الكافي على علوم الدين قبل الدخول في جدل مع "هؤلاء"، محذرا من أن خلاصة تجربته ودراسته لفكرهم وأساليبهم تؤكد أنهم "ليسوا مسلمين ولا علمانيين.. إنها حملات تبشيرية".

لقد وصل المتحاربون إلى "الفيس بوك" ! جزء من شبكة التواصل الاجتماعي الشهيرة تحول لخنادق للفصائل المتحاربة التي تحتل أجزاء لا بأس منها من المواقع والمنتديات وغرف الحوار والمدونات. باختصار، تحتل أجزاء كبيرة من المساحات التفاعلية على شبكة الإنترنت.
هذه المساحات تتيح لكل من يستخدم الكمبيوتر الإعلان عن رأيه والدعوة إليه والتعليق على آراء الآخرين والحوار معهم. بينما في الواقع الحقيقي، لا يمكن لفرد عادي أن يقوم بذلك إلى في دائرة معارفه الخاصة، وأما في المساحات العامة مثل الندوات العامة أو وسائل الإعلام، لا يمكن للجمهور الواسع إلا أن يكون مستقبلا، وإن تكلم فهو يسأل ويستفتي أهل العلم والتخصص، وإن أتيح له التعبير عن رأيه يجب أن يكون ذلك ضمن الهامش المتاح وبما لا يتجاوز الخطوط الحمراء، وفي الغالب أيضا سيكون هناك متخصص يرد ويصحح من وجهة نظره.
الموضوعات الدينية وما يتعلق بها هي من أكثر الموضوعات جذبا للاهتمام العام، وفي الإنترنت كما في الواقع تستقطب متحاورين عديدين. ولكن حالة الحوار وأسلوبه وما ينتهي إليه ليست مبشرة بالمرة بالنسبة لكثيرين.

"الأمر يشبه حالة شخص اشترى سيارة حديثة ولكنه لا يستغل من إمكاناتها سوى عجلة القيادة ودواسة البنزين" هكذا يشبه المهندس شريف عبد العزيز، صاحب مدونة "العدالة للجميع"، استخدام معظم المشتركين في حوارات دينية على الإنترنت. ويوضح فكرته أكثر "في كل تجربة جانب عاكس وجانب تفاعلي، في الجانب الأول الإنترنت عكست حالة الحوار الديني في الواقع بكل ما يسودها من توتر ويقين مسبق وكسل معرفي ورغبة كل فرد في تحقيق انتصار لما يؤمن به لكي يطمئن قلبه".
يعتقد عبد العزيز أن هذه خصائص الثقافة الدينية السائدة لدى كثيرين، وفي مدونته يحاول أن ينقد هذه الخصائص بهدف "إعادة تعريف الأصولية" كما يعلن في صدارة المدونة. "هذه الخصائص هي التي تفسد الجانب الآخر التفاعلي وتحرم المتحاورين من إمكاناته، فالإنترنت تتيح بسهولة معلومات عن الاتجاهات والمذاهب المختلفة ونقاط اتفاقها واختلافها، وبالتالي صورة أوضح للآخر. كما يتيح الحوار المكتوب مثلا فرصة أكبر للإنصات للآخر والتفكير في كلامه بل وتفكير الشخص في كلامه هو وتأمله جيدا، وهو ما لا يوفره الحوار السريع المباشر، ولكن هذه الإمكانات لا يستفيد منها معظم المتحاورين ويكتفون بترديد ما يؤمنون به وبتبادل الصراخ".
الصراخ هنا ليس مجازا. محاولة استطلاع الأمر في منتديات ذات شعبية أو غرف حوار صوتية مثل تلك التي تتيجها خدمات مثل IMRC أو Paltalk، إن كان الحوار يدور بين مسلمين ومسيحيين حول "الدين الصحيح" أو بين مسلمين سنة وآخرين شيعة حول "الإسلام الصحيح"، فإن الأمر قد يقودك لأن تسمع صراخا بالفعل، أو أن ترى بعض المتحاروين بالكلمات لا يكتفون بالعنف اللفظي بل ويدعمونه بحجم خط كبير وألوان ساخنة للتعبير عن مدى الغضب أو السخرية أو الازدراء.
ولكن هذا ليس الجانب الوحيد وإن كان طاغيا، فلا يمكن أن ننسى أن مدونة عبد العزيز نفسها تستفيد من حرية طرح الأفكار الدينية من قبل أفراد عاديين لا يتمتعون بشهرة ومكانة علماء الدين المتخصصين، وهو يطرح فيها بحرية أفكارا دينية تخالف الآراء السائدة والتقليدية، ولهذه المدونة وحواراتها الفضل في تعرفه على آخرين مقاربين له في طريقة التفكير وربما لم تكن لتتاح لهم فرصة اللقاء بسبب بعد المكان، فتعرفوا على بعضهم البعض من خلال تفاعل أفكارهم في فضاء الإنترنت. ولكن مدونته لم تعدم أيضا معارضين له يرون فيما يكتبه هو الجانب السيء في حرية "الكلام في الدين" على الإنترنت، من هؤلاء " الصارم الحاسم" .
"الصارم الحاسم" مهندس أيضا، ولكنه يفضل أن يظل خلف اسمه المستعار في مدونته وصفحته على الفيس بوك، ليعطيه ذلك حرية أكبر ويبقيه بعيدا عن طائلة أي قمع يطال أصحاب "الاتجاهات الإسلامية" التي توصف بـ"المتطرفة". أحيانا ما يصف "الصارم" نفسه في حوارات على المدونات بالمتطرف. كاستباق ساخر قبل أن يتهمه آخر بذلك بسبب انتقاده لما يراه تجاوزا لثوابت الدين و"جرأة على الله" على حد تعبيره، وهو ما يعتبره أكبر سلبيات الحوار الديني المفتوح على الإنترنت، ويقول:"الإيمان بالغيب هو أساس الدين، والفهم يأتي لاحقا، فهناك أشياء ربما لا نكتشف حكمتها على الفور، و يحتاج منا الأمر للامتثال والتسليم والرجوع لفهم السلف الصالح والعلماء الثقات لنكتشف الحكمة الإلهية في العديد من الأمور بدلا من التشكيك في ثوابت الدين".
معركة الثوابت
اقتربنا قليلا من ساحة المعركة. فمناقشة أو نقد العقائد وثوابت الدين من جهة، في مقابل التسليم بها ورفض التشكيك فيها من جهة أخرى، هي الصورة المتكررة للحوارات التي تتحول إلى معارك.
ومن بين الثوابت الأكثر إثارة للجدل ثم العراك، يبدو الحجاب في مكانة مميزة. فبرغم الحجج المكررة لأنصار الحجاب والانتقادات المكررة من قبل مهاجميه، لا تنتهي فصول المعركة أبدا. على موقع الفيس بوك تتكاثر المجموعات التي تتناول الحجاب بشكل زوجي،تنشأ المجموعة وفورا تنشأ الأخرى التي ترد عليها. الرد هنا ليس معناه الرد على الكلام فقط، بل أحيانا توجيه الدعوة لعدد كبير من الناس للتكاتف ومطالبة موقع الفيس بوك بحذف المجموعة الأخرى، أو محاولة "الاستيلاء" على المجموعة وإغلاقها بوسائل تقنية. وهو ما يشير إليه محمد ثابت، مشرف مجموعة "الحجاب ليس فريضة" عندما يحكي عن تعرضه لمحاولات قرصنة إلكترونية وتهديدات بسبب إنشائه لهذه المجموعة وإدارته لحوار حول "فرضية الحجاب". هذا غير محاولات إفساد الحوار داخل المجموعة بإغراقها بتعليقات خارج الموضوع أو شتائم. ورغم ذلك يؤكد ثابت "الجانب الإيجابي في مثل هذه الحوارات أنها أحيانا ما تنجح في اجتذاب بعض أصحاب الآراء شبه المتطرفة إليها، كما أنها تظل تذكر الأطراف الرافضة لفكرة التسامح الديني والأفراد من ذوي الثقافة والإطلاع المحدودين بأن هناك دائماً وجهة نظر أخرى أكثر اعتدالاً وتسامحاً وأن الرأي الديني المتطرف ليس هو الرأي الوحيد الموجود والذي لابد بالتالي من تبنيه والتحمس له"
الاعتدال والتسامح والتطرف مفاهيم نسبية خاصة بين من يتبنون أفكارا مختلفة، ولكن يظل، كما قال ثابت، لساحات الحوار الديني على الإنترنت الفضل في إتاحة حق الوجود لك الأصوات من كل الاتجاهات.
هذا الفضل هو ما يؤكده شادي سمير، صاحب مدونة " بهائي مصري" ويشير إلى أنه كان السبب في التحسن النسبي في النظرة لأبناء الديانة البهائية منذ إثارة قضية حقهم في إثبات ديانتهم في البطاقة الشخصية. ويقول "الإنترنت كان عاملا هاما في انفتاح غير مسبوق على البهائيين لم يحدث في باقي وسائل الاعلام. فقد أعطى الفرصة للبهائيين أنفسهم لعرض مشاكلهم وقضاياهم بشكل واضح دون اي مزايدات إعلامية. وأعطى المجال للبهائيين للرد على المعلومات المغلوطة المنتشرة عن الدين البهائي. وأتاح لناشطي حقوق الانسان والمدونين المتضامنين الفرصة لعرض وجهة نظر مخالفة للمألوف عن قضية البهائيين المدنية وأيضا الجانب الديني منها، كما أن ظهور مدونين بهائيين أعطى للأمر بعدا إنسانيا بدلا من صورة القضية المجردة".
ولكن هذا التحسن النسبي لم يكن كبيرا، فالإنصات إلى الآخر وتغيير أحد أطراف حوار ديني على الإنترنت لقناعاته أمر عزيز، وما يحدث غالبا أن ساحات الحوار هذه تساهم في توطيد علاقة القريبين في الفكر والقناعات، وهذا ماحدث بعد الجدل حول حقوق البهائيين.. "الصارم الحاسم" وآخرين معه كانوا صوتا واحدا أثناء الجدل رافضين لهذه الحقوق بدعوى أن "الدين البهائي دين وضعي لاحق للإسلام ولا يمكن الاعتراف به"،. في الوقت الذي كانت هناك "جبهة" أخرى متضامنة مع حقوق البهائيين، ضمت شريف عبد العزيز وآخرين ممن يرون أن الإيمان بأي دين لا يجب أن يمس التعايش بحقوق متساوية بين أبناء الديانات المختلفة. وكان من أبرز الأنشطة التضامنية التي نظمها هؤلاء، وقفة أمام مجلس الدولة أثناء نظر القضية وقف فيها شريف عبد العزيز وهو يرفع لافتة كتب عليها:" أنا مسلم أؤمن ببطلان الديانة البهائية، وأؤيد حق البهائي في إضافة كلمة "بهائي" في خانة الديانة بالبطاقة الشخصية له ولأولاده" مع الآية القرآنية: " إن الله يأمر بالعدل".
من الإنترنت إلى العالم الحقيقي
هكذا انتقل بعضا من نتاج الحوار على الإنترنت إلى أرض الواقع، وهو ما حدث ويحدث ولكن ليس كله مما يسعدنا.
فقبل ذلك في العام 2005، شهد حي محرم بك في الإسكندرية اشتباكات طائفية بسبب اتهام كنيسة محرم بك بعرض مسرحية رآها البعض مسيئة للإسلام، واستدعى ذلك جدلا ونقاشات متعددة على الإنترنت. غرف دردشة على الـ Paltlak ومنتديات إسلامية دعت أعضائها إلى التجمع أمام الكنيسة والتظاهر احتجاجا، ونظم بعضهم بالفعل رحلات من محافظات أخرى إلى هناك. وهو ما سبب في المزيد من تأجيج الاحتقان. ولكن في الوقت نفسه، كان مدونون آخرن يعبرون عن غضبهم ورفضهم لهذا الاحتقان وتداعياته، ووقعوا بيانا جماعيا حمل اسم "معا أمام الله .. نحو للمصارحة والمصالحة"، ودعوا فيه إلى معالجة جذرية لأسباب الاحتقان الديني في مصر.
هذا البيان كان نواة مبادرة شكلها مجموعة من المدونين من المسلمين والمسيحيين تحت نفس الاسم " معا أمام الله – مصارحة ومصالحة" ، وبدأت تتخذ شكلا مؤسسيا، وتخطط لأنشطة أساسها "المصارحة" بأسباب الاحتقان الديني لكي يمكن تحقيق "المصالحة" وتجاوز حالة التوتر الطائفي.
" الإنترنت كان نواة البناء الاساسية للمبادرة "تؤكد ماريان ناجي حنا، المنسق العام للمبادرة "التعارف تم بين عقول الأفراد أولا على الإنترنت، وبالتدريج ومع النقاش المستمر اكتشفنا إمكانية الحركة على الارض. ولكن حتى بعد تكوين المبادرة ظل الإنترنت الوسيلة الأهم والأفضل للتواصل والمناقشة بسبب ضيق الوقت والالتزامات"
الحوار والإنصات إلى الآخر هو أساس المبادرة، وهو ما تؤكد ماريان أنه غير موجود في الواقع الحقيقي لذا كان لابد أن يبدأ من الإنترنت " قبل الإنترنت لم يكن هناك حوار أصلا، ما كان موجودا هو تطييب الخواطر بعد كل أزمة، وإجراءات ومعالجات رسمية غير مجدية تتم بين الأزهر والكنيسة والحكومة". وتضيف ماريان "ولكن في الحقيقة لا الكنيسة تمثل جموع المسيحيين ولا المفترض أن تكون كذلك، ولا الأزهر يمثل المسلمين ولا المفترض أن يكون كذلك، ولا الحكومة تعبر عن جموع المصريين رغم أنها هذه المرة من المفترض أن تعبر عنهم...الإنترنت هو الذي ساهم في وجود حوار حقيقي بين الناس من الأغلبية والأقلية، صحيح أنه أحيانا ما ينتهي إلى معارك وخطاب كراهية ولكن على الأقل أصبح هناك حوار".
لقد قطع الإنترنت هذه المسافة ووضع الناس في مواجهة بعضهم البعض، ولكن ذلك ليس معناه أن هناك حالة حوار يسمع فيها كل طرف ما يقوله الآخر. شريف عبد العزيز، وهو أيضا المنسق المساعد لمبادرة "مصارحة ومصالحة"، لا يخفي تشاؤمه من حجم التأثير الإيجابي لهذا الحوار حتى في وجود مبادرات جدية ومخلصة "الاهتمام بقضية الاحتقان الديني يزيد وقت الأزمات ويقل بعدها ويعود الحال لما هو عليه، هل يجب أن يصل الأمر إلى حدث مروع يمسنا جميعا لندرك فداحة هذه المشكلة ويبدأ الناس فعلا في الإنصات لبعضهم البعض؟". لا أحد يتمني ذلك.

نشر في الشروق الأربعاء 18 مارس 2009

هناك ٣ تعليقات:

  1. مقالة رائعة يا عمورة ...عجبني انك اعتبرت مبادرة معا امام الله جزء من موضوعك وكأنها في السياق العام بتحكي بيها قصة اكبر عن الحالة الحوارية علي مستوي النت والواقع

    اشكرك على عرضك الواضح واسلوبك المترابط

    ردحذف