الثلاثاء، ١ سبتمبر ٢٠٠٩

أمريكا .. الحلم أم العدو ؟



يتوجه هذه الأيام مايزيد عن 4800 مصري إلى السفارة الأمريكية لإتمام اجراءات حصولهم على فرصة الإقامة في أمريكا ضمن برنامج "قرعة فيزا من أجل التنوع" الذي انتهت إعلان نتائجه بداية هذا الشهر. كثيرون من هؤلاء راودتهم صور الحلم الأمريكي ولكن من المحتمل أيضا أن البحث عن لقمة عيش أتى ببعض من هتفوا ضدها في مظاهرات ورفعوا المصاحف. الحلم الأمريكي أم العدو الأمريكي ؟


راحة وبراح .. تنافس شرس وقلق ثقافي

بين هنا وهناك، يوازن البعض بين الفرص الأوفر والخيارات المفتوحة والحريات في "أرض الأحلام" وبين العودة إلى الوطن هربا من نمط الحياة التنافسي والمتحرر.

بالرغم من أنه بدأ إقامته في الولايات المتحدة مع بداية الأزمة المالية العالمية ولم يحظ حتى الآن بفرصة عمل ترضيه، إلا أن محسن سعد يعتبر نفسه سعيد الحظ وأن قراره كان موفقا.

محسن سعد واحد من 50 ألف من سعداء الحظ الذين اختيروا في القرعة السنوية لبرنامج فيزا من أجل التنوع "Diversity visa program"، من بين أكثر من 6 مليون من كافة أنحاء العالم تقدموا للحصول على فرصة الإقامة والعمل في الولايات المتحدة وفرصة الحصول على الجنسية الأمريكية بعد مرور 5 سنوات ووفق بعض الشروط.

عدد المصريين المقبولين السنة الماضية كان 4392 وهو سادس أكبرعدد مقبولين من دولة واحدة، هذه السنة ارتفع إلى ما يزيد عن 4800، وهو ليس المؤشر الوحيد على الإقبال المصري على هذه القرعة. عدد كبير من شباب عائلة محسن يتقدمون كل سنة لها، ولكنه لم يتقدم إلا هذه المرة ولم يفكر كثيرا في القرار عندما تم اختياره بعد سلسلة من الإحباطات.

في سن مبكر بدأ محسن الاهتمام ببرمجة الكمبيوتر، وعندما التحق بكلية الهندسة وكان ترتيبه الأول في مادة الكمبيوتر في السنة الإعدادية لم يستطع الالتحاق بقسم الكمبيوتر لأن مجموعه الكلي أقل من المطلوب بسبب مواد أخرى مثل الرسم الهندسي والميكانيكا. ولكن ذلك لم يكن مانعا من أن يكون القسم الوحيد المتاح له هو قسم الهندسة الميكانيكية!

رغم ذلك أكمل محسن دراسة البرمجة بشكل حر، بل وبدأ في التعاون على الإنترنت مع شركات أمريكية تبحث عن مبرمجين جيدين بأجور قليلة كانت بالنسبة له جيدة جدا. فحقق دخلا جيدا أنفق منه على نفسه بشكل كامل طوال عشر سنوات رفض والده خلالها الإنفاق عليه لأنه ظل يرسب في كلية الهندسة إلى أن تم فصله منها!

ورغم ذلك، ادخر محسن ما يكفي ليطور نشاطه ويؤسس شركة صغيرة لبرمجة الكمبيوتر، ولكنه أصيب بالإحباط من المعوقات والفساد، ومن الشباب خريجي هندسة الكمبيوتر الذين عملوه معه ويفضل معظمهم - كما يقول- العمل في شركات تنتج برامج سهلة عبارة عن إعداد اسطوانات دينية ومواد تعليمية بدلا من بذل الجهد في تعلم المزيد لإنجاز برامج متقدمة يمكن تسويقها في أمريكا حيث يوجد عملاؤه.

ترك محسن كل ذلك ليرحل فورا إلى ولاية فيرجينيا، ليعمل في خدمة العملاء في إحدى شركات استضافة مواقع الإنترنت، ولا يزال يبحث عن فرصة في البرمجة مجاله المفضل ولكن فرص العمل الآن نادرة بسبب أجواء الأزمة المالية.

يقول محسن: "مهما كان، الحياة هنا ممكنة مع حد أدنى من الدخل، والتفاصيل اليومية والعلاقات في الشارع والعمل مرتبة نوعا ما وأقل استهلاكا للأعصاب، هناك احترام للخصوصية وقواعد محددة لحقوقك وحدود حريتك وحرية الآخرين وليس عليك أن تناضل يوميا من أجل ذلك".

يروى محسن كيف أنه حصل خلال شهور قليلة على أساسيات الحياة هناك، شقة جيدة وسيارة، بينما قد يتطلب ذلك قصة كفاح في مصر. هناك يتاح للناس أن يوفروا جهدهم للمنافسة والبحث عن فرص أفضل، ورغم أن التنافس قد يكون شرسا إلا أن في رأيه تنافس أخلاقي جدا مقارنة بمصر بحسب رأيه.

ورغم أنه قلق نسبيا من أن التنافس في استعراض مظاهر الحياة الاستهلاكية هناك تسحب الناس وتزيد من أعبائهم المالية إلا أنه من جانب آخر متفائل بانتخاب أوباما وبالذات عندما يقرأ في الصحف عن محاولاته توسيع مظلة التأمين الصحي وتيسير فرص التعليم الجامعي.

"معظم الناس هنا أكثر راحة لقدوم أوباما بعد بوش" كما يعبر محسن ولكنه لا يخفي قلقه الآخر "ولكن من ناحية أخرى ما زالت أمريكا دولة تهيمن على العالم وتمنع الآخرين بأشكال مختلفة من اللحاق بها، وأشعر بالتأثم من أن أكون بجهدي مساهما في هذا الجانب".

محسن- المسلم المتدين المتمسك بالمرجعية الدينية في سلوكه - يفكر أن هذه الصراعات نتاج مصالح أقلية، بينما معظم الشعب الأمريكي طيب وودود ومنشغل بتفاصيل حياته ولا يفكر كثيرا من الأصل في العالم الخارجي، ويحترم التنوعات والاختلافات الثقافية التي يشهدها المجتمع خاصة مع الوافدين الجدد.
ولكن ما يقلقه بشدة هو ثقافة التحرر:"يقولون أن ولاية فيرجينيا محافظة، لكن أكيد مفهوم المحافظة هنا مختلف، تعال وانظر ماذا تلبس النساء هنا!". يوضح أنه لا يتضايق من حريات الغير، ولكنه قلق من أن المجتمع يعلي حق التحرر الفردي على حق الأسرة أحيانا. وهو يفكر أن أبناءه يمكن أن يتحولوا عن الإسلام أو يسلكوا بشكل يراه إباحيا، وإذا تجاوزا سن معين تدافع الدولة رسميا عن حقهم وربما تعاقب الأب قانونا لو أساء إلى ابنه أو ابنته. "إذا شعرت أن ذلك يمكن أن يحدث، وإذا كنت قد أسست عملا خاصا بي يمكنني إدارته بين مصر وأمريكا يمكن أن أفكر في أن أعود بأبنائي إلى مصر لتستقر الأسرة هناك بشكل أساسي".

موائمة بين القيم والتجربة
"القلق الثقافي" يشغل جانبا كبيرا من تجربة العديدين في "أرض الأحلام". فأشرف الشريف، الأكاديمي الذي يعد رسالته للدكتوراة في جامعة بوسطن، يلاحظ أن ذلك يستهلك ذهن وأعصاب العديد من المصريين عند إقامتهم فترات طويلة في الولايات المتحدة وربما تعوقهم عن الإنجاز مقارنة بوافدين من ثقافات أخرى يستمعون بحياتهم ويعملون بلا قلق. يقول :"هناك مثلا الخمر جزء من الحياة الاجتماعية وجزء من أي سهرة ومناسبة. كما أن العلاقات الجنسية جزء من تجربة العلاقة مع الجنس الآخر".

هو نفسه كان عليه أن يقضي فترة من القلق والتفكير قبل أن يحقق نوعا من الموائمة بين قيمه وبين رغبته في التجربة والاكتشاف والتفاعل مع المجتمع الجديد. "لم أحب أبدا أن أكون مثل بعض المصريين الذين يعيشون في أمريكا من سنوات طويلة وتشعر أنهم لم يتعلموا شيئا من تجربتهم الجديدة لأنهم تقوقعوا على أنفسهم وفرضوا عزلة على أسرهم لحماية تقاليدهم".

لكنه يرجع ويشير إلى أن ما يميز الحياة في أمريكا، أو معظم مناطقها، هو حالة البراح والخيارات المفتوحة: "نظام الحياة هناك يتيح لك الاندماج والعزلة وفي نفس الوقت، يتيح لك أن تكون استهلاكيا أو تعيش نمط حياة ضد الاستهلاك وستجد من يشاركك. يمكنك أن تتقوقع وتعيش كأنك لم تخرج من بلدك الأصلي أو أن تكون "أمريكيا نموذجيا". هناك كيانات ضخمة وكيانات بديلة صغيرة في السياسة والإعلام والثقافة والفن وأسلوب الحياة. لا دولة ولا عقيدة أو تقاليد سائدة تضغط عليك لكي تحدد موقفك حالا، مع أوضد. هناك يمكنك أن تنعم بما أسميه "حالة الأنتخة الشاملة" التي لها جانب إيجابي وهو الاستمتاع بالحرية والتجربة، ولها جانب سلبي وهو أن يتم تفريغ حياتك وتدجينها - كما يعبر عبد الوهاب المسيري- وتصير كائنا لا هم لك إلا التنافس في الاستهلاك".

عندما عاد أشرف إلى مصر بعد فترة طويلة، بدأ يلاحظ أن نسخا "استهلاكية" من نمط الحياة الأمريكي تنتشر في مصر، فهو يرى ظواهر ثقافية مثل الدعاة الجدد وامسلسلات السيت كوم وفن الـ"ستاند اب كوميدي" نسخا بدائية لأصول أمريكية.

يقول أشرف :" بالإضافة إلى ذلك أني انتبهت بعد تجربة البراح لحالة الزحام والخنقة وحرب الأعصاب في كل مكان في مصر، لذلك عندما عدت إلى أمريكا أحسست أني لا أسافر بل أعود إلى الوطن". بعد أكثر من ذهاب وعودة بدأ يتخلص قليلا من هذا الشعور ويعود للتوازن، خاصة أن استمتاعه بتجربة التدريس في الجامعة الأمريكية في القاهرة وازن بعض الشيء استمتاعه بثراء الحياة الأكاديمية والثقافية في أمريكا. ولكنه لم يحسم بعد قراره بالاستقرار هنا أو هناك بعد انتهائه من الدكتوراة، ولا يزال يفكر: "الحياة هنا فيها بالتأكيد ما أحبه، ولكن أكثر ما أخشاه من الاستقرار في مصر أن أستسلم هنا لحالة مختلفة من "الأنتخة" في مواجهة الضغوط والظروف السيئة، أنتخة أقرب إلى البلادة ترضى بما حولها وتتكيف معه ولا تستاء منه".


أوباما ملهما

هناك شباب يدركون جيدا أن الفرص في "أرض الأحلام" ليست مجانية، فوراءها تاريخ من التمسك بقيم الحرية واحترام التنوع والمشاركة الاجتماعية الواسعة، وهذا ما أتى بأوباما وما جاء من أجله.

الجدل حول أوباما الذي تصاعد منذ خطابه في جامعة القاهرة لم ينته بعد. صيحات "نحبك يا أوباما" التي ترددت أكثر من مرة في فضاء قاعة احتفالات قاعة احتفالات الجامعة أثناء الخطاب، أثارت موجات من الجدل وربما الاستخفاف والسخرية من قبل كتاب ومعارضون كبار، ولكن بين الجيل الأصغر بقليل كان الأمر مختلفا.

المهندس الشاب أكرم إسماعيل، الناشط اليساري وعضو مجموعة "المهندسون الديمقراطيون"، فاجأ من يعرفونه بملاحظة على صفحته في الفيس بوك بعنوان "المقاومة والحب" يحيي فيها من أعلنوا عن حبهم لأوباما بلا خجل !

كتب أنه يفهم تماما الطابع الاحتفالي لزيارة أوباما ويعتبره "احتفال الأمة الأمريكية بأجود وأنقى ما فيها وأجمل أبنائها"، وأن جزء مهم من جوهر رسالة الخطاب هي: "وماذا عنكم؟" ويعتبر أن استقبال النخبة العربية "المسنّة" - في رأيه- كان فيه شعور بالدونية تجاه هذا التحدي. في حين أنه حيا الذين هتفوا "نحبك يا أوباما" معتبرا أنها كانت تعبيرا عن رد مختلف يقول: "أنا لا أخشى حبك ولا أخشى حب الآخر ورسالتك لا تمدنى بشعور بالدونية ولكن بالتفاؤل والأمل".

يقول أكرم :"رغم أن لدي موقف سياسي مختلف ونظرة مختلفة لما يجب أن تكون عليه السلطة وتوزيع الثروة في المجتمع، لكن المجتمع الأمريكي يعبر من خلال أوباما عن الديناميكية والحيوية والتنوع الموجود فيه والذي يفيد المجتمع وقت الأزمات ويمده ببدائل مختلفة وهذه أشياء يمكن أن نتعلمها منهم بلا مشاكل".

يتفق مع ذلك أشرف الشريف، مدرس العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية الذي كان في ولاية بوسطن ينهي الجزء الأول من رسالته للدكتوراة وقت انتخاب أوباما. ولمس كيف اعتمدت حملته على التجمعات الصغيرة وحماستها للتغيير لا رغبة المؤسسات الكبرى في الاستقرار.

يقول أشرف: "هناك شيء مميز في أمريكا، فالتعدد والحرية- المقدسان هناك -سمحا بوجود كل من الكيانات الضخمة مع التجمعات الصغيرة والمبادرات الفردية. هناك الإعلام الذي يقف ورائه رأس مال ضخم، وهناك إذاعات محلية صغيرة وبعضها على مستوى رفيع جدا من الحرفية. هناك الحزبان الكبيران وهناك جماعات سياسية ومدنية كثيرة جدا ومتنوعة، وذلك مرتبط بملمح آخر. هو أن روح المبادرة والارتياد المتجذرة في الروح الأمريكية وتاريخها تتحول في المجتمع إلى روح التجمع الأهلي الذي يؤسس جمعية لكل مشكلة تواجهه ويتضامن لحلها ولا ينتظر تدخل الحكومة المركزية، وربما لا يحب تدخلها في شئونه أصلا، ولذلك فأمريكا فعلا أكبر ديمقراطية في العالم خاصة على مستوى الإدارات المحلية المنتخبة التي تتسم بالحيوية الشديدة".

تلك الحيوية التي ربما لا تطمح لتغيير جذري ولكن تكتفي بطموح التغيير النسبي، هي الروح التي دفعت لبنى درويش، التي تدرس علم الاجتماع في كاليفورنيا، مع رفاقها من جماعات يسارية صغيرة ناشطة ضد الحرب، لأن يتحمسوا لأوباما والديمقراطيين في مقابل الجمهوريين، وأن يشارك كثير منهم في الحملة الانتخابية لأوباما رغم اختلاف طموحاتهم السياسية عن الاثنين.

ولكنها الآن لا تخفي قلقها مع بعض رفاقها من أن الحماسة الجارفة لشخص أوباما يمكن أن تؤثر على حركاتهم الصغيرة لأنهم بحاجة باستمرار للضغط على أوباما والاحتجاج في الشارع من أجل المزيد من التغيير.

ما تعبر عنه لبنى، هو ما يراه أشرف الشريف ميزة أخرى يمكن تعلمها من المجتمع الأمريكي، لأن المشاركة السياسية والاجتماعية هناك ليست من خلال أحزاب وتنظيمات صارمة فيها قيادة وأتباع، بل من خلال شبكات تتقاطع اهتماماتها وطموحاتها فتنشط وتتكاتف وتتجمع المساهمات الجماعية والفردية. يقول أشرف :"لقد شاركت أيضا في الحملة وشعرت أن ممارسة السياسة هناك فيها شيء ملهم. كنا نجمع بين استخدام التكنولوجيا الحديثة وما بين الاتصال الشخصي المباشر ومناقشة الناس في الشوارع والجامعات".

روح الحماس لما فيه الخير العام وصالح الجماعة الذي يعود في النهاية لصالح الأفراد، ربما ما يلهم أشرف، وهوأيضا ما يشير إليه أكرم مؤكدا أن بعض الشباب يظن الحلم الأمريكي هو مجرد فرصة وظيفة جيدة ومسكن جيد وسيارة وحرية فردية، ويحلم بفيزا تحمله إلى هناك ليجد الحلم جاهزا بانتظاره، لكن القيم التي يمكن أن تتيح لنا فعلا أن نحلم بنفس الحلم، هو أن مجتمع الفرص تحقق من خلال مشاركة اجتماعية في صنعه، وليس انكفاء كل واحد على حلمه الخاص فقط. ينسى الناس أن هناك نقابات وجمعيات واتحادات عمال قوية خاضت نضال قوي ضد محاولات الاستبداد وتمسكت بحريتها وحلمها، ولا تزال تحاول وهذه المشاركة هي التي أتت بأوباما إلى السلطة ويحق لها أن تحتفل وتفخر بذلك.

يضيف أكرم :"لا مشكلة في أن نعتبر أمريكا حلما وعدوا في نفس الوقت، وليس معنى أن أحب أوباما لما يمثله ألا أقاومه في لحظة أخرى، المشكلة في من يحاولون نقل الحلم مبتورا إلى مصر. فتجد أن النخبة في الحكومة أو بعض الليبراليين من رجال الأعمال يظنون أن توفير الفرص للشباب يكون من خلال كورسات كومبيوتر ولغة فقط لا تتيح إلا فرصة صعود اجتماعي لقلة، في حين يشيخ الشاب المصري ولم يعش أي تجربة حقيقة للمشاركة الاجتماعية، حتى في انتخابات اتحادات الطلبة في مدرسته وجامعته".


"أمريكا لن تغرر بنا !"

شباب الليبراليين والناشطين في منظمات المجتمع المدني يردون على اتهامهم التبعية لأمريكا، بأنهم اختاروا الانفتاح على العالم والاستفادة منه بعيدا عن أوهام المؤامرة.


ترك محمود صابر جامعة الأزهر بعد أن شعر أنه لا ينتمي لهذا المكان. هو يقول أنه واجه مشاكل عديدة بسبب إصراره على حريته في اختيار ملابسه ومظهره بشكل رأوه غير مقبول، فقرر تغيير الجامعة، ولكن يبدو أنه كشاب يعرف نفسه كليبرالي لم يشعر بالتكيف من نواح عديدة.

المشكلة أنه عندما انتقل إلى جامعته الجديدة حيث يدرس علم الاجتماع وجد نفسه مضطرا لأن يدرس مقررا في تاريخ الفكر الاجتماعي يرى أستاذه أن العولمة هي الهيمنة الأمريكية على العالم بما فيه الدول العربية، بل اضطر أن يكتب هو نفسه ذلك الكلام الذي لا يقتنع به في ورقة إجابة الامتحان لأن ذلك رأي الأستاذ.

يؤمن محمود صابر أن الليبرالية في الأساس هي طريقة حياة تقوم على أساس الحرية الفردية التي تشمل حترام الآخر وحريته وقبول التنوع والتعدد والاختلاف، ويرى العولمة هي مشاركة كل البشر بلا حواجز في إثراء الحضارة الإنسانية. في حين أن النظرة المقابلة لما يقول والمهاجمة له ولرفاقه ترى أن الحلم الأمريكي المستحوذ عليهم يجعلهم تابعين بشكل ما للمخطط الأمريكي للهيمنة تحت دعاوي العولمة الإنسانية - كما عبر أستاذه في المقرر- كما ترى هذه النظرة في تعاملهم كشباب ليبراليين مع مؤسسات غربية وأمريكية شكل واضح من التبعية أو ربما يستخدم الأكثر عدوانية تعبير "العمالة".

هذه الفكرة تواجه العديد من شباب التيارات الليبرالية والشباب الناشط في منظمات المجتمع المدني التي يستمد كثير منها التمويل والدعم والتدريب من منظمات أجنبية أغلبها أمريكية. وتطارد تجاربهم، ومنها تجربة مركز حياة للإبداع والثقافة الذي يشارك محمود صابر في تأسيسه وإدراته.

يدافع محمود صابر عن وجهة نظره: "شعار مركزنا : الليبرالية طريقة حياة، فهي ليست فقط مذهبا سياسيا، كما أنها ليست مرتبطة بأمريكا أو غيرها فهي اتجاه إنساني عام. ونظرية المؤامرة هي التي توهم أن انتشار التيارات والمراكز الليبرالية ورائهم أمريكا أوغيرها".

شهدت الفترة الأخيرة تأسيس أكثر من مركز للشباب الليبرالي منهم "اتحاد الشباب الليبرالي" و"حياة" بالإضافة لمراكز أخرى قيد الإنشاء، كما كان "حزب الغد" بداية اتجاه لتأسيس أحزاب ليبرالية جديدة مثل "حزب الجبهة الديمقراطية" وفي الطريق "الحزب المصري الليبرالي" و"الإصلاح والتنمية" تحت التأسيس.

يتابع صابر : "ليس في الأمر مؤامرة، ولكن هذا كان اختيارنا بعد فترة من سيطرة تيارات أخرى حتى على مجال الثقافة والفن كان من نتيجتها أن أصبح ما هو جدير بالتصفيق والتحية في المسرح على سبيل المثال هو فقط الإشارة إلى قضية فلسطين أو الوحدة العربية أو تحية جمال عبد الناصر".

يركز مركز "حياة" على جانب الثقافة والفن وليس الجانب السياسي المباشر، ويعكس ذلك وجهة نظر محمود صابر ورفاقه التي ترى أن الثقافة الليبرالية هي ما ينقص مجتمعنا، ويظهر نقصها في معظم المشكلات وأبسطها مثل معاكسة الفتيات في الشارع لأن الشباب لا يحترمون خصوصيتهن واختيارهم لملابسهن . يضيف صابر :"الليبرالية ثقافة، وهذه الثقافة هي التي تقف وراء الديمقراطية وهي التي تفتح باب التغيير، وهذا ما أتى بأوباما وهو سبب انبهار الشباب به لأنه جسد فكرة التغيير"

أما عن فكرة التبعية فيرى صابر أنها فكرة تقوم على منطق غير متوازن، فمن ناحية كل دولة قوية لها مصالحها وتحاول السيطرة على من هو أضعف منها وفي نفس الوقت الأضعف يحاول دائما الاستفادة من الأقوى. ولذلك فلا مشكلة عنده في التعاون مع أي جهة دولية حتى لو كانت أمريكية بشرط أن يكون ذلك في العلن وبشفافية وأن يعلن متلقو الدعم عن تفاصيل التعاون ونقاط الالتقاء بين أجندتهم وأجندة الجهة الداعمة. يضرب صابر مثلا بمركز حياة نفسه الذي يحضر لمشروع عن إنتاج "الإعلانات الاجتماعية" وهو مدعوم من منظمة أمريكية معروفة وهم يعلنون ذلك.

الرأي نفسه عند رندا أبو الدهب، التي تعمل في مركز الجزويت في مجال التدريب على إنتاج الأفلام، فبرغم أنها كانت في رحلة علنية أتيحت لها من خلال المنظمة الأمريكية "بيت الحرية Freedom house"، إلا أنها تشعر بحساسية كبيرة عن الحديث عن هذا الأمر مع معظم وسائل الإعلام بسبب ما تصفه بالمزايدة والاتهامات الجوفاء.

تضحك رندا وهي تقول :"أشعر أحيانا أنهم يتخيلون أن أمريكا تجندنا على طريقة الأفلام، يورطوننا ويصورون لنا أفلام إباحية لكي نكون لهم عملاء سريين رغم إرادتنا". وتضيف أن فكرة المجتمع المدني أصلا تقوم على عدم التبعية لأي حكومة، ولكن يلزمها قدر من الانفتاح على العالم وإقامة العلاقات مع أطرافه والاستفادة من ذلك، وفي هذه العلاقات يختار كل فرد أن يكون مستقلا أو يكون تابعا ولا أحد يجبر أحدا على شيء ولا يمكن التعميم.

تضرب مثالا بنفسها، في هذه الرحلة كان هناك ناشطون وصحفيون طلبوا أن يتم تدريبهم على مهارات خاصة بالسياسة والإعلام، بينما طلبت هي أن تتلقى تدريبا في مجال السينما، وكان عليها أن تقدم نموذجا من عملها في هذا المجال وتم بالفعل التنسيق مع مؤسسة في نيويورك وتلقت التدريب الذي طلبته.

تضيف أن فكرة "التبعية" حاضرة في كل علاقة، حتى في الدورات التدريبية في أي مؤسسة في مصر، فكل مؤسسة لها أجندتها واتجاهها، وهذا مقبول. ويمكن للفرد أن يحدد موقفه من ذلك.

لا تعتبر رندا نفسها ليبرالية، ولكنها تقدر أن المجتمع هناك فعلا حافل بالفرص ويقدر الكفاءة، بينما المجتمع المصري متورط في علاقات الواسطة والمحسوبية: "ولماذا نذهب بعيدا، لقد حصلت على فرصة تدريب في مؤسسة مهمة في نيويورك بمجرد إثبات كفاءتي في حين أن الأمر نفسه في مصر محكوم في الغالب بمن تكون وابن من أنت وقريب من ومن تعرف في المجال".

تعتقد رندا أن مصدر قوة وحيوية أمريكا يكمن في ثقافة الناس وعلاقاتهم، الفساد موجود كما في كل مكان، ولكن ثقافة الرشوة والمحسوبية ليست منتشرة ولذلك فالنزاهة واحترام الكفاءة يعطيان دائما الأمل في الفرصة مما يدفع الكل للاجتهاد.

رغم تقدير محمود صابر ورندا أبو الدهب للمجتمع الأمريكي، فكلاهما لا يتمنى فرصة للحياة في أمريكا، فمحمود لا يجد تحققا لذاته في الاستمتاع بثمرة الحلم الأمريكي، بل في العمل من أجله حلم مماثل هنا كما يراه، ورندا تقول أنها لا تريد ترك مصر مهما كانت المشاكل، فالصورة هنا ليست مظلمة والمجتمع المدني الذي تعمل في مجاله ينير في رأيها شمعة ضرورية :" لم أستطع دخول معهد السينما هنا ولا يمكنني بسهولة أن أدخل مجال إنتاج الأفلام مثل كثير من الشباب لكن من خلال "الجزويت" نتعلم ونتدرب وننتج أفلاما قصيرة في حدود إمكانياتنا".


نشر في الشروق الخميس 13 أغسطس 2009
PDF

اللوحة للفنانة هبة خليفة

هناك تعليق واحد:

  1. لبنى درويش اشتغلت لصالح أوباما؟ دي يا غلطة يا سوء تفاهم

    ردحذف