الخميس، ٢٤ سبتمبر ٢٠٠٩

التقاء النماذج

تنمية بشرية .. وإسلامية

محاكاة "النماذج الناجحة" هو أساس أفكار ومهارات التنمية البشرية ودورات التدريب عليها. والاتجاه المتزايد للاهتمام بها تزاوج مع الاتجاه الصاعد اجتماعيا للاقتراب من "نموذج الالتزام الديني"، لنشهد إقبال الدعاة على تعلم واستخدام مهارات التنمية البشرية في الدعوة واتجاه الدورات لتكون في قالب إسلامي أو على الأقل بديباجة دينية.


في ساحة صغيرة مغطاة بجوار حمام السباحة في نادي القاهرة الرياضي، يقف المدرب محمد الطيب، مؤسس فريق "بداية" للتنمية البشرية، أمام المتقدمين للتدريب في الدورة الحالية للفريق وأفراد من أسرهم وبعض أعضاء النادي. يسألهم محمد الطيب إن كانوا يعتقدون أنه يمكن حمل شخص بواسطة إصبعين فقط، ثم يحاول بالفعل هو وثلاثة متقدمين يختارهم عشوائيا ويفشلون. ولكنه يؤكد أن الأمر ممكن مع الاستعانة ببعض مهارات التنمية البشرية. يأخذ الفتيان الثلاثة إلى جانب لدقائق ثم يعودون وقد اتفقوا على شيء ما، يقفون لثوان حوله بلا حراك في إيحاء بالتركيز ثم يتشاركون بكيفية معينة في حمله من على الأرض وينجحون.
هذا التدريب الاستعراضي كان ختام حفلة السمر الاحتفالية التي تسبق بدء الدورة التي ينظمها فريق بداية مع لجنة الشباب بنادي القاهرة. ويبدو أن هذا التدريب يريد أن يجتذب المتقدمين من خلال عرض تأثير الفكرة الرئيسية للتنمية البشرية وهي أنه يإمكان كل فرد أن ينجز ما يريده. ولكن من أجل ذلك هناك متطلبات معينة منها "قوة الاعتقاد" في قدرات الذات التي يعتقد منظرو التنمية البشرية أن لها دور فعلي – وليس فقط معنويا – في القدرة على الإنجاز. بالإضافة لأهمية "الأسلوب" في إنجاز أي شيء. فالتنمية البشرية ليست علما ولكنها تقدم نماذجا لأساليب فعالة اتبعها الناجحون في حياتهم وعملهم.
بحماسة ينهي محمد الطيب الاحتفالية وهو يعد المتقدمين أن فريق "بداية" سيقدم لهم التنمية البشرية كما قدمها علماء الغرب وكما أسسها النبي (ص)، وسيدرسون العادات السبع للنجاح كما قدمها ستيفن كوفي وكما طبقها النبي في سيرته. ويضيف الطيب الذي يعرف نفسه بأنه مدرب مصري استرالي :"أنا طفت العالم كله، وتعلمت التنمية البشرية وعلّمتها في الغرب، ولم أجد مثل معدننا الفريد. نحن لنا إله وعندنا منهج، ولدينا قرآن وسنة. ويمكن لكل مسلم أن ينجح ويكون رأسه برأس بيل جيتس".
قبله كان محمد كروم، المدرب بالفريق، يتحدث عن أن بداية الاهتمام بمجال التنمية البشرية جاء بعد الحرب العالمية الثانية وهدفه "نمذجة" السلوك البشري الفعال، من خلال ملاحظة أساليب الناجحين وخبراتهم ونقلها للآخرين لكل يسلكوا نفس الطريق. وقبلهما تحدثت رشا الشهيد، المدربة بالفريق والداعية الإسلامية ومساعدة الخبير الشهير د.إبراهيم الفقي، عن أن التنمية البشرية ليست فقط مهارات إدارة الذات بل في تنميتها داخليا فهي أسلوب حياة.
تمزج مهارات التنمية البشرية بين التخطيط للحياة وتحقيق التوازن النفسي التواصل الفعال مع الآخرين وبين مهارات العمل مثل الإدارة والتسويق والقيادة والعمل في فريق. ويبدو أن كونها تقدم مقترحا لأسلوب الحياة يجعل بينها وبين الدعوة الدينية مساحة تقاطع.
تؤكد ذلك رشا الشهيد وتقول أنها بالأساس تعرفت على مجال التنمية البشرية عندما كانت تبدأ طريقها كداعية إسلامية ومقدمة برامج منها برنامج "على طريق الصالحات" على قناة النجاح. وجدت في مهارات التنمية البشرية وخاصة "البرمجة اللغوية العصبية" أسلوبا فعالا ومنهجيا في التواصل والتأثير. تقول: "من أهم من تأثرت بهم هو الأستاذ عمرو خالد، فرغم أنه ليس عالما دينيا لكن له أسلوب فعال ومؤثر وقريب من الناس،وعرفت أنه درس مهارات التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية ويطبقها في دعوته، وكانت نقطة فارقة في مساره"، وتضيف أنه من بعد عمرو خالد يستخدم كل الدعاة الشباب مثل معز مسعود ومصطفى حسني بشكل واضح تقنيات التنمية البشرية وهو واضح في أسلوبهم.

أهم من مجرد أداة
دورات التنمية البشرية أصبحت واحدة من أهم الأنشطة التي ارتبط بها جمهور الدعاة الجدد، وتبنها مراكز إسلامية. ففريق "زدني" -الذي يعد واحدا من أشهر فرق التنمية البشرية - بدأ نشاطه من خلال مسجد رابعة العدوية ولا يزال مقره هناك.وجمعيات "صناع الحياة" المنتشرة في المحافظات تعد دورات التنمية البشرية من أهم أنشطتها.
ولكن التنمية البشرية لم تعد وسيلة أو أداة بالنسبة للدعوة الإسلامية، فالكثير من مشاهير الخبراء والمدربين يقدمونها من خلال ربطها بالثقافة الإسلامية، ومنهم إبراهيم الفقي وبشكل أكبر طارق السويدان وصلاح الراشد.
تؤكد على ذلك رشا الشهيد :"بالفعل معظم خبراء ومدربي التنمية البشرية العرب يقدمونها من خلال الثقافة الإسلامية، القليل فقط يأخذها من علمائها ويقدمها كما هي. ولكن الجمهور يلاحظ أن مباديء هذه المهارات والأفكار موجود في الإسلام، فالنزعة الدينية لدى الجمهور قوية حتى لو بدا غير ذلك أحيانا. وملاحظتهم صحيحة فالغرب أخذ بضاعتنا وأعاد تقديمها لنا كما فعل في أشياء كثيرة".
يمكن أن نضع هذا التوجه ضمن نزعة "الأسلمة" التي يتبناها منظرون في مجالات العلوم الاجتماعية وأحيانا في العلوم الطبيعية فيما يسمى بالإعجاز العلمي. وهذا الاتجاه المثير للجدل تواجهه استفسارات من نوع: إذا كانت هي بضاعتنا وأصولها في ثقافتنا فلم لم ننتجها نحن من البداية، ولماذا لا يقدم المنظرون والخبراء الإسلاميون إسهامات أصيلة في هذا المجال.
اتجاه "أسلمة التنمية البشرية" يعبر عن نفسه من خلال أدبيات كثيرة لا تجيب على السؤال بل تزيد الجدل حدة، فهي تبدو وكأنها تنقل الأفكار الجديدة لتلبسها غطاء إسلامي أو تربطها بأي أفكار قريبة منها أو تتصل بها في الثقافة الإسلامية. كتاب مثل "إدارة الوقت من المنظور الإسلامي والإداري" لخالد الجريسي يربط بين طلب النبي موسى :"واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري" وبين القاعدة الإدارية التي تحبذ تفويض المرؤوسين في بعض لتوفير الوقت. وكتاب "السلوك الإداري في صحيح البخاري" لهناء يماني يربط بين فكرة شفاعة النبي محمد للمؤمنين عند الله يوم القيامة ليتجاوز عن سيئاتهم، وبين كون رحمة القائد أوالمدير بمرؤوسيه ولينه معهم يؤديان لتماسك فريق العمل ويعد حافزا لهم على التقدم نحو الهدف المنشود. ويربط طارق السويدان في سلسلة مقالات عن "الإدارة والتوحيد" بين مفاهيم العقيدة والإدارة الناجحة، مثل إشارته للعلاقة بين الثواب والعقاب في العقيدة وبين المبدأ الإداري الذي يربط العمل بالحافز.
"أشعر أحيانا بالمبالغة والربط المتعسف" هكذا يرى هشام عبد الله، الصيدلي الشاب الذي اتجه لدورات التنمية البشرية لتحسين مهاراته في التسويق الذي أصبح مجال عمله في إحدى شركات الأدوية،وتلقى عدد من الدورات في جمعية خيرية إسلامية قريبة من منزله قبل أن يتجه للمراكز المتخصصة. ولكنه يتابع :”في أحيان أخرى أجد هناك ضرورة لوجود القيم الإسلامية لتوازن روح النجاح المادي المنتشرة في أفكار التنمية البشرية، ولكي يكون هناك جانب أخلاقي، وجانب من التوكل على الله يوازن فكرة الإيمان بقدرات الذات".

تسويق ونهضة
يعتقد هشام أيضا، ويشاركه آخرون، إن دمج الثقافة الإسلامية في التنمية البشرية يتم أحيانا لضرورات تسويقية لكي تلقى رواجا كبيرا وسط الجمهور الواسع وربما هو أسلوب ناجح لتقريب الأفكار للشباب ولكي تلهمهم وتثير حماستهم. في حفل سمر فريق بداية وقف الطالب محمد المهدي لكي يقول أنه اتجه لدورات التنمية البشرية لأنه يعتقد أنها علم "يعيد بناء جيل لا يعرف قدراته جيدا ويعيد بناء الأمة بأسرها".
ولكن هشام يعود ويقول أنه يشعر بالتوجس من بعض فروع التنمية البشرية مثل علم الطاقة- الذي يقدم بعض المهارات القريبة من الرياضات الروحية الشرقية – والتنويم بالإيحاء- الذي يهدف للحد من تأثير الخبرات السيئة ومعاجلة بعض المشكلات النفسية والصحية- وبعض ممارسات البرمجة اللغوية العصبية- التي تهدف للتحكم في تفكير الآخر أو توجيهه - ويشعر أن فيها بعض الغيبيات التي لا تستند إلى علم أو دين.
رغم الحماسة في أوساط المتدينين لهذه المجالات إلا أن الأمر لم يخل أيضا من بعض علماء الدين – خاصة السلفيين- الذين أبدوا تشككهم فيها. الشيخ يوسف القرضاوي أيضا ذم البرمجة اللغوية العصبية في إحدى خطبه - المنشور نصها في موقعه الرسمي- واعتبرها نوعا من الغزو لعقول المسلمين.
تدافع رشا الشهيد عن هذه المجالات من التنمية البشرية، فهي حاصة على دبلومة البرمجة اللغوية العصبية و درجة ممارس لعلمي التنويم والطاقة البشرية. تعترف أن هذه المجالات ليست مبنية على تجارب علمية ولكنها خبرات تم نقلها وتعتبر أن الإنسان هو الحكم والتجربة العملية هي الأساس في مصداقيتها، وتربط بين بعض مباديء هذه الخبرات وبين بعض الأفكار الروحية في التصوف الإسلامي.
رشا الشهيد، وهي أيضا إحدى بنات الطريقة الخليلية، تقول أن إمكانية التخاطر والتفاهم بدون لغة مشهورة عند المتصوفة، وتعود وتؤكد أن التربية الصوفية بأركانها الثلاثة: التخلي (عن الخلق المذموم) والتحلي( بالخلق السليم) والتجلي (التخلق بأخلاق الله) تعتبر أحد المنابع الرئيسية للأفكار التربوية والنفسية والروحية في التنمية البشرية.
صحيح أن الإقبال على التصوف عند الأجيال الجديدة لم يعد كما كان بعكس الإقبال على التنمية البشرية، فالتصوف يركز على البعد الروحي وربما في بعض مدارسه لا يتجاهل أهمية النجاح العملي. ولكن الشباب يهتمون في الغالب بالتنمية البشرية تحديدا من أجل النجاح العملي. يقول هشام عبد الله: “أهم ما أراه جيدا في دمج الجانب الديني في التنمية البشرية هي أنها تدفع قطاعات كثيرة من الشباب نحو التدين وتوظف طاقاتهم لا في صراع سياسي كما عند الإخوان أو في جدل فقهي وتفصيلات مثل السلفيين ولا في تهويمات روحانية غير منضبطة مثل الصوفية. ولكنها تدفعهم لكي يكونوا الأنجح والأقوى في المجتمع. وهذا أفضل طريق نحو المجتمع الإسلامي المثالي".
ربما لا يسعى كل من يهتم بالتنمية البشرية مثل هشام إلى "المجتمع الإسلامي المثالي"، ولكن جاذبية أن يجدوا أمامهم طريقا محددا يعدهم بالنجاح ويجعلهم "نماذج" ناجحة بمعايير الكثير من الشركات والمؤسسات التي أصبحت ترعى هذه الدورات وتقدمها لموظيفها أحيانا.
أن تقترب من الشباب بما يريدونه هم لا ما تريده أنت منهم هوما تعتبر رشا الشهيد أنها اختارته، عندما دمجت رغبتها في الدعوة داخل تدريبها للتنمية البشرية. في النهاية هي الآن تخاطب شبابا في بيئات غير تقليدية، مثلا تلك الدورة في نادي القاهرة الرياضي، وغير ذلك.
ورغم أسفها أن وقتها لم يعد يتسع لتقديم الدروس والبرامج الدينية لكنها تعتبر أن دورها في التنمية البشرية أصبح أيضا رسالة، بالإضافة أنه أسلوب دعوي ناجح يتبع على - حد تعبيرها- الإجابة المنطقية لسؤال: من يريد أن يصيد سمكة، هل يضع لها طعما مما يعجبه هو أو طعما هي تريده؟


نشر في "الشروق" الأحد 20 سبتمبر 2009
PDF

في الصورة: رشا الشهيد مدربة التنمية البشرية مع رئيس مجلس إدارة نادي القاهرة في حفل تخريج إحدى الدورات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق