هناك من قال أن الوعود، والوعود الكبيرة فقط، هي جوهر الإعلانات. ومن أجل ذلك يبتكر صناع الإعلانات شخصية وملامح وحضور لكل سلعة أو خدمة، لتصبح نجما يخطف عقول الجماهير ومشاعرهم، يدخل معهم في علاقة ويشعرون تجاهه بإعجاب أو ثقة، مهابة أو ألفة. يصدقونه وهو يعدهم بحياة متخيلة جذابة، كمشهد سينمائي يمكنهم - بعد أن يدفعوا - ترك مقاعد المتفرجين ليكونوا جزءا منه.
على الشاشة الكبيرة في المقهى تدور أحداث فيلم عربي، الزبائن مشغولون بأحاديثهم وربما بين حين وآخر يسترق أحدهم النظر ويرهف السمع إلى الصوت الخافت الضائع وسط الضجيج.
يتوقف الفيلم ويبدأ فاصل بمشهد رجل أمن في زي مدني يمسك بجهاز لاسلكي يتوجه إلى سيارة واقفة بداخلها شاب. يطلب أكثر من واحد من القهوجي أن يرفع الصوت بسرعة وقد ارتسمت ابتسامات على وجوههم، ينبه أحدهم صديقة "شوف الإعلان ده". يتوجه رجل الأمن إلى السيارة يخبط عليها ويأمر الشاب بفتح زجاج السيارة، يخبره بحزم وفظاظة: "ياللا يا حبيبي مافيش وقوف هنا" ويصرخ فيه: " ياللا اتحرك! ياللا!". الكاميرا مثبتة على الشاب الذي يبدأ في تشغيل السيارة وعلى ملامحه ضيق مكتوم وأسي وعتاب، نفهم أسبابهم عندما يظهر فجأة صوت معلق رياضي يعرفنا بالشاب "رقم 19 أحمد فتحي (بوجي) رأس حربة منتخب مصر للشباب... علشان تعرفوهم. روحوا شجعوهم" ثم ينتهي الإعلان بأن كوكاكولا هي الراعي الرسمي لكأس العالم للشباب.
ضحكات هنا وهناك وإطراء على الفكرة المبتكرة، ولكن ماذا في الإعلان قد يدفع هؤلاء أن يرفعوا أصواتهم ليطلبوا كوكاكولا التي أنفقت الكثير على سلسلة الإعلانات التي كان ذلك واحدا منها؟ عند درجة ما من الإبداعية والابتكار في الإعلان فإن الرسالة الإعلانية، التي تسوّق للسلعة أو الخدمة بشكل مباشر، قد تتراجع قليلا لصالح حسابات أخرى، يجب أن تصب في النهاية في صالح البيع والرواج للمعلن، ولكنها قد تسلك طرقا بعيدة لترتبط مع المستهلك بعلاقة أقوى وأعمق أثرا.
"صحيح أن زيادة المبيعات هي المعيار الأساسي لنجاح أي إعلان، ولكن من أجل ذلك تحديدا فالانطباع الذي يتركه الإعلان عند المتلقي هو الأهم لا الرسالة التي يوجهها " هذا ما يؤكده سامي عياد سمور، رئيس القسم الإبداعي Creative Department في وكالة "ستراتيجيز" Strategies للإعلان، الذي يوضح فكرته أكثر: "قد يحدثك شخص ما ويقول كلاما كثيرا، في النهاية قد تنسى كلامه لكن يبقى في ذهنك فكرة عنه، شخص فاهم أو مدعي، واقعي أو حالم، مثقف أو مخرف. وعلى هذا الأساس تتعامل معه. وكذلك الإعلان عن ماركة معينة فقد يمر بسرعة ويقول رسائل مختلفة ومتنوعة كل مرة، ولكن الخط الإعلاني الناجح هو ما يترك انطباعا جيدا وملائما يشكل فكرة المستهلك عن الماركة".
ويبدو أن هذه هي المهمة الأكثر تميزا لمبتكري الإعلانات الذي يشكلون الـ Creative team وهو التعبير الذي يمكن ترجمته إلى الفريق الإبداعي أو فريق الابتكار. ويشمل في معظم وكالات الإعلان: مدير الابتكار Creative director - وهو رئيس الفريق- ومساعديه والمديرين الفنيين Art director ومصممي الجرافيكس - وهم المسئولون عن الصورة في الإعلان- وكتّاب النصوص Copy writers.
تبدأ مهمة هذا الفريق بعد أن تتم أقسام أخرى عملها، وهي خدمة العملاء وقسم أبحاث ودراسات السوق. خدمة العملاء يعرفون طلبات العميل وخطته في السوق ومعلومات عن المنتج أو الخدمة، وقسم دراسات السوق يحدد حالة المنتج بين أقرانه في السوق، نسبة مبيعات كل منهم وما يميزه وآراء الناس فيهم. ويصل كل ذلك إلى الفريق الإبداعي في تصور مختصر ووجهة نظر لوجهة الحملة الإعلانية وفئة الجمهور المستهدفة وهو ما يسمى بالاستراتيجية الإعلانية.
يتابع سامي سمور: "الكثير من العملاء يفكرون في إعلان به أكبر عدد من الرسائل الواضحة المباشرة عن منتجهم، وبعضهم يقول أن الجمهور لن يفهم الأفكار الإبداعية غير المباشرة ويجب أن يشرب الفكرة بالملعقة. في حين نحاول نحن أن نقنعه أن ذلك ليس صحيحا. ونحاول أن نأخذ الأمر إلى مسار آخر ونحاول أن نقنعه أن الأهم هو رسم شخصية وهوية للماركة عند الناس تميزها عن غيرها من الماركات المنافسة. وهو ما نسميه الوضع أو Position".
يضرب سامي سمور مثلا بالأوضاع المختلفة في سوق الاتصالات مثلا، تتخذ موبينيل وضع الرجل الشعبي القريب خفيف الدم العاطفي والوطني، بينما تتخذ فودافون وضع رجل الحسابات التكتيكي الأنيق الخبير صاحب الأصل العالمي. ويتابع :"أتصور أن لكل ماركة ناجحة في أي مجال لها شخصية منطبعة في ذهن الناس. وهذه الشخصية يرسمها صانع الإعلان ويحدد من خلالها ما الذي يقال في كل موقف وكيف يقال، كما أنها تحدد الهوية البصرية للماركة أو الصورة التي تظهر فيها هذه الشخصية وكيف تكلم الناس وبأي طريقة".
يتم ذلك عادة عبر جلسات عصف ذهني ونقاش بين أعضاء الفريق الإبداعي يتبادلون فيها التصورات والأفكار قبل أن يستقروا على فكرة مميزة يبدأون في تنفيذها وصياغة النصوص وتصميم الصورة المعبرة عنها.
طبقات الصورة
يقول مصطفى أبو بكر، مصمم الجرافيكس في وكالة طارق نور: "فيما يخص الصورة، يختلف الأمر عن التصميم الفني الجمالي البحت، فكل تفصيلة لها دور وتقول شيئا. لذلك عندما نعرض تصميما مطبوعا على العميل نضع كل تفصيلة من التصميم المرسوم على شريحة لكي نشرح له دورها، كما نقدم له هذه التفصيلات مقارنة بتصميمات الماركات المنافسة، وفي الإعلان التليفزيوني يتم رسمه مشهدا مشهدا قبل أن يتم تمثيله ويتم دراسة كل لقطة وتفصيلة وبماذا توحي وما دورها في الإعلان".
الصورة الكبيرة المكونة من التفاصيل يجب أن تكون معبرة عن شخصية وهوية الماركة أووضعها المحدد في الاستراتيجية الإعلانية، ولو حادت عن ذلك تحدث مشكلة. يوضح محمد زكريا، المدير الفني في وكالة ستراتيجيز: "مثلا لا يمكن لمنتج غالي موجه للنخبة أن تكون صورته توحي بالرخص أو تكون ألوانه شعبية، يجب أن يكون موحيا بالرقي الطبقي والتميز والأناقة. والعكس، المنتج الرخيص الذي يتم تسويقه على نطاق شعبي لو كانت صورته موحية بأي تعالي يمكن أن يترك ذلك انطباع أنه غالي الثمن".
أحيانا ما تكون عند شركة واحدة أكثر من منتج، ولكن تبعا لثمنه يوجه كل منهم لطبقة معينة ولذلك يجب أن تكون لإعلاناتهم شخصيات مختلفة وتوحي بانطباعات مختلفة وهو ما تقول الصورة جزء كبير منه. يضرب محمد زكريا مثلا بشركة التكييف يونيون إير:"لديهم نوع تكييف رخيص نسبيا كانت إعلاناته بسيطة وعملية تخاطب الطبقة الوسطى وما دونها وتوضح ميزة المنتج وهو سعره الرخيص، أما النوع الفاخر "يونيفاي" حاولت الشركة أن توحي بأنه مميز ولكن بشكل خاطيء فلم يصل الانطباع الملائم للفئة المستهدفة".
في إعلان يونيفاي، كان الفنان أحمد الفيشاوي يستقل سفنية فضاء ويبتعد عن الأرض ولكنه يواجه مشاكل في التكييف فيتصل فورا بخبراء يونيفاي. يعلق سامي سمور: "الإعلان كان يحاول ترك الانطباع بأن الشركة لديها أفضل تكنولوجيا من خلال استخدام صورة سفينة الفضاء التي تستدعي في ذهن المشاهد فكرة التكنولوجيا الفائقة. ولكن ذلك لم ينجح".
المبالغة الهزلية للإعلان أوحت بالاصطناع والسذاجة ولم تقنع الطبقات "الراقية" أن هذا هو تكييفها المميز.
يقول محمد زكريا: "في الإعلان التالي مع شركتنا. لم نقل شيئا أبدا عن مميزات التكييف أو سعره، اعتمدنا فقط على ترك الانطباع بالصورة وبأقل كلام". كان الإعلان عبارة عن رجل يدخل شقة ذات ديكور مودرن بالغ الأناقة والرقي. يضع مفاتيحه فتستقر في الهواء في هدوء قبل أن تصل إلى المنضدة. يتمدد على أريكة ويضع اسطوانة هادئة ويرفع قليلا الأباجورة لكي تلقي أفضل ضوء على الكتاب فتستقر في الهواء أيضا في الوضع الذي يريده وكذلك الكتاب فلا يضطر لأن يبقي يديه مرفوعتان تحملانه، وبعد ثوان يرتفع جسد الرجل قليلا عن الأريكة وكأنه ممدد على الهواء في إيحاء براحة تامة. يبتعد المشهد قليلا ليظهر في الصورة تكييف يونيفاي يتوسط الحائط في أناقة وينتهي الإعلان بصوت هاديء يقول: جو خيالي.
يعلق محمد زكريا: "كان استقبال الإعلان جيدا، ونجحت الحملة الإعلانية ووصلت لجمهورها بشكل صحيح الذي وصله انطباع قوي بالشخصية المميزة والراقية للماركة".
في مقال "بلاغة الصورة" اهتم رولان بارت الناقد والفيلسوف الفرنسي بالطريقة التي تعبر بها الصورة في الإعلان وقام بتحليل دلالتها إلى 3 مستويات: الرسالة غير المشفرة للصورة، والرسالة المشفرة للصورة، والرسالة اللغوية. الرسالة الأولى هي تصميم الصورة كما هي، تناسق الألوان وتشكيل العناصر وكل ما يوجد ظاهرا في الصورة، الرسالة الثانية هي الإيحاءات الكثيرة التي توحيها، مثلا في حالة إعلان يونيفاي هناك إيحاءات الثراء والأناقة والذوق الرفيع، وهناك القدرة على التحكم في المحيط بما يحقق راحة وسعادة، وهناك الخصوصية والهدوء وهناك الاهتمام بالثقافة ( الكتاب والموسيقى) وقد يوحي ذلك أيضا بالترف وراحة البال، أما الرسالة اللغوية أي النص المكتوب أو المنطوق فهي - كما يقول بارت- تقوم بدور "الريموت كنترول" الذي يقوم بتوجيه المتلقي نحو دلالات بعينها، وتشترك مع الرسالة المشفرة للصورة في إنتاج الدلالة الكلية التي تترك الانطباع. كل دلالات وتفصيلات الإعلان تم دمجها في إعلان يونيفاي لتعبر عنها كلمة "الجو" واسعة الدلالة التي تلعب على ازدواج المعني: الجو يمعنى كل الظروف المحيطة والجو بمعنى درجة الحرارة التي يتحكم فيها التكييف. انطباع التحكم - الذي يشتريه مستهلك التكييف ليتحكم في الحرارة - يتم الإيحاء بتضخيمه كما في التفاصيل الفانتازية ليصل إلى حد أنه "خيالي".
بلاغة الإعلان
دور النص المكتوب أو المنطوق هنا يبدو أبعد من مجرد صياغة شعار لكنه إبداع لمفهوم أو فكرة تكون عنوانا للانطباع المرغوب والشخصية المتخيلة للماركة، يؤكد ذلك حمدي نجيب، كاتب النصوص Copy writer في شركة ستراتيجيز: " كل المنتجات المتنافسة تدعي نفس المميزات، والإنسان بطبعه يقاوم محاولة إقناعه بالدفع والشراء، عندما يأتي إليك مندوب مبيعات فأنت تتشكك في كلامه وتعرف مقدما أنه تجميل للسلعة ومبالغة فيها، لذلك على كاتب النص أن يكلم المتلقي وفي نفس الوقت يتسلل إليه بسرعة وذكاء. مندوب المبيعات يحاور شخصا واحدا ويجرب هذا المدخل ثم يجرب آخر. ولكن كاتب نص الإعلان التليفزيوني أمامه 30 ثانية وعليه أن يقنع 70 مليونا متنوعين".
في الحملة الإعلانية الأخيرة التي قدمتها الشركة لزيت عافية كان الشعار "جدد قلبك"، مع صورة تركز على الأسرة والعائلة المفعمة بالصحة والحيوية والنشاط وبالتالي السعادة، في مشاهد تتكرر فيها صورة القلب، في المفارش وفي الكعك وفي نظارات البنات وحتى في الأطباق. يشير الإعلان إلى أن الكوليسترول أقل حفاظا على صحة الأسرة. ولأن الفئة المستهدفة هي ربات البيوت. فالأم تبدو في قلب المشهد، بينما تركز الكاميرا على انطباعات باقي أفراد الأسرة، انطباع التلذذ بالطعام، ويلعب النص بفكرة "تجديد القلب" بمعناها القريب: الحفاظ على الصحة، والمعنى الأبعد: تجديد الحب في الأسرة. الأم تحرص عليهم وتقدم لهم أكلا صحيا ولذيذا وهم يعبرون عن امتنانهم وتقديرهم لها. الإعلان هنا يسوق الحاجة الاستهلاكية للزيت من خلال التذكير والتلويح بحاجات معنوية وإنسانية أخرى يربط المشاهد نفسيا بها.
كتاب النصوص أيضا هم المسئولون عن كتابة فكرة أو نصوص الأغنية أو الجنجل Jingle المصاحبة للإعلان، وهي من أكثر الأشياء التي تلفت الانتباه وتعلق في أذهان الناس.
"ولكن أحيانا تكون الأغنية لافتة وجميلة ولكن لا علاقة لها بشخصية المنتج أو الانطباع المرغوب" يضرب حمدي نجيب مثالا "في فترة كان الأطفال ينتظرون إعلان لانشون شيكي دودو ويرددون معه: عاوزين الشيكي دودو. ولكن الإعلان لم يربط المشاهد بالمنتج بأي انطباع فحفظ الناس اللحن ونسوا المنتج، لكن نص إعلان: رايحة فين يا فاطمة، رايحة أجيب أومو. ربط المشاهد باسم المنتج وربطه نفسيا بمشوار التسوق، لدرجة أن النساء يمزحن وهن خارجات للتسوق ويقلن: رايحة أجيب أومو. قمة النجاح أن تربط النشاط أو الحاجة باسم الماركة".
كلما كانت الفكرة التي يعتمد عليها مبتكرو الإعلان موجهة بدقة للفئة المستهدفة كلما كان نجاحها مركزا. فحملة "استرجل واشرب بيريل" حققت نجاحا رغم أنها كسبت عداوات وانتقادت بسبب "النزعة الذكورية" المهينة للمراة أحيانا كما في إعلان: "استرجل! آخر حاجة في البنت تفكر فيها شخصيتها"!. فالمبتكر كان يفكر وهو يعلم أن جمهور مشروبه هم الرجال لا النساء أو الأطفال، فخاطبهم بمزاح خشن يشبه مزاج الجلسات الرجالي. كما أنه حوّل ما يمكن أن يكون عيبا في المشروب وهو طعمه المر القوي إلى شيء إيجابي، وعلى الشاب أن "يسترجل" ويتحمل الطعم وإلا واجه السخرية.
أفكار الإعلانات غير التقليدية ضرورة تتطلبها المنافسة الشرسة. وسط طوفان الإعلانات الذي يجتاح الإعلام لن يظهر إلا الإعلان الذي يقدم شخصية مختلفة وانطباعا جريئا مفاجئا أو مبدعا. بعض الإعلانات تلجأ إلى وضع مختلف تخاطب به المشاهد فتتصنع التواضع لتوحي بالصراحة والمصداقية كما في إعلان مطاعم "مؤمن" عن الساندوتش المكسيكي الذي يقول: "هو مش مكسيكي قوي يعني" أو السيارة التي تسير رأسيا على الحائط ثم ينتهي الإعلان بالتأكيد أنها سيارة "جامدة لكن مش بتمشي على الحيطة". أو يفجر الإعلان الكوميديا من المفارقة بين كون أبطال الإعلان من لاعبي منتخب مصر للشباب مغمورين ويتعرضون للمعاملة السيئة رغم أنهم سيصبحون في دائرة الضوء قريبا لأن مصر ستستضيف كأس العالم للشباب هذه السنة. الإعلان يسخر مع المجتمع أو منه بعدما أصبح اللطف فيه معاملة خاصة واستثناء لا يحصل عليه إلا المواطن الذين يثير في من حوله الانطباع أنه مواطن غير عادي. لذلك تبتعد الإعلانات عن كل ما هو "عادي" وتعد الناس بكل ما هو خيالي ومميز ومختلف ولا مثيل له. فكما يقول صمويل جونسون:"الوعود، والوعود الكبيرة فقط، هي جوهر الإعلانات".
"أخيرا فهمت يا وديع !"
ما الذي يفعله معظم الشباب المطلعين على السينما الأمريكية عند مشاهدة معظم الأفلام العربية بدائية الفكرة والتنفيذ؟ عندما لا يكون الفيلم مقنعا فالسخرية هي البديل لقضاء الوقت أمام مثل هذه الأعمال. إذن لا جدوى أن تحاول قناة للأفلام العربية أن تضحك على نفسها وعلى جمهورها وتحاول أن تعدهم بأفلام فذة، فكان الحل البسيط والمبتكر الذي لجأت إليه قناة ميلودي أفلام أن تجتذب القناة المشاهدين عبر السخرية من الأفلام العربية كلها وطريقة إنتاجها. الإعلانات ابتكرتها وكالة ليو بيرنت المرموقة في عالم الإعلان وتجاوزت مدتها أقصى مدة لإعلان لتقترب من فيلم قصير. وهي تروي قصة هزلية يرفض فيها تهامي باشا المنتج المصري “الأريب” اقتراح وديع المخرج المتملق إنتاج أفلام "روكي" و"تيتانك" لأن النهايات غير جماهيرية في رأيه لينتج "فيفا زلاطا" و"لحم رخيص". واللحظة الوحيدة الذي اتفق فيها تهامي مع وديع عندما قدم الأخير إليه الوجه الجديد رشا التي خلعت ملابسها فورا لتقدم بروفة فصاح منتشيا :"أخيرا فهمت يا وديع!".
الجدل الذي أثارته هذه الحملة الإعلانية كان امتدادا لجدل كبير حول إعلانات مجموعة قنوات ميلودي. الانتقادات تركزت على استخدام العنف والجنس في الإعلان عبر البطلين: السوبرمان البدين ذو الزي الأصفر الذي يضرب المملين والتقليديين والعجائز، ورفيقته "الفاتنة" بوبي جوليا التي تشتت انتباه أعداء رفيقها لكي يتمكن منهم. الجدل بين معجب بالإبداعية والابتكار في أفكار الإعلان وبين منتقد لـ"ابتذال الإعلان" واحتوائه على "قيم سلبية"، هو نفسه الجدل الذي شهده الفكر الاجتماعي الغربي منذ منتصف القرن الماضي حول تأثير للإعلانات.
فكما ينقل د. شاكر عبد الحميد في كتابه "عصر الصورة" وجد ميشيل فوكو في الإعلان شكلا من أشكال السلطة- المرتبطة بسلطة رأس المال- ترسخ الصور النمطية للتفوق والنجاح والجمال والأنوثة والذكورة والحب، وتتحكم في سلوك المستهلكين الذين يحاولون محاكاة هذه النماذج والاقتراب منها من خلال الاستهلاك. لكن جان بودريار وجد أن السلطة نفسها أصبحت مفككة ومبعثرة، وأن صراع السوق يدفع المنافسة إلى درجة قصوى يتم فيها تخطي كل الحدود والقيم والنماذج، وتستخدم الإعلانات بشكل مفرط قيم القوة والمتعة المتحررة وخاصة الجنس، لتتماهي مع الرغبات المتجددة والمنطلقة للجمهور. لذلك يرى بودريار أن فن الإعلان سيكون هو الشكل المعاصر للتعبير الفني الذي سيدمج داخله كل الفنون، وسيصير الفن الأكثر استهلاكا، ولكنه سيظل دائما فنا سطحيا بلا عمق مهمته الإغواء عبر الصور السطحية. يكمل جي ديبور الصورة بما قاله من أن وعود الإعلان بمتعة الاستهلاك هي التعويض عن غياب التلقائية والحرية في عصر المؤسسات الكبرى والتقسيم المفرط للعمل الذي يدفع لتنميط أساليب الحياة. ولأن الإنتاج والاستهلاك لا يتوقفان والوعود بالجديد لا تتوقف، يصبح الإنسان مستهلكا للصور والماركات ونهما دائما للمزيد لينتهي بنا الحال إلى ما سماه "مجتمع الاستعراض".
في المقابل وبشكل متزامن كان اتجاه آخر يصعد، ويعتبر أن الإعلان هو قلب اتجاه فني جديد هو البوب آرت Popart الذي يرى أن العمل الفني ليس عملا أصيلا ومتفردا ولكنه جزء من عملية الاتصال العادية وتبادل الأفكار والسلع بين الناس. وأن متعة الشكل الحسية هي أساس الفن بعيدا عن أوهام العمق النخبوية. الرمز الأشهر لهذا الاتجاه هو الفنان الأمريكي آندي وارهول الذي كان رساما وصانع أفلام ولكنه بدأ حياته وشهرته كمصمم إعلانات وحملت عبوات السلع وشعاراتها إبداعاته الأولى.
-نشر في "الشروق" الخميس 24 سبتمبر 2009.
-الصورة: "جو خيالي" في إعلان تكييف، التحكم في الجو وانطباع التحكم في كل ما يحيط بك لتحقيق الراحة والسعادة.
تصوير: أحمد عبد اللطيف.
من اجمل المقالات اللي قريتها من فترة طويلة اوي
ردحذفتسلم يا هندزة
طول عمرك برنس الليالى
ردحذفعاش يا رجالة
حاقول إيه بس .. عمرو عزت يكتب في مدونة ... يكتب في جرنال .. أو حتي يشخبط على الحيطة ... في كل الحالات بيكتب كلام مية مية ... تسلم إيدك مقالة جامدة طحن كالعادة
ردحذفينفع اقول مقال رائع ...تحية لمجهودك و اسلوبك
ردحذف