سلمان المزيني في وادي أم سميرة بجبال دهب - تصوير: محمد الميموني
لا يزال شباب البدو يسيرون على الطرق التي سار عليها آباؤهم ولكن عيونهم على طرق آخر يتأهبون لخوضها وصور أخرى يفكرون أن يكونوها تخرج أحيانا عن الصورة النمطية للبدوي في الأذهان.
كانوا سبعة مقاتلين من قبيلة مزينة من بني حرب بالحجاز وفدوا إلى سيناء. استغاثتهم قبيلة العليقات التي تسكن جبال دهب ليعينوها في معاركها ضد قبيلة أخرى. أبلى المقاتلون بلاء حسنا فقال لهم شيخ العليقات: ناموا ومراحكم - أي مكان تقبلكم في نومكم – لكم. كبيرهم نام وأخذ يتقلب طوال الليل حتى قطع المسافة التي تحتلها الآن مدينة دهب. وفي الصباح طلب من شيخ القبيلة كل هذه الأرض، فاختلفوا واختصموا إلى قاض في الحجاز فحكم للمقاتلين من مزينة، فملكوا هذه الأرض وتزوجوا من بنات القبائل الأخرى وتكاثروا حتى صاروا القبيلة الأكبر في ساحل جنوب سيناء.
يحكي سلمان جمعة المزيني، هذه القصة شبه الأسطورية، التي لا يعلم متى تحديدا حدثت، وهو جالس القرفصاء يشعل النار في حزمة حطب تحلقنا حولها في وادي أم سميرة الذي تحتضنه الجبال من كل ناحية، عدا مدخل يقود إلى طريق متعرج ينتهي إلى الشارع الأسفلتي . الأكيد بشأن القصة أن بدو قبيلة مزينة يمثلون أكثر من تسعين بالمائة من بدو جبال دهب.
تخرج سلمان من كلية التربية قسم التاريخ بجامعة الأزهر، ورغم أنه لا يفكر في العمل مدرسا إلا أن لديه مشروعات تتعلق بتخصصه كما تتعلق بهويته ببدوي. يبدو طموحا وهو يقول انه يفكر في كتابة تاريخ حقيقي لقبائل بدو سيناء.
"لم أقرأ تاريخا حقيقيا للبدو. تطور عاداتهم وأفكارهم. الناس الآن يكتبون عن البدو وكأنهم يكتبون من عشرات السنين. الحياة البدوية تتغير مع دخول مظاهر التمدن".
لا يبدو أن رغبة سلمان وراءها انحياز حاسم إلى نمط الحياة الذي يسمى "البداوة" وفي الوقت نفسه يبدو أنه لا غير مغرم كثيرا بكل تفاصيل “التمدن”.
ذلك اليوم كان سلمان يرتدي سروالا أبيض، أصر هو أن يصحح لنا أنه ليس "بنطلونا"، بل هو السروال الذي يرتديه تحت الثوب الأبيض، ولكن محل الثوب هذه المرة كانت فانلة حمراء. يعترض عندما يقول أحدهم أنها فانلة الأهلي ويصحح له: "هذه فانلة فريق بايرن ميونخ الألماني" ويضيف ضاحكا:" ثم أنني زملكاوي". يضيف بجدية أن معظم أهل سيناء وأهل القناة من مشجعي الزمالك ولا يحبون الأهلي، يعود مهتما إلى تعليقنا على فانلته:"أما عن الفانلة. فأنا مثل جيلي من شباب البدو، خاصة الذين درسوا في الجامعة. قد نرتدي الثوب الأبيض والغترة وقد نرتدي فانلات وفي الجامعة كنت ألبس قميصا وبنطلونا لكن البنطلولات بشكل عام لا تريحني". يضيف سلمان الذي يبلغ من العمر سبعة وعشرين عاما أن الأجيال الأصغر لم تعد ترتدي الثوب نهائيا بل تتبع أحدث التقاليع :”لو شاهدتهم في الشارع لن تعرف أبدا أنهم أبناء بدو. كأنهم أمريكان !”.
بيف برجر وجرأ !
يفتح سلمان علب بيف برجر مجمدة ويضع القطع داخل ورق القصدير مع شرائح البطاطس التي قطعها. يدور الحوار حول الوجبات التقليدية للبدو التي تعتمد على خلطات معينة بسيطة للأرز واللحم ومكونات أخرى قليلة بالإضافة للخبز المميز. بعض البيوت لا تزال تصنع هذا الوجبات. ولكن ساكني المدن لن يتجاهلوا الأسهل الموجود في السوبر ماركت أو في المطعم القريب.
كادت صورة علبة البيف برجر الخالية أمامنا أن تحطم تماما صورة البدوي في أذهاننا ولكن سلمان قام فجأة وتسلق الجبل ليصل إلى شجرة نابتة في حضنه التقط منها ثمارا ألقى بها إلينا من مكانه ثم عاد. قال أن اسمها ثمرة "الجرأ" وأن البدو يصنعون منها "المخلل" وتستخدم كمشهيات، وأضاف: "تذوقوها".
يقطع الميكروباص الذي يقوده عايد الطريق من "المسبط" - المنطقة السياحية المكتنزة بالكافيتيريات والبازارات والفنادق- متجها إلى "العصلة"، الحي الذي يسكنه البدو مع قليل من الوافدين الذين يفضلون حياة رخيصة وهادئة وأقل أبهة وصخبا.
العصلة عند البدو تعني المنطقة المتوسطة، وفي دهب تتوسط "العصلة" بين منطقة المسبط وما بعدها من شواطيء وبين منطقتي "الكانيون" و"البلو هول" اللتين يرتادهما محبو الغطس.
في العصلة تختفي قليلا البهرجة السياحية ويحل محلها بيوت البدو المقتصدة نوعا. البيوت ذات الطابق الواحد أو الطابقين على الأكثر. الأسوار البيضاء التي تحيط بالبيت وحوش صغير تحتل عريشة ما ركنا منه أحيانا. الحي يبدو كأي حي شعبي مديني، محلات من كل الأنواع. أطباق الدش فوق المنازل، وهناك وصلات أيضا بين بعض المنازل، هناك أيضا أكثر من محل "بلاي ستيشن".
يتلقي الشباب مع مجموعة أخرى تركب في الجيب الخاصة بسميح ويعودون أدراجهم إلى منطقة "القرارة" بين العصلة والمسبط. في قطعة أرض خالية بين فندق وشاليه لا يزال شاطيء البحر حرا. يفرش الشباب بطانيات على الرمل، يخرجون البطيخ والجبن ويجلسون يتناول عشاء خفيفا. بعضهم يستسلم لنسيم البحر ويفترش بطانية بعيدا بعض الشيء عن التجمع وينام.
يقول عايد أن قطعة الأرض التي يجلسون فيها بيعت وأن فندقا سيقام عليها قريبا. يهز سلمان رأسه أسفا قائلا:”لقد باع البدو أو أجروا معظم أراضي الشاطي بأثمان بخسة قبل أن ينتبهوا إلى قيمتها الحقيقة. الآن ينتبهون للثمن، ولكنهم يبيعون في النهاية و لن نجد بعد سنوات أراض خالية على الشاطيء نجلس فيها كما نفعل الآن".
يشير عايد بيده إلى ما خلف الفندق المجاور قائلا أن أرضا متنازع عليها بين عائلته ومجلس المدينة تكاد تعود إلى العائلة بعد نزاع قضائي استمر 15 عاما :”الحكم في صالحنا، فعلى هذه الأرض كان بيت جدي”. يقاطعه أحدهم ساخرا:”كان بيت جدك على مساحة 5000 متر؟" يبتسم عايد ويكمل: "المشكلة أننا ننسى ونتأخر في دفع آلاف قليلة هي مصاريف تسدد لمجلس المدينة كرسوم لتخصيص الأرض التي أصبحت قيمتها ملايين".
تنوي عائلة عايد بيع الأرض بعد استلامها بشكل نهائي. يدخل الشباب في جدل حول ميل البدو دائما للبيع والتأجير أو الدخول في شراكات مع آخرين يتولون هم الإدارة.
احتياج وحرية
في القصة شبه الأسطورية عن علاقة قبيلة مزينة بجبال دهب تظهر الصورة النمطية للبدوي الذي يرتحل ويقاتل ولا يرتبط بأراض لأن الصحاري والجبال ليست كريمة معه، ولكنه قد يبذل الجهد ويخوض المعارك من أجل الواعد منها، وقد يكمل ذلك بما قد يعتبره البعض خديعة ومكر واحتيالا على القوانين، كما في القصة.
العلاقة بالأرض لا تستمر كثيرا، وإن استمرت فهي علاقة تميل للبساطة: إقامة مخيم يقدم للسياح الحياة البدوية أو حياة الطبيعة الخالية من رفاهية الخدمات السياحية.
يعمل حميد، الشاب الثلاثيني الذي لم يكمل دراسته الجامعية في الأزهر، في مخيم يملكه بدوي. فضل ذلك على الذهاب إلى القاهرة للدراسة على أمل أن يحصل على وظيفة ثابتة حكومية أو خاصة ترميه في مدينة ما. يقول حميد :”أنا هنا أكثر حرية وراحة. السنة التي قضيتها في الجامعة لم أحتمل الحياة في القاهرة".
"ثمة فكرة بسيطة جعلت فصيلا من الناس يصيرون بدو. بعض البدو يؤدونها بعقل، بينما الغالبية تؤديها بفطرية... هذه الفكرة باختصار تقول: أن ثمة علاقة عكسية بين احتياجك للآخرين وحريتك". هكذا يقول مسعد أبو فجر، الروائي والناشط السيناوي كما يحب البعض أن يسميه، على لسان راوي روايته "طلعة البدن".
ربما بسبب هذه الفكرة يفضل معظم الشباب المهن التي تجعلهم أكثر حرية في المكان والزمان وبعيدا عن الهياكل الإدارية المركبة. وربما لذلك لن يذهب سلمان للعمل كمدرس للتاريخ في مدرسة، وسيفضل التنقل بين العمل في رحلات الجمال إلى الجبل أو الصيد البحري مع أبيه وأعمامه وأخواله أو العمل أحيانا في مخيمات يملكها بدو.
يحكي سلمان أنه كان يضيق ذرعا بالقاهرة أثناء دراسته فيها: "كنت أشعر وكأني محبوس في مكان سكني. إذا زرت أحدا أجلس ضيفا على كرسي في غرفة لا يمكنني أن أبرحها. هنا أزور من أشاء ونجلس في الساحات. يمكننا أن نفترش الأرض على البحر أو فوق الجبل. أنا أحب هذه الحرية".
عند الحديث عن التهريب والمخدرات يجفل الجميع مؤكدين أن بدو جنوب سيناء مشاكلهم أقل مع الدولة لأنهم أكثر مسالمة والتزاما بالقانون.
في موضع آخر من رواية مسعد أبو فجر يصف قلق عُودة- أحد أبطال الرواية والذي سيتزوج غاليت - من الأنشطة المخالفة للقانون ومحاولته إخفاء ذلك بين أقرانه من شباب البدو، ذلك لأن عودة – كما يصفه أبو فجر – يقف على جسر بين البداوة وغيرها.
ولكن بين ثنايا الأحاديث الأريحية قد تتناثر حكايات متفاخرة ببطولات ومهارات بعض الأجداد أو الآباء في مناورة خفر السواحل وحرس الحدود في عمليات تهريب.
على لسان غاليت، السائحة الرومانية التي ستتزوج بدويا، يقول مسعد أبو فجر في "طلعة البدن" أن معظم الوظائف التي توفرها السياحة لا تناسب البدوي، لن يعمل نادلا مثلا. ولكن تجارة الحشيش – على سبيل المثال- توفر للبدوي شيئين: جو الخطر والمغامرة، والعمل بالتجارة التي هي مهنة أرستقراطية في وعيه.
يعلق حسن، المتخصص في نظم المعلومات وخريج إحدى المعاهد العالية في القاهرة، أن الصورة النمطية للبدوي ربما تكون لا تزال سائدة ولكنها تتغير. بدأ بعض الشباب يعملون في خدمات السياحة، وبعضهم -وإن كانوا لا يزالون قلة- يقبل أن يعمل نادلا.
حلم السياة نصف النقل
السيارة الخاصة، الجيب أو نصف النقل، تحتل أهمية خاصة لدى الشاب البدوي. فهي أداة تحرره أكثر من قيود الزمان والمكان. تتيح له جني بعض الأموال في أي وقت. توصيلات للسياح أو نقلات للمحال التجارية والمخيمات. وهناك النزهات الخلوية مع الأصدقاء في الجبل أو في المناطق الخالية البعيدة في الشواطيء التي لم يسيطر عليها الاستثمار السياحي.
يشعر سلمان بالظلم لأنه أباه اشترى لأخيه سيارة نصف نقل ولم يشتر له مثلها، واعتبر أن تعليمه في الأزهر حتى تخرجه من الجامعة يكفيه. ولا يبدو أن ذلك يقنع سلمان، يبدو ذلك في نظرته لإبراهيم الذي يصغره بعشر سنوات على الأقل الذي يقود سيارته نصف النقل ويوقفها بالقرب من التجمع وينضم إليه .
إبراهيم في نهاية المرحلة الثانوية الأزهرية. ظهرت نتيجته للتو، يمازحه سلمان قائلا: طبعا حصلت على مجموع أكثر من 95%. يهز إبراهيم رأسه ضاحكا.
يشرح إبراهيم سبب الضحك قائلا: “في المدارس الأزهرية لا يتركونك تغش من زميل. بل يكون الكتاب معنا في لجان الامتحان! أو يساعدنا المدرس بشكل مباشر!”.
يصدق سلمان على كلامه قائلا أن ذلك حدث معه دائما: تجاوز الامتحانات بفضل اللجنة المتعاونة والكتاب المصاحب له داخلها. يقول أن مدرسا حاول مرة أن يوقف ما يحدث فواجه تهديدات واضحة من شيخ المعهد الذي أخبره أن هذا المعهد مبني بقرار سياسي في منطقة البدو ويجب أن تستمر الأمور بنجاح.
من جانب، يحتاج البدو أبناءهم لمساعدتهم في الأعمال، وقد يحتاج الأبناء أنفسهم إلى الهرب من المدرسة ظهرا لممارسة عمل ما أو لمجرد الجلوس في الدار كما يقول سلمان. الذي يضيف أيضا أن بعض المعاهد الأزهرية أصبحت تتكيف مع هذا الأمر.
التعليم الأزهري منتشر بكثافة أكبر. يعلق حميد: "ليست بسبب ميول دينية بقدر ما هو إقبال على الغش ولأن الكل ينجح. بينما في مدارس وزارة التربية والتعليم، قلما تجاوز صبي بدوي المرحلة الإعدادية". يتذكر سلمان وعايد أسماء قريب لهم في نويبع خريج كلية العلوم السياسية أو آخر في شرم الشيخ خريج كلية العلوم، كحالات قليلة معدودة.
يعترف سلمان أنه رسب كثيرا في الجامعة وأنه أنهى دراسته في عشر سنوات مؤكدا أن السبب هو افتقاده للجنة المتعاونة والكتاب المصاحب داخل اللجان كما تعود في كل المراحل، يضيف آسفا أن البيت البدوي أيضا لا يشجع على التعليم. لطالما قال له والده أن يكتفي بهذا القدر وأن يتفرغ للعمل معه في الصيد، ولكن سلمان أصر على مواصلة الدراسة. يهز سلمان رأسه ويضحك وهو يضيف: "أنا كافحت والله !”.
تعليم سياسي
مثل "التعليم السياسي" الذي يخرج أجيالا بعضها لا يعرف كتابة اسمه ولكن ماكينته تستمر لكي تذكر البيانات عدد المدارس وخريجيها ،تنتصب في حي العصلة هنا وهناك شواهد وجود الدولة، بيت ثقافة دهب ومركز شباب دهب، وعلى الأطراف مساكن جديدة تحت اسم "إسكان مبارك" و"إسكان الشباب". يتحدث الشباب عن رغبتهم في سكنى هذه الشقق ولكن وجودها في طرف المدينة يعني ضرورة اعتيادهم على نمط حياة مختلف بعيدا عن التجمع البدوي المتعاضد.
يتحدث حميد، عضو مجلس إدارة مركز الشباب، عن أن نشاط المركز يقتصر على تقديم الكرات إلى الشباب والصبيان وقت العصر، وبعض المسابقات الهزيلة على فترات متباعدة. البعض الآخر يتحدث عن اختفاء "القبيلة" من الحياة اليومية إلا وقت المشاكل والمصائب وبالطبع أيام الانتخابات. بينما الساحات الاجتماعية البديلة لا تزال ضعيفة.
يتحدث سلمان كثيرا عن رغبته في تأسيس جمعية لتنمية المجتمع المحلي لبدو دهب. عندما يسألونه ماذا تريد أن تفعل. يقول :"أريد تنظيم ندوات ودورات تثقيفية يأتي فيها كتاب وسياسيون ومثقفون يحدثوننا عن حقوقنا وواجباتنا. بدلا من أن نعيش هكذا نتحدث عن الظلم ويخرج البعض للاحتجاج بالسلاح كل فترة أو يسكت طول العمر. أفكر في نشر ثقافة التعليم والعمل في كل المهن".
يتحدث سلمان عن مواجهة خرافات تنتشر بين البدو أو مواجهة أفكار خاطئة عن ازدهار حياة البدو وقت الاحتلال الاسرائيلي. باختصار يريد سلمان أن يصلح الجسر المتهالك بين مجتمع بدو سيناء وبين باقي المجتمع المصري. الأهم أنه لا ينكر أنه يريد أن يعمل على إصلاح الجزء المتهالك من جانبه ولا يشغل نفسه كثيرا بانتقاد الجانب الآخر. لا يبدو سلمان فيما يخص مهنته ونمط حياته اليومية حاسما في التضحية بمميزات الحياة البدوية الهادئة والرائقة ولكنه في الوقت نفسه مشغول بتدعيم مجتمع البدو بخبرات وأفكار من الجانب الآخر من الجسر. الجسر الذي يبدو أنه لم يقم أبدا كما يجب وكما يرضي الطرفين على جانبيه.
بدو وآخرون
على الجدار فوق باب محله الصغير مكتوب بالإنجليزية: خلف ماركت، وبالعربية: تجارة خلف السوهاجي.
أكثر من خمس سنوات قضاها خلف في محله الصغير في حي العصلة في دهب مجاورا البدو، علمته قواعدهم التي يجب أن يسير وفقها.
أولا، عليه أن يعتاد البيع بـ"الصبر" أي "الشكك" لأن البدو لا يحبون حمل النقود والتعامل بها طوال الوقت، يأخذون ما يريدون ويدفعون أول الشهر أو عندما تأتيهم "مصلحة" يجنون ثمارها. ثانيا، عليه أن يتجنب الدخول في جدل أو مشادة مع أي بدوي تجنبا لإثارة مشاكل سيناصر فيها كل البدو أخاهم. ثالثا، عليه أن يحتفظ بكليم أو بطانية يستعد لفرشها أمام المحل ليجلس مع أصدقاءه من شباب البدو الذين يستثنيهم من انتقاداته اللاذعة.
من هؤلاء سلمان جمعة الذي يسميه خلف "شعراوي" لأنه أزهري ومتدين. على خلف أيضا أن يعتاد التعامل مع الأجانب الذين يمرون أمام محله ذهابا وإيابا من البلو هول إلى المسبط والعكس، يقحم خلف كلمات إنجليزية في كلامه ويعتذر بأن ذلك بسبب كثرة تعامله مع الأجانب.
عندما يتطرق الحديث إلى الوافدين من أي مكان في مصر إلى سيناء، ينتقدهم خلف أيضا قائلا أنهم سببوا ازدحام دهب التي كانت أجمل سابقا. وتجنبا لكونه واحدا منهم يظهر خلف هويته البدوية المبطنة ويقول أنه من عرب بني واصل في سوهاج. فيمازحه سلمان بأنه بدوي صعيدي وليس بدويا أصيلا.
إذا جلست مع خلف بعض الوقت ستعرف أنه يتباطأ في خدمة هذا الشاب البدوي عندما يطلب منه كبريتا لأنه يعلم كونه مدمنا للمخدرات. وقد يتذمر وهو يلبي طلبات الخواجة أدريانو، الكندي معلم اليوجا الذي يسير في العصلة بالشورت فقط فوق دراجته التي يعلق في مقبضها كيس الطلبات الذي لا يحوي كثيرا.
يتشارك سلمان وخلف التذمر من أدريانو الذي يجاهر ضاحكا أنه غير مؤمن وأنه يعيش حياته هائما ليستمتع فحسب، يضيف خلف سببا إضافيا يتعلق بهذا العدد من النساء اللائي يصاحبهن إلى بيته. ولكنهما أمامه يحاولان رص ما يعرفانه من كلمات إنجليزية لممازحته وسؤاله عن طريقة ما في تعاليم اليوجا قد تعالج وجع الظهر أو الكاحل.
على عكس خلف الذي يفيض في إظهار رأيه في كل فئة، يحجم شباب البدو عن ذلك إلا في أضيق نطاق. وكأن البدوي في تعامله مع الآخر يحتفظ بمسافة تتيح له أن يكون متسامحا لأقصى الحدود ومتقبلا لكل شيء وفي نفس الوقت تتيح له هذه المسافة أن يكون بعيدا عن كل أنواع الآخرين وأفكارهم وأخلاقهم إن أراد. مع ازدياد تفكك الحياة التقليدية كقبيلة تبدأ هذ المسافة في التقلص، فكما يحاول سلمان ورفاقه ان يكونوا أقرب إلى الآخرين من باقي أنحاء مصر يعاملونهم بأريحية أكثر وينتقدون البدو المتوجسين المنغلقين، هم في الوقت نفسه أكثر جرأة في انتقاد أخلاق السياح الأجانب وسلوكهم. وذلك يوفر دائما مادة شيقة للحديث والدردشة بينهم وبين صديقهم خلف.
نشر في "الشروق" الأحد 25 يوليو 2010