مهنة محامي حقوق الإنسان لا تزال تتردد بين أسلوب المناضلين المتحمسين وأسلوب المهنيين في مؤسسات محددة المهمة.
لم يكن ذلك اليوم استثناء في مركز هشام مبارك للقانون. ولكنه كان أكثر ازدحاما عن باقي الأيام بسبب استضافة المركز ندوة عن قانون النقابات المهنية. يجلس على المنصة متحدثا أحمد سيف الإسلام المحامي الحقوقي المخضرم ومدير المركز، وبين الحضور يتحرك المحامي الشاب أحمد راغب، المدير التنفيذي، يتحاور مع عدد من العمال والناشطين حول توكيلات وتفاصيل قانونية تخص مشاكل.
أحمد سيف الإسلام المولود في أوائل الخمسينات وينتمي إلى جيل السبعينات في السياسة وراغب المولود في نهاية السبعينات وينتمي إلى جيل نهاية التسعينات وبدايات الألفية، يجمعهما أنهما محاميان دخلا إلى مجال العمل في حقوق الإنسان من بوابة السياسة والنشاط مع اليسار المصري. أوجه التشابه بينهما تحمل ملامح ثابتة للمحامي الحقوقي في مصر منذ بداية الحركة الحقوقية في الثمانينات وحتى الآن، وبعض الاختلاف يشير إلى التحولات التي تنتظر مسار هذا التخصص كمجال مهني مرتبط بشكل كبير بحراك اجتماعي وسياسي يشهد لحظات من الفوران.
درس سيف الإسلام، خريج العلوم السياسية، القانون أثناء سجنه بتهمة الانضمام إلى تنظيم سري وفي التسعينات بدأ تطوعه في قضايا حقوق الإنسان مع مركز المساعدة القانونية بجانب عمله في مكتبه الخاص. وفي عام 1996 وأثناء الانتخابات العمالية حدثت زيادة في عدد القضايا التي احتاجت محامين متطوعين. يقول سيف الإسلام:”بجانب عملي الخاص في مكتبي يمكنني أن أتحمل في السنة 5 أو 6 قضايا تطوعية. وعندما شعرت بضرورة العمل على المزيد من القضايا التي لا تخدم الأفراد بل المئات، وتساهم أحيانا في تعديلات قانونية تخدم أجيال لاحقة. فكرت في التحول بشكل كامل للعمل في مركز حقوقي. ذلك النوع من العمل يتطلب قدرا من التفرغ وباحثين وإمكانات مادية مساعدة".
وعبر مركز المساعدة القانونية ثم المشاركة في تأسيس مركز هشام مبارك استمرت مسيرة سيف الإسلام، التي تجاورت فيها روح الالتزام السياسي والخدمة القانونية.
كطالب في الجامعة وناشط بدأت علاقة راغب بالمركز مستفيدا من أنشطته وخدماته ومتدربا فيه. وبعد تخرجه وعمله لفترة في مكاتب محاماة لم يعجبه الحال وشعر أن عمله في مجال حقوق الإنسان يتسق أكثر مع فكرته عن نفسه كناشط أكثر منه موظف.
يقول راغب:"هناك تضحية مادية في المستقبل. فالمحامي الأكبر والأشهر في السوق يتقاضي دخلا أكبر بكثير من محامي حقوق الإنسان بنفس الخبرة. ولكن مقابلها هناك تحقق وإشباع للاهتمام السياسي وروح العمل العام. مؤخرا فقط يمكن أن نقول أن أجور المحامين حديثي التخرج في منظمات حقوق الإنسان توفر دخلا ثابتا أفضل من أقرانهم في مكاتب المحاماة".
يقول أحمد سيف الإسلام أنه شخصيا حسم أمره لأنه لم يعد لديه طموحات مادية ولكنه يريد أن يقوم بعمل يحبه ويتحمس له، ولكن الشباب لديهم التزامات مالية ضرورة في بداية حياتهم ولذلك المحامين الشباب في المركز ومراكز أخرى يعملون أيضا في مكاتب خاصة أو لديهم مكاتب تخصهم.
بعض الشباب يتجهون الآن لطلب التدريب والعمل في منظمات حقوق الإنسان بعد تخرجهم، بدون أن يكونوا من أصحاب النشاط السياسي، ولكن راغب يرى أن الأفق السياسي مهم جدا لمحامي حقوق الإنسان لأن علاقته بالقانون علاقة جدلية يجب أن يكون فيها إبداع، فهو ليس كمحامي السوق مهمته أن يفسر القانون لمصلحة الموكل، بل ينطلق من حق من حقوق الإنسان أو مصالح قطاعات واسعة وربما يسعى لاقتراح قوانين أو تعديل قوانين أو الدفع بعدم دستوريتها.
رغم تبنيهم لقضايا عامة إلا أنه كان على المحامين الحقوقين قبل سنوات الدعوة لمراكزهم بشكل ما أواستغلال شبكات العلاقات السياسية القريبة من أجل تشجيع الناس على التعامل معهم. يحكي سيف الإسلام أن بعض العمال كانوا يحضرون مظروفا به بعض المال ظنا أن المراكز الحقوقية التي لا تتقاضى منهم أتعابا لن تقوم بواجبها جيدا، مثل كل خدمة مجانية يرونها في مصر. ولكنه يرى أن جهد المحامين الحقوقيين وبعض الانتصارات في المحاكم تشجع المزيد على الثقة بهم. أما بعد سنوات الحراك السياسي والدعوة إلى التغيير وازدهار الصحافة الخاصة والتدوين، بدأ المحامون الحقوقيون يحتلون الصفحات الأولى مع الجدل السياسي والدفاع عن الحريات وتبني قضايا التعذيب التي تتحول لقضايا رأي عام. يضيف سيف الإسلام: "أصبح الناس يتصلون بنا ويأتون إلينا، وبينما خطتنا السنوية هي 100 قضية نتولى الآن سنويا ما بين 300 إلى 400 قضية".
يعترف سيف الإسلام أن أهم مشاكل المحامين الحقوقيين هو عدم قدرتهم حتى الان في مواجهة تزايد الاعباء على صياغة برنامج تدريبي لاعداد المحامين الحقوقيين الشباب الأكفاء والأمر يصبح متروكا أمام الاستعداد الشخصي والحماس.
الكفاءة مقابل الحماس، هي أيضا ما يراه راغب تحديا أمام المحامين الحقوقيين. المنظمات القانونية الحقوقية لا تزال تتحمل قضايا أكثر من طاقتها ولا تزال تحاول صياغة شكل مؤسسي منظبط لعملها.
يضيف راغب أيضا أن نظرة المحامين لدورهم يجب أن تتطور، فالروح السياسية الأحادية المعارضة للدولة التي شكلت عمل بعض الأجيال الأكبر في المجال الحقوقي يجب على الأجيال الأحدث أن تتجاوزها لتدرك أكثر أن هناك تنوعات داخل الدولة ويمكن التأثير على قرارها.
في أطروحته التي يعدها لنيل الدكتوراة من جامعة "إسكس" ببريطانيا حول حقوق الإنسان والسياسة في مصر، يتناول عمرو عبد الرحمن مشكلة هوية المحامي الحقوقي، ويرى أن تطور مهنية المحامين الحقوقين في مصر لا تزال في بدابتها وأسيرة النظرة للعمل الحقوقي كبديل وتعويض للفشل أو الركود السياسي، وأن الإحساس بالجانب الأخلاقي في العمل الحقوقي عند الدفاع عن منتهك مثلا لا يزال يعطل كفاءة الجانب المهني في إثبات ذلك، وهو ما تلاحظه بعض الجهات الدولية في العمل الحقوقي المصري. ويضيف أن هناك شخصية منقسمة وعلاقة متوترة بالسياسة بسبب عدم استقرار التقاليد الديمقراطية، بينما في أوروبا مهنية المحامي الحقوقي متشكلة لأن هناك حقوق واضحة مستقرة ومحفوظة ولا جدال عليها يقوم المحامي بتقديم خدمة قانونية مرتبطة بها وليس نضالا من أجلها.
حقوقي إسلامي ؟
الذين عرفوا إسلام لطفي أثناء دراسته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة كان رأيهم أنه ناشط سياسي إسلامي مختلف عن أقرانه من النشطاء الإسلاميين بشكل ملحوظ. بعد تخرجه أقدم إسلام على ما يدل على ذلك واختار العمل في المجال الحقوقي واستمر حتى الآن.
الصورة المعتادة لـ"المحامي الإسلامي" في المجال العام إما أنه يدافع عن الإسلاميين فحسب أو أنه المحامي الذي يرفع دعاوى ضد بعض المنشورات أو الأفلام أو الممارسات التي يراها خارجة عن آداب المجتمع وأعرافه وفي العادة يكون في مواجهة محام حقوقي آخر يدافع عن الحريات.
"صحيح أن عددا قليلا جدا من الإسلاميين يعملون في مجال حقوق الإنسان، لكني لا أرى تناقضا بين توجهي السياسي الإسلامي وبين عملي" يشرح إسلام لطفي فكرته :"أرى أن أفكار ومباديء حقوق الإنسان لا يوجد بينها وبين الإسلام تناقض جذري. حتى تلك التي يبدو أنها مخالفة للدين يمكن أن نجد لها تخريجات أو اجتهادات ما تمكّن الإسلاميين من التعامل معها والتواجد على الساحة الحقوقية".
بعد تخرجه عمل إسلام في برنامج للمساعدة القانونية للاجئين، وهناك واجه بعض المواقف الحرجة. يحكي إسلام أنه في نهاية العام كان يحصل على أعلى تقدير للأداء كموظف ولكنه فعليا كان يعاني من التكيف مع سلوكيات زملائه في محيط العمل، الحفلات والعلاقات بين الشباب والفتيات، مشيرا إلى أن الأوساط الحقوقية يغلب عليها تاريخيا الانتماءات اليسارية والقومية، ثم الليبرالية بعد ذلك. وفي الوقت نفسه تعرض للانتقاد لأنه يصلي في مكان العمل، مما جعل بعض رؤسائه يطلبون منه ألا يقوم بذلك لأن بعض اللاجئين السودانيين هاربين من اضطهاد النظام الإسلامي هناك مما قد يجعلهم يتوجسون عند التعامل معه ظنا أنه "إسلامي”. يضحك إسلام : "وهو ما كان صحيحا!”
الموقف الأكثر تعقيدا كان عندما أخذ لاجيء سوداني يحكي له عن تعرضه لانتهاكات بسبب كونه مثليّ الجنس. يقول إسلام أنه كان لا يزال شابا متحمسا وبينه وبين بعض معطيات الواقع حواجز نفسية، فبكى من هول الموقف والمأزق الأخلاقي، بينما ظن اللاجيء أنه يبكي تعاطفا منه. لجأ إسلام إلى رمز إسلامي يثق برأيه فطمأنه أنه لا حرج من مساعدة اللاجيء المظلوم مهما كان الأمر. يعلق إسلام: "موقفي الآن لا يزال معترضا على المثلية الجنسية كحق يجب الدفاع عنه، ولكن يمكنني أن أدافع عن حق المثليّ في الخصوصية إن مارس ذلك في بيته المغلق عليه ولم يخرج إلى العلن، وأدافع عن حقه في محاكمة عادلة بلا انتهاكات أو إهانة ولكني في هذه الحالة لا أدعو لتغيير القانون المصري الذي أعمل في إطاره ويعتبر ذلك فجورا".
يستدرك إسلام أن مجال حقوق الإنسان أوسع من تلك النقاط الحساسة: ”ولكن للأسف تلك النقاط تشكل حساسية بين جمهور الإسلاميين ومنهم الإخوان المسلمين، خاصة في الريف، وبين فكرة العمل في مجال حقوق الإنسان التي لا تزال تلقى توجسا".
تنقل إسلام بين عدد من الوظائف، ولكن كان أبرزها في مجاله أنه كان المنسق العام والمؤسس الفعلي لمركز "سواسية" لحقوق الإنسان في 2004، والمعروف أنه المركز الحقوقي التابع للإخوان المسلمين ويرأسه محاميهم عبد المنعم عبد المقصود. ولكن لم يستمر إسلام لطفي فيه طويلا لأنه وجد إدارة الإخوان للمركز تحدد أفقه ولا تطوره: " الإخوان تعاملوا معه كأداة سياسية وتوجسوا من تدريب كوادر جديدة لكيلا يستفز ذلك الأمن. بالإضافة أن تعامل الإسلاميين بشكل عام مع حقوق الإنسان يقتصر على المباديء التي لصالحهم دون وعي أن عليهم أن يتعاملوا مع المنظومة كلها بشكل ما".
يعي إسلام لطفي جيدا أن خيار العمل كمحامي حقوقي رغم انتمائه الإسلامي يضعه دائما بين مطرقة التوجس منه بين أوساط غير الإسلاميين وسندان توجس الإسلاميين التقليديين منه، ولكنه حسم أمره ويعتبر أن عمله يجمع بين تخصصه في القانون وشغفه بالسياسة والعمل العام، متفائلا بأن المستقبل يحمل الأفضل.
نشر في جريدة "الشروق" الخميس 1 يوليو 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق